لا أعرف أبدا لماذا لم يستطع المغرب التغلب على آفة الرشوة والفساد الإداري، وكأن الرشوة وحش خرافي له عدة رؤوس وكلما قطعوا له رأسا تضاعفت رؤوس الوحش. منذ الاستقلال ومحاولات التغلب على الفساد الإداري تتكرر وتأخذ مختلف الأشكال والأبعاد، فقد حوكم وزراء كثيرون في بداية السبعينات، والتاريخ يذكر أنه في شهر رمضان الموافق لشهر مارس 1971 تتبع المغاربة فصول مسلسل قضائي مثير لمحاكمة شخصيات سامية اتهمت بالفساد بالرغم من موقعها السامي ومكانتها العليا لدى مخزن الأمس. هؤلاء الوزراء تم تغييرهم مباشرة بعد انطلاق المحاكمة، وبعد ستة أشهر من هذا التاريخ، أي يوم فاتح نونبر 1971تم إيداعهم في السجن ، وهم وزير المالية ووزير التجارة والصناعة ووزير السياحة ووزير التعليم العالي ووزير الأشغال العمومية وغيرهم من كبار الكتاب العامين والمديرين والمسؤولين. وكيفما كان الحال ورغم الأحكام التي صدرت في ملف من اشهر الملفات في تاريخ محاكمة الفساد والفاسدين فقد ظلت الرشوة تختال بين دواليب الإدارات ومكاتبها، وتشتم رائحتها من بعيد من خلال العديد من صفقاتها واتفاقيتها. ورغم الملفات التي طالت مسؤولين آخرين في عهد الملك محمد السادس في قضايا تهم بدورها سوء التسيير والفساد،وهم بدورهم كانوا عمالا ومسؤولين سياسيين وإداريين ، ورغم الحملات التي يعلن عنها بين الفينة والأخرى والتي تشمل دركيين ورجال سلطة ، يتم إبعاد بعضهم ومحاكمة البعض الآخر، فإن الآفة تزداد انتشارا كأنها نار تلتهب الهشيم. والحقيقة أنه كلما عين وزير أول في المغرب أو وزير للعدل إلا وجد أمامه واقعا يعرفه بشكل كبير، ولا يجد مفرا من الحديث فيه والوعد والتوعد، وكذلك كان حال جميع من عقلت أو لم أعقل ، وكذلك قال إدريس جطو يوم كان وزيرا أول واجتمع مع جمعية ترانسبرانسي، وتحدث مع مسؤوليها عن استراتيجية محاربت الرشوة والفساد، وعن مشروع إنشاء الهيئة المركزية لمحاربة الرشوة ، وكذلك قال الراحل محمد بوزوبع وزير العدل الأسبق حين أعلن أن الحكومة استطاعت تحجيم الرشوة الكبرى وأنها ستسير في اتجاه تحكيم باقي أنواع الرشاوي. لكن الرشوة من جهتها كانت تحشد جهودها وتضع خططها للدخول عبر نوافذ أخرى، ولتلج مراكز جديدة، فجاءت التقارير الدولية لتخبرنا من جديد أننا انتقلنا من صف 72 إلى مرتبة الثمانين بعد أن كان المغرب قد ربح عدة نقاط في السابق، وخرج وزير الاتصال الحالي ليعلن أن هذا التراجع يشكل عنصر إزعاج بالنسبة للحكومة وأنه "عار بكل بما في الكلمة من معنى" وأوضح الناصري أن السبب يرجع إلى "بعض التراخي"، مؤكدا أن المتابعة اليومية قائمة، لكنها تحتاج إلى نفس جديد، وإلى الرفع من وتيرة محاربة الرشوة، بوضع مزيد من الإجراءات الرادعة، وتخليق الحياة العامة في المؤسسات العمومية، وفي كل مناحي الحياة الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. ولم تمر إلا سنة واحدة أخرى حتى أعلن أن المغرب أصبح في المرتبة 89 وهو الذي كان في يوم من أيام 1999 يحتل المرتبة 45 ليضاعف مركزه في عشر سنوات فقط إلى الحضيض، خاصة أن دولا أخرى تحسنت مؤشراتها وهي ليست أبدا بأحسن أداء اقتصادي واجتماعي منا. وسارع المغرب في يوم من الأيام ليستجيب للمنتظم الدولي ويصادق ضمن تسعين دولة على اتفاقية تعنى بمحاربة الرشوة وهي اتفاقية تتطلب اولا تقديم الأدوات الواقعية الكفيلة بالمساعدة على حل هذه الإشكالية. واليوم يعلن من جديد عن عدة إجراءات قطاعية للتخفيف من هذه الآفة والحد من انتشارها، وهي تصب في اتجاه تفعيل القوانين وتنظيم الحملات التحسيسية للمواطنين وتقوية المراقبة الداخلية بالإدارات العمومية، والحق في الوصول إلى المعلومة وحماية الشهود والمبلغين عن أفعال الارتشاء. كما يتضمن البرنامج، إجراءات قطاعية سيتم اتخاذها على مستوى مختلف المرافق الحكومية في نطاق برامج قطاعية تخص كل وزارة إضافة إلى إعداد ميثاق وطني للوقاية من الرشوة ومحاربتها. كل هذه الجهود والشهور والسنين تبذل وتمر في مواجهة شئ ما اسمه الرشوة، فهل هذا الشئ وهم؟ أم أن محاربته هي الوهم؟؟؟ لا أعرف، وبذاك بدأت هذه السطور...