* باريس.. بقلم // أحمد الميداوي يتجه معهد العالم العربي بباريس إلى تقليص بعض نشاطاته وتسريح عدد من موظفيه بسبب مشاكل مالية يعاني منها. وقد التزمت إدارة المعهد أمام وزارة الخارجية الفرنسية، مقابل مساهمة هذه الأخيرة بثلثي ميزانية المعهد وسد العجز في ميزانيته لهذا العام بتسريح عدد من الموظفين وتقليل النفقات والتخلي عن بعض النشاطات، مما قد ينجم عنه تراجع غير مسبوق في وظيفة هذا الصرح الثقافي الذي يقبع في قلب باريس مطلاً على كاتدرائية نوتردام وحيث يغسل نهر السين قدميه. وتسعى الخارجية الفرنسية إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل سد عجز موازنة هذه السنة وتمكين المعهد من مزاولة المهمة التي أنشئ من أجلها قبل ربع قرن. ويعاني المعهد من آفتين ماليتين: العجز في الميزانية العادية، ومرد جانب منه إلى الاتفاق الذي سبق أن توصل إليه المعهد مع البلدان العربية والذي بموجبه قامت غالبيتها بتسديد المتأخرات المتوجبة عليها مقابل إعفائها من المساهمات المستقبلية في الميزانية. ويتمثل العجز الثاني في نقص الأموال للقيام بأعمال الصيانة الضرورية للمبنى. وسبق لمديرية الصيانة بباريس أن وجهت رسالة إلى إدارة المعهد تطالبه بإجراء مجموعة من أعمال الصيانة ليتوافق المبنى مع معايير السلامة المتبعة في هذا النوع من المؤسسات. ويخشى الكثيرون من أن يكلل المعهد احتفالاته بذكراه الخامسة والعشرين، بتوقيع شهادة وفاته بعد أن قررت البلدان العربية في استقالة شبه جماعية، مقاطعة الشأن الثقافي العربي بحمولاته الحضارية وتأثيراته المختلفة، من خلال توقفها عن تسديد المستحقات التي بذمتها والبالغة إلى حدود متم 2016 نحو سبعة ملايين أورو. ميزانية المعهد السنوية لا تزيد عن 20 مليون أورو، يؤمن المعهد ثلثيها من الخارجية الفرنسية (12 مليون أورو)، وبعضها من مداخيله الخاصة التي تؤمّنها المعارض والتظاهرات الكبرى، وأيضا من عائدات المؤسسات المتبرعة. ولا تسهم الدول العربية مجتمعة سوى بعشرة في المئة. وهناك من الدول ومن بينها العراق وسوريا وليبيا ولبنان ومصر من توقفت عن تسديد مستحقاتها منذ ما يزيد عن عشر سنوات.. ولسدّ العجز في ميزانيته هذا العام، قررت إدارة المعهد، بعد أن أبلغتها وزارة الخارجية بنيّتها خفض الميزانية المخصصة للمعهد بنسبة 20 في المئة، تسريح عدد من الموظفين والتخلي عن بعض النشاطات، مما قد ينجم عنه تراجع كبير في وظيفة هذا الصرح الثقافي العربي. ويسعى المعهد مع ذلك إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أجل الاستمرار في مزاولة المهمة التي أنشئ من أجلها سنة 1988، وذلك بدعوة الكثير من الدول العربية إلى تسديد مستحقاتها البالغة أزيد من عشرة ملايين أورو. ويمكن القول إن المعهد هو ضحية نجاحه بشكل من الأشكال حيث ينتصب كفضاء ثقافي غني يتتبع فيه الجمهور، من خلال أنشطة مختلفة، ولا سيما « خميس المعهد » و »المقهى الأدبي »، كل جديد في عالم الثقافة و الإبداع، عبر لقاءات أسبوعية ترصد الحركة الثقافية العربية وقدرتها على إثبات الذات والانصهار في ما اصطلح على تسميته بالعولمة الثقافية. وعلى امتداد فصول السنة، يقدم المعهد كما هاما من المعارض التشكيلية والمهرجانات السينمائية والشعرية والموسيقية ومعارض للتصوير الفوتوغرافي والخط والرسم، فضلا عن ملتقيات فكرية وأدبية ومحطات تأملية في بعض الأسماء العربية البارزة في مجال الشعر والرواية والمسرح . وبفضل علاقاته المتميزة بالمتاحف العربية و الدولية، أقام المعهد منذ تأسيسه سنة 1988 عددا من المعارض التي قدمت التراث العربي في تنوعه وغناه، وانتقلت به من باريس إلى عواصم ومدن أخرى في أوربا وحتى أمريكا. وقد أهلته هذه التجربة إلى اكتساب مهارة حقيقية في مجال تنظيم المعارض التراثية الكبيرة التي يتجاوز عدد زائريها مئات الآلاف حيث تمكن المعهد من استقبال مليوني زائر ففي العامثقافية الرئيسية في العاصمة الفرنسية. ولم يعد أحد من رواد المعهد، عربا كانوا أم أجانب، يستبعد اليوم إغلاقه بسبب عدم وفاء الدول العربية منذ سنوات بالتزاماتها المالية، واستقالتها من مسئولياتها الثقافية لتبصم عها جديدا يتحول فيه المعهد من منبر عربي للمعرفة والتثقيف إلى فضاء أوربي أو متوسطي، بعد الأخبار الرائجة حاليا عن احتمال تحوله إلى مقر للاتحاد الأورو متوسطي. قد نتفهم شح دول الخليج المسكونة أكثر بعروبة الجزيرة العربية، والحريصة على أن تسلم الثقافة العربية من شوائب الامتزاج، كما يروج لذلك بعض مبدعيها، وقد نتفهم أن يكون هؤلاء بنفطهم وغازهم على هذا القدر من الشح الي ينم عن ضعف الاهتمام بالإرث الثقافي العربي وما أثبته من قدرات على الانصهار قي بوتقة الفكر الإنساني، لكن الأمر يختلف بمنطقة المغرب العربي ومنطقة الشام ومصر التي نهلت ثقافتها على امتداد أجيال من الحمولة الفرنسية إلى حد الانصهار بل أحيانا الذوبان في الأجناس الفرنكفونية المختلفة. أضف إلى ذلك حضور جالية قوية دائمة البحث بفرنسا عن صنع ذاتها ضمن معادلة الاندماج والهوية. وإلى حين أن يدرك المسئولون العرب، خليجيون، شاميون، شرق أوسطيون أو مغاربيون، قبل فوات الأوان، رسالة هذه المؤسسة وبعدها الثقافي، وأن يضعوا جزءا صغيرا من المصاريف المخصصة للحفلات والولائم، رهن إشارة الثقافة، تبقى الخيارات المطروحة حتى الآن نسجا على منوال الأزمة التي يعيشها المعهد، وتبقى كرة الشرود الثقافي، في الميدان العربي.