حزم أمتعته، لم ينس بذلته الأنيقة جدا التي اختار أن يضعها في دولاب زوجته، سجائره كانت موضوعة بالفعل في علبة باريسية الصنع، أخذ العلبة كاملة واختار لها الزاوية اليمنى من حقيبته الثمينة. كل شيء مصفف كما حذاء السفير وربطة عنقه، وحسابه البنكي لم يكن أصلا مفتوحا في دولة العبور في الزمن المؤقت أو الطويل حسب إستراتيجية السفير في تدبير شؤونه وشبكة علاقاته المنحصرة في فوائد التدبير التي وشمت علامة النعمة على جبينه وجبين المقربين جدا منه... رحل السفير من محطة العبور بدون أن يودع أحدا، اختار الطريق السهل ، قال لحارس الحدود أنه في إجازة لمدة عشرة أيام، كذب السفير لأنه يعرف جيدا أنه يمارس سياسة الهروب الصغير، من أجل ألا يسمع ضجيج المحترقين من قنابل موجهة إلى صدورهم، لم يسأل السفير إن كان أنين الألم الذي أحدث له تصدعا نابعا من احتراق مغربي أو أجنبي، كان همه غير ذلك، وكعادته كان المغاربة المهاجرون هناك مجرد أرقام، منها المسجلة في دفتر المهاجرين، وأخرى متسللة من أجل البحث عن لقمة عيش فقط. .. هرب السفير.. رحل السفير، لم يكن يود الرحيل قبلا، كان متمسكا بمكانه حد الجنون، وحد البحث في أوراق خارجيتنا عن أساليب التمديد، أزعج أصدقاءه وأعداءه بهذه الرغبة الملحة، قال إنه مقرب جداً من الدوائر العليا، وألا أحد يستطيع أن يزيحه من مكانه، وقال إن البلد الذي عين فيه سفيرا لا أحد يعرف خباياه، وأنه باستطاعته أن يجعل المغرب في مقدمة البلدان في بلد تتكالب فيه دول عظمى على بتروله وذهبه... وقال إن جاليتنا في هذا البلد هم أبناؤه كما سماهم، وخبط خبط عشواء في توهيم بعضهم أنهم أسياد... رحل السفير، هرب السفير، وترك أبناءه كما سماهم هناك يواجهون الظروف القاسية، يسألون عن أبيهم عفواً سفيرهم، لم يجدوا السفير، قالوا لهم السفير رحل، ذهب، تسلل عبر الحدود تحت يافطة إجازة عشرة أيام... رفع هؤلاء شعارهم في ممرات المدينة، الضيقة والواسعة، قالوا نحن مغاربة وهذه بلدنا، وأضافوا نعم بلد لمن لا بلد له، اختلط الشعار بالشعار، والوطن بالوطن، والدم بالدم، والخوف بالخوف، والقصف حطم كل الأحلام، والبيوت البسيطة، والعيون الجاحظة، والقلوب والعقول... وزحف هؤلاء إلى كل الطرقات ليعلنوا أنهم سفراء بلدهم وأنهم المعنيون، ولا يد فوق يد الشعب، والشعب بالشعب يقرر والشعب بالشعب يلتحم، رفعوا أكفهم إلى السماء، يا رب العالمين اجعل هذا البلد آمنا، رمز عزتنا، ومصدر رزقنا وقوت يومنا، أرضه أرضنا وسماؤه سماؤنا، وبحره وماؤه... اللهم تقبل دعواتنا، آمين يارب العالمين... كانوا هناك آلافا، بل مئات الآلاف، والسفير هنا في فضائه البهي، تتابع عيناه سجائر دخانه المتصاعد إلى الفوق ليرسم به محطة عبور أخرى مفروشة بالورود لا بأشواك النضال من أجل مواطنين مغاربة حملوا يوما حقائبهم إلى دولة شقيقة من أجل شاي ورغيف وما تيسر من دريهمات لتأمين الزمن المخيف.... * كاتبة وإعلامية