لم الجدال والنزاع والقتال واستعمال وسائل الدمار وأساليب النفاق والخداع بين الأفراد والمجتمعات والشعوب لأسباب واهية تافهة زائلة، مثل لون البشرة والعرق والملة والدين؟ هل هي أسباب حقيقية لاستعمال نيران الافتتان؟ وإيقاد نار الحروب المهولة؟ ونشر الدمار في الديار؟ أم هي لأغراض أخفاها البعض في صدره من نيل الجاه والسلطة؟. لقد مرت الإنسانية بعصر الطفولة ثم بعصر الشباب، وها هي الآن على أبواب عصر النضج، الذي سوف يتسم بنبذ الحروب وتأهيل البناء والتعمير، وسينكر قهر الأفراد والشعوب ويحبذ تحقيق العدل والمساواة، وتكريم بني الإنسان بتوفير العيش الكريم من تعليم وشغل ومسكن ورعاية اجتماعية وثقافية وصحية. ولن يحقق هذا إلا بأساليب سلمية ومواقف تنويرية، ودعوة إلى توحيد الشعوب والملل، والنظر بعين الإنصاف والعدل لكل الأمم، حتى ينصهر الكل في كيان واحد وتصبح الأرض موطنا للجميع، ومآلا لبني البشر.. هل العمل من أجل هذا الهدف أمر مقدوح أم ممدوح؟. ربما قال أحدهم كلام مليح ولسان فصيح على وجه مليح، ولكن لا جدوى في ذلك للإصلاح وتقويم دعائم السلام، وإرساء ركائز الأمان، فلا بد أن تسفك الدماء وتخرب الديار وتنوح الأرامل، ويعلو بكاء الأمهات على أفلاذ أكبادهن، وتمطر السماء وبالا من النيران المدمرة، وتنتشر الأسلحة النارية المحرقة، وتخرج الشعوب في الشوارع داعية إلى الثورة العارمة، ويرتفع صوت التفرقة بين الأحزاب السياسية والاتجاهات الفكرية، ويتشتت شمل الدوائر الحاكمة، فيصبح أسفلها أعلاها، وأقصاها أدناها، وأضعفها أقواها، وأقلها أكثرها، والمحكوم حاكمها؛ عند ذلك فقط يتحقق السلام والعدل والأمان، فكأن الشعوب لا بد لها أن تعمد بنيران الحروب والهلاك لتصل إلى شاطئ الاستقرار والهناء. هذا هو مفهوم السلطة والقوة الذي تأسس في القرون الخالية والعقود الماضية، فنهجه اليونان واستعمله الرومان، وتمسك به المعاصرون من المفكرين، وتشبث به الحكام وأصحاب القرار في العصر الأخير، والكل على علم بالعواقب الوخيمة والحروب المهولة التي عاشتها الإنسانية في قرنها العشرين ولازالت تعاني من ويلاتها في قرنها الواحد والعشرين. إن الحقيقة واحدة، أما مفاهيمها فكثيرة متعددة لامتناهية، يتجلى للإنسان قدر منها حسب الزمان والمكان، فهي في تكشف مستمر حسب قدرات بني الإنسان، فيصبح المفهوم السابق للحقيقة متلاشيا مضمحلا أمام المفهوم الحالي المعاصر، الذي يتلاءم مع تطورات المجتمعات وتقدم الحضارات؛ فالعبودية مثلا كانت أمرا مسلما بديهيا، لا يمكن لأحد دحضه أو حتى التفكير في معارضته، أو التنقيص منه أو النيل من مكانته في شتى المجتمعات، ولكن منذ قرن ونيف أصبح أمرا منكرا تقشعر له الأبدان، وتنبذه العقول والأذهان، وينظر إليه باشمئزاز وتحقير، ويتساءل المرء كيف قبلت المجتمعات المختلفة عبودية البشر، وتسويقهم كبضاعة رخيصة، واستعمالهم كأدوات واهية خالية مجردة من الفكر والإحساسات والروح؟. ولكن هذا هو المفهوم المعاصر يختلف عن المفهوم السابق، فيمكننا إذا أن نسوق عليه مفهوم السلطة، بحيث ننظر إليها الآن كمسؤولية عظيمة ملقاة على عاتق ولاة الأمور، يتناولونها لتدبير أمور الجمهور، بالمشورة والعدالة وإرجاع الحق للمقهور، وحماية العموم، والنظر إلى خير ورفاهية جميع الشعوب بغض النظر عن الفوارق والحدود، فيصبح البشر شعبا واحدا يسكنون أرضا واحدة.