بقلم : يونس ابلاغ - باحث بجامعة محمد الخامس -الرباط- اعتمد المغرب الحكامة الترابية كطريقة لاتخاذ القرارات وصياغة السياسات العمومية، وتتبعها. وراهن على ورش اللامركزية، وبدرجة أولى على الجهوية المتقدمة. فهناك مبادئ أتى بها الدستور، وقوانين تنظيمية رأت النور، لأجل المرور من جهوية صورية إلى جهوية حقيقية يشعر بها المواطن، محققة بتأهيل النخب، وتبني سياسة فعالة للاتركيز، ثم النهوض بالمرفق العام كما جاء في مضامين دستور 2011. إن موضوع الجهوية المتقدمة هو الإقرار أولا بوضع الدولة سياسة لامركزية واضحة المعالم، تقوم على الارتقاء بالجهة مع تعزيز اللاتمركز الواسع. ولا أعلم مبلغ إطلاع القارئ الكريم على هذه المسألة. وإن لم أخطئ، فإن تطبيقاتها قد بدأت لتوها، وسأحاول تقديم إجابة متواضعة للسؤال بصورة منتظمة. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل جدا أن لا يتيسر لي في المقال الأول عن هذه المسألة المركبة بلوغ الوضوح الكافي والإفهام (لاسيما القانوني) بالنسبة للكثيرين من القراء، لذلك، يجب أن تحاط الإجابة عن سؤال الجهوية المتقدمة بمساهمات متتالية ومنسقة. وقبل الإجابة عن سؤال مسألة الجهة؟ وما هو جوهرها؟ يجب في الحقيقة التساؤل أولا من وجهة نظر قانونية عن: ما هي الجهة من حيث الشكل في علاقتها بباقي المستويات الترابية الأخرى (الجماعات والعمالات والأقاليم)؟ وكيف تبوأت مكانة الصدارة في التنظيم اللامركزي الترابي بعد أن كانت الجماعات (الحضرية والقروية كوحدات لامركزية قاعدية) هي من يشكل فيه قوام كل تنمية مستدامة؟ بعد هذه الملاحظات والأسئلة المقتضبة، انتقل إلى المسألة نفسها، إلى سؤال ما هي الجهوية المتقدمة. ولكي ما نتناول هذا المطلب بالشكل الأقرب إلى العلم، ينبغي أن نلقي على التاريخ ولو نظرة قانونية سريعة، لنرى مكانة الجهة قبل وبعد دستور 2011، وكيف انبثقت من بين باقي الجماعات الترابية الأخرى، لتحتل مكانة الصدارة بينها، وكيف تطورت. لأن الطريقة المأمونة لتناول المسألة بالشكل الصحيح، هو عدم نسيان الصلة التاريخية الأساسية، والمراحل التي اجتازتها هذه الأخيرة وغيرها من المستويات الترابية الأخرى في تطورها، وما آلت إليه في الوقت الحاضر نتيجة تطورها هذا. عرَّف الفصل 135 من دستور 2011 الجماعات الترابية للمملكة بالجهات والعمالات والأقاليم والجماعات. لكن يجب التذكير بأن التنظيم اللامركزي الترابي في المغرب، يرجع في أول الأمر لمستوى الجماعات الحضرية والقروية، كوحدات ترابية قاعدية إثر صدور ظهير 23 يونيو 1960، في الوقت الذي لم تكن فيه لا جهات ولا عمالات وأقاليم. وهو النص الذي أدخلت عليه إصلاحات عميقة بتاريخ 30 شتنبر 1976، أهمها منح رئيس مجلس الجماعة اختصاص ممارسة الشرطة الإدارية في مجلات عدة أهمها التعمير. ووعيا من المشرع بأهمية الحكامة الترابية لأجل تنمية مستدامة، تم العمل سنة 2002 على توسيع اختصاصات الجماعات الحضرية والقروية (علما أن هذا التصنيف حضري-قروي تم تجاوزه في دستور 2011) وفقا لمقتضيات القانون رقم 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي، والتي جعلت من الجماعات بشكل جريء، على عكس القوانين السابقة القوام الرئيسي للتنمية، بعد أن تخلت الدولة عن مجموعة من الاختصاصات لها، تاركة لها مجال تأدية الدور التوجيهي والقيادي في تدبير الشأن العام المحلي، وكذا في صياغة سياسات ترابية تجيب عن إشكالات التنمية المحلية. كما تتضمن مجموعة من المقتضيات التي فصلت في اختصاصات المجلس، ووضحتها أكثر، فضلا عن تدعيم اختصاص رئيس المجلس، وهي المقتضيات القانونية التي تم العمل على تتميمها سنة 2009 بالقانون رقم 17.08. أما العمالات والأقاليم كجماعات ترابية (ينبغي التمييز بين العمالة أو الإقليم كجماعة ترابية والعمالة أو الإقليم كإدارة غير ممركزة لوزارة الداخلية) فتم إصدار أول نص بشأنها بظهير 12 شتنبر 1963 الذي اعترف بالعمالات والأقاليم كجماعات محلية إلى جانب الجماعات الحضرية والقروية، وهو النص الذي ظل ساري به العمل، إلى أن تم تغيير مقتضياته سنة 2002 بالقانون رقم 79.00 الذي عدل النص السابق بتفصيله في اختصاصات مجلس العمالة والإقليم ورئيسه. أما الجهات كجماعات ترابية فلم يتم الاهتمام بها إلا في حقبة زمنية متأخرة نسبيا، إثر إحداث الجهات الاقتصادية السبع سنة 1971، لتأخذ بعد ذلك مكانة دستورية سنة 1992 بعد أن أضاف الفصل 94 من الدستور آنذاك للعمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية وحدة محلية أخرى، وهي الجهة، الفصل 94 من الدستور المذكور: "الجماعات المحلية بالمملكة هي الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات الحضرية والقروية ، ولا يمكن إحداث أي جماعة محلية أخرى إلا بقانون. ". وهي التصنيفات والتسميات المتمسك بها في التعديل الدستوري لسنة 1996، ليلي ذلك مباشرة سنة 1997 إصدار القانون رقم 47.96 المنظم للجهات كجماعة محلية. ورغبة من السلطات العمومية في تطوير سياسة اللامركزية، ورسم سياسة واضحة بشأنها، وتبعا للتعديل الدستوري سنة 2011 والمقتضيات الواردة في الباب التاسع منه؛ عرفت اللامركزية الترابية تحولات جد مهمة، ابتدأت باهتمام عميق للمشرع الدستوري، بعد أن جعل من الجهة في مكانة الصدارة بين باقي الجماعات الترابية الأخرى، وبالنتيجة تراكم صدور النصوص التشريعية كميا، ورأت النور مجموعة من النصوص القانونية والتنظيمية المحددة لمجالات تطبيق الجهوية المتقدمة، لتكلل القفزة النوعية بانتداب 4 شتنبر 2015 المتعلق بانتخاب مجالس الجماعات الترابية: - جعل الفصل 143 من الدستور الجهة تتبوأ مكانة الصدارة في التنظيم اللامركزي الترابي: "...تتبوأ الجهة، تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية،...؛ - تضمين الباب التاسع من الدستور المذكور لمجموعة من المبادئ والوسائل التي أصبحت تتمتع بها الجماعات الترابية ليتسنى لها الإسهام في تفعيل السياسات العمومية للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية (فضلا عن ما نص عليه الفصل 137 هناك مبادئ أخرى كالتفريع، التضامن، الشراكة، التدبير الحر... ؛ - صدور القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب مجالس الجماعات الترابية، كما تم تعديله وتتميه بالقانون التنظيمي رقم 34.15 سنة 2015؛ - صدور القانون رقم 131.12 المتعلق بمبادئ تحديد الدوائر الترابية للجماعات الترابية؛ - صدور المرسوم رقم 2.15.40 المتعلق بالتقطيع الجهوي الجديد؛ - صدور القوانين التنظيمية المتعلقة باختصاص الجماعات الترابية: القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق باختصاصات الجهة، ثم القانون التنظيمي رقم 112.14 المتعلق باختصاصات العمالات والأقاليم، ثم القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق باختصاصات الجماعات؛ - 4 شتنبر 2015 إجراء أول انتخابات لمجالس الجماعات الترابية في ضوء تجربة الجهوية المتقدمة. تقود هذه الشروحات إلى إمكانية تصور بلورة سياسات عمومية من طرف الجماعات الترابية، وتكوين جماعة ترابية قائدة للتنمية (chef de file) الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والبيئية، مع تحقيق تنظيم لامركزي تتبوأه الجهة ويقوم على الجهوية المتقدمة كما أرادها المشرع في ضوء المستجدات القانونية المشار إليها آنفا. وهذا ما يتعلق بظاهر الأمور، ويوحي أن المسألة غاية في البساطة والسهولة في الاستيعاب. لكن باطنها يوحي بواحد من الأسئلة الشائكة المرافقة لسياسة المغرب الجهوي، لأن الأخذ بهذه المقدمات، هو الاقتناع باعتماد ونهج الدولة لسياسة جهوية واضحة المعالم، محدثة لقطيعة مع المقاربة المتحكمة في العمل اللامركزي بالمغرب. وهو ما سنحاول الإجابة عليه لاحقا، من خلال المقالات القادمة.