المغرب وإسبانيا يُعززان تعاونهما القضائي عبر مذكرة تفاهم جديدة            2024 أكثر الأعوام حرارة في العالم العربي ومؤشرات الإنذار تتزايد        بورصة البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع        المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية يشيد بجهود لجنة القدس برئاسة الملك محمد السادس في دعم القضية الفلسطينية        المجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج يجدد التأكيد على مغربية الصحراء ويرحب بقرار مجلس الأمن 2797    "بلاناس" يشيد بروابط الجوار مع المغرب    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة        مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    تعزيز التعاون المائي محور مباحثات مغربية–صينية في المؤتمر العالمي التاسع عشر للمياه بمراكش    ‬ بميزانية ‬100 ‬مليون ‬درهم ‬قيوح ‬يطلق ‬برنامجاً ‬لوجستياً ‬واعداً..‬    كورتوا: محظوظ لأن مبابي يلعب معي وليس ضدي    "فيفا" يعلن عن منع الزمالك من التعاقدات لثلاث فترات    قرار قضائي يهزّ جامعة الكراطي... والصباري يعيد الاعتبار لجهات الجنوب    قضية بشرى كربوبي تتفجر.. الحكمة الدولية تقاضي مسؤولا بعصبة سوس ماسة بالتشهير    قافلة نحتافلوا كاملين تحط الرحال ببرشيد    ماكرون قلق بعد سجن صحافي بالجزائر    تقرير يكشف ضغط ترامب على نتنياهو بشأن غزة وسوريا    أستراليا تحظر المراهقين دون 16 سنة من استخدام شبكات التواصل الاجتماعي    البنك الإفريقي للتنمية يمنح ضمانة 450 مليون أورو لدعم "الاستثمار الأخضر" ل"أو سي بي"    "حبيبتي الدولة".. من تكون؟!: في زمن التشظي وغياب اليقين    "قمة دول الخليج" تشيد بجهود الملك    الشيخي القيادي ب"العدالة والتنمية" يوجّه رسالة شديدة اللهجة لوهبي ويتهمه ب"الإساءة للبرلمان وانحدار الخطاب السياسي"    مشاهير عالميون يطالبون إسرائيل بإطلاق سراح القيادي الفلسطيني البارز مروان البرغوثي    إصابتان في معسكر "المنتخب الوطني" بقطر..    وقفة احتجاجية في المحمدية للتنديد بانتهاك إسرائيل لاتفاق وقف النار بغزة    خط مباشر بين البيضاء ولوس أنجلوس    المديرية الإقليمية للعدل بالحسيمة تنظم حفلا لتوشيح موظفين بأوسمة ملكية شريفة    الجامعة الحرة للتعليم تطالب برادة بتسوية مستحقات مفتشي الشؤون المالية وتزويدهم بالحواسب المحمولة    رصاصة تحذيرية توقف أربعيني أحدث فوضى قرب مؤسسة تعليمية باليوسفية        التشريع على المقاس... حينما تتحول الأغلبية الحكومية إلى أداة طيعة في يد اللوبيات    الصين: مدينة ايوو تسجل رقما قياسيا في حجم التجارة يتجاوز 99 مليار دولار    من مدريد.. أخنوش يطرح رؤية طموحة للربط بين إفريقيا وأوروبا عبر بوابة المغرب وإسبانيا    دراسة: الرياضة تخفف أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه    من الكروج إلى داحا.. أربعة عمال تعاقبوا ومحطة الطرقية الجديدة ما تزال مغلقة    طنجة تكبر في الصور... وتتراجع في الواقع: عمدة يطارد الأضواء ومدينة تبحث عمّن يدبّرها    الشرفي يلقي خطاب عضوية "أكاديمية المملكة" ويرصد "غزو علمنة المجتمع"    المدينة الحمراء : من جامع الفنا إلى قصر المؤتمرات .. ألف عام من الفرجة!    شكري في ذكرىَ رحيله.. وعزلة بُول بَاولز في طنجة وآخرين    "تبّان كقناع".. ظهور غريب لعمر لطفي في مراكش يثير جدلا واسعا    التعب أثناء السياقة يضاهي تأثير تناول الكحول        يسرا : فخري الأكبر هو الرصيد الفني الذي ستتناقله الأجيال القادمة    مهرجان مراكش يكرم راوية ويمنحها "النجمة الذهبية" اعترافا بمسار حافل    نصائح صحية: هذه الأغذية تهددك ب"النقرس"!    "الصحة العالمية" توصي بأدوية "جي إل بي-1" لمكافحة السمنة    التهراوي : انخفاض حالات الإصابة الجديدة بالسيدا خلال السنوات العشر الأخيرة    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    الأوقاف تكشف عن آجال التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميشيل مافيزولي يقدم الترجمة العربية لكتابه
نشر في الأحداث المغربية يوم 19 - 07 - 2013


«عود على بدء: الأشكال الأساسية لما بعد الحداثة»
في هذا العصر، عصر صفحات المنوعات بامتياز، لا بأس من التذكير بأن الراهن والمستجد لا معنى لهما إلا في علاقتهما الوثيقة باليومي. ولا راهن قابل للإدراك إن لم يصغ الباحثون في الإنسانيات جيدا إلى اللحظات التدشينية والتأسيسية، أي لما له قدرة على التدشين والتأسيس. إذ يتعذر تمثل انسياب نهر دون ربطه بمنبعه. بالمثل، فمن أوجب الواجبات علينا، معشر الباحثين في الاجتماعي، وضع اليد على الجذور الأولى للتحولات الاجتماعية الحادثة على مرآى منا ومسمع، وبلا اكتراث يذكر، بهذا الكم الهائل من الترهات التي لها طعم المستملحات، والتي لايني من يعتبرون أنفسهم متخصصين حصريين في الاجتماعي يقترفونها، هؤلاء الذين حولوا الاجتماعي إلى تخصصهم الانفرادي.
إن هذا الإصغاء، الإصغاء المرهف للحظات التدشينية في المجتمع، هو شرط قيام وتبلور تفكير جذري لا يكترث للألاعيب اللغوية التي تقضي نخب تائهة وشاردة سواد وقتها في إنتاجها.كما أن هذا الشرط اللازب هو الذي سعيت جاهدا إلى إبرازه، منذ أكثر من ثلاثة عقود، في كل مؤلفاتي وحاولت تكثيفه وتركيزه في الكتاب بين يديك.
لاحظ مونتاني باستغراب كيف «أن الناس درجوا على التوجه نحو المستقبل بأفواه فاغرة»، متناسين في غمرة ذلك، ما يختزنه الماضي والحاضر من أهمية نوعية. لقد بات في حكم المؤكد أن أسطورة التقدم هي الداء العضال الملازم للجنس البشري، أسطورة هي أشبه ما تكون بعلبة باندورة(1) تحتوي بداخلها على كل الأوهام الحبلى بالمخاطر، مخاطر جادة وحقيقية تتهدد الإنسان في وجوده وتوازنه، إن لم يبادر إلى التخفيف من غلوائها، وهو ما لن يتحقق إلا إذا وازنها بحكمة التقليد. والفرصة سانحة لأؤكد بأنني دشنت مساري الفكري بتحليل نقدي ل «فكرة التقدم والخدمة العمومية»، وهو ما سيتأكد منه القارئ المهتم من خلال مراجعته لهذه الصفحات(2) التي بينت فيها ما تنطوي عليها النزعة التقدمية من نوازع تدميرية. وبالمقابل، تحدثت بدلا عنها عما أسميته «تدرجية» قائمة على أس التجذر الدينامي، الأقدر على مساعدتنا على فهم واستيعاب الحاضر، وما نعيشه هنا والآن. غير أن هذا المعطى، وعلى بساطته وشدة بداهته، يصر «التقدميون» من مختلف ألوان الطيف على تجاهله ورفضه بعناد ومكابرة. وهذا خلافا لنمط التفكير الاختباري/الإمبيريقي الذي يحتكم في النهاية إلى «عالم الأعيان»لا إلى «عالم الأذهان»، التفكير الذي يجعل من الحس السليم قوامه ونسغه، والذي من طينته عجنت الحكمة الشعبية العريقة. فهذا التفكير، الذي هي ذي خصائصه، لا يجد غضاضة في إدراك هذا المعطى الأساسي، والاعتراف به، معطى مؤداه في عبارة موجزة أن ما سيشهد النور، ما هو آت في عصر من العصور، سبق له أن نضج على مهل في العصر السابق على ولادته.
وعلى شاكلة الإله يانوس ذي الوجهين: واحد متجه إلى الأمام وآخر إلى الخلف، فإن هذا التفكير الذي ننحاز إليه، يتحلى بما يكفي من الصفاء الذهني الذي يقيه من سطوة الأوهام. فهو بقدر ما يتفحص بدقة العالم الذي هو بصدد الانتهاء، بقدر ما يتدبر السمات المائزة لعالم آخر هو بصدد الولادة والتشكل. فلنضرب صفحا عن اللغة المتخشبة لمثقفينا المداهنين والامتثاليين، والتي باتت تتخذ شكل تعزيمات ممجوجة، ولنقرر حقيقة بسيطة من السجل الخيميائي، تقول: الموت شرط الولادة. إنها حقيقة سرمدية ودائمة الراهنية. أكثر من ذلك، إنها الضمانة الأولى للكشف عن النوى الأصلية التي تنتصب تدريجيا في هيئة نماذج ذهنية ومسلكية عابرة للأزمنة والأمكنة، والعصية على كل محاولات التجاوز والتقويض.
تأسيسا على ما سبق، وضدا على كل هذه النزوعات الامتثالية المحيطة بنا من كل جانب، فإننا لن نتعب من التذكير بأن المستجد النوعي اليوم هو ما بعد الحداثة. ما بعد الحداثة بصفتها تحيينا مستمرا واستثمارا موصولا للخصائص الأساسية لِما قبلها. ولعل أهمها، بل وفي القلب منها، النزوع البشري المتأصل إلى الترحل، والتماهي مع الأواصر القَبَلية، والإقبال العارم على المتع. وما عاد سرا أن هذه الخصائص نفسها هي التي تنبعث من جديد، بنسب متفاوتة من العنفوان، في الحياة المعاصرة. وبما أن الأنتلجنسيا تتهيب من مواجهة هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، فإنها تعبر عنها، مضطرة، بأساليب ملتوية ومداورة، من خلال حديثها المتواتر عن حداثة مفرطة أو حداثة مهتاجة أو فائضة، وغيرها من التوريات التي تتوهم بأنها قادرة على تمديد/تمطيط العمر الافتراضي لعالم بات مهجورا ومحتضرا للحيلولة دون سقوطه، أو على الأقل إرجاء هذا السقوط المحتوم !
فاللاشعور الجمعي ما عاد يتعرف على نفسه في مرآة القيم المركزية التي تشكل منها العالم الحديث، كما أن دورة تاريخية انطلقت في القرن التاسع عشر، اكتملت وانتهت. هذا في الوقت الذي ما زال فيه الكثيرون من المحسوبين على الفكر والثقافة يتلمسون الطريق السالكة نحو الاعتراف بذلك والإقرار به !
على مدار التاريخ، تعاقبت على تاريخ الفكر، والتاريخ إجمالا، فترات من السبات الطويل وأخرى من يقظة تتفاوت نسبها ومددها. أما اليوم ،فنعيش أطوار لحظة مفصلية تشهد فيها الأُنسية القاعدية(3) انتعاشة غير مسبوقة لا غبار عليها. هذا في الوقت الذي طفق فيه المثقفون يتململون بالكاد، وبعنت بالغ يستيقظون من سباتهم الدوغمائي. سبات هو، في آن، سبب ونتيجة لإحساسهم الضاغط بالضغينة، الذي هو من السمات المميزة للنخب المعاصرة والمستشري فيها.
فالتمركز المفرط لسدنة «الرأي المنشور»(4) حول ذواتهم، يحول بينهم ورصد الحركات الجوفية البركانية التي تهز الجسم الاجتماعي من أعماقه، حتى أنها تخترق، من حين لآخر، «القشرة الأرضية». وشرط اكتسابهم قدرة الرصد هذه سوف يتحقق بدء بتخلصهم من يقينياتهم، وإيلاء « الواقعي» ما هو جدير به من اهتمام، أو بالعبارة المجازية لأفلاطون، فشرط ذلك هو « عودتهم إلى قلب المحارة». إنهم مطالبون اليوم قبل الغد بالقيام بثورة في النظر، لا بل في زاوية النظر إلى الأشياء تمكنهم من ضبط الحيز الذي تتفاعل فيه الكلمات والأشياء والمسلكيات تفاعلات مواتية.
فالمحسوبون اليوم على المعرفة والفكر، مطالبون بتدقيق النظر في العالم، والتجاوب البعدي معه. العالم كما هو في واقع الحال لا المصنوع على مقاس متمنياتهم، وفي الآخرين كما هم أيضا لا كما ينبغي أن يكونوا قسرا. فهم مطالبون بذلك أكثر مما هم مدعوون إلى إصدار أحكامهم على العالم والناس تستفرد بما تراه إنصافا وعدلا.
أتيت قبلا على ذكر الإله الأسطوري يانوس إله الأبواب والبوابات والعتبات، الإله الذي يزاوج بين النظر إلى الخلف والنظر إلى الأمام، وكان ذلك مقصودا مني. فالثالوث الزمني الذي يضم الماضي الحاضر والمستقبل، يشهد اليوم حركة ذهاب وإياب متواصلة بين أضلاعه. حركة ألهمت ذات يوم ليون بوي، فجعلته ينطق بالآتي: كل من عليها رائع، وأضاف: إن النبي هو ذلك الشخص الذي يستحضر/ يستقدم المستقبل !
إن تثمين الحاضر/ الآني بصفته كفيلا وضامنا للمستقبل، لِما- يُستقبل، رهين بهذا الاستحضار المتواصل لكل ما هو متجذر هنا والآن. فالأمر أمر تفاعل لا يتوقف بين فعل و رد فعل متلازمين ومتشارطين على حد تعبير إدغار موران، لافتا الانتباه في هذا السياق إلى حقيقة بسيطة جدا مؤداها: العالم جُماع الكل، العالم صنيع الكل، العالم يحتاج إلى الكل ليكون. وهذه الحقيقة البسيطة جدا تدركها الحكمة الشعبية إدراكا تلقائيا، من خلال فهمها وتأويلها للظل (العتمة) كامتداد طبيعي للضوء (النور). لكن بقدر ما يقبل الرأي العام هذه البداهة، ولا يرى فيها ما يحتاج إلى بيان وبرهنة، بقدر ما يجد زعماء الرأي المنشور ومحركوه من وراء حجاب، وبمختلف مشاربهم، عنتا كبيرا في إدراكها وتجويزها. وذلك هو جوهر المفارقة.
إن الحياة لا تستمر في وجودها ونمائها إلا لتثبت أنها حياة فعلا، وفي الأثناء تضرب بعرض الحائط كل الأحكام المشتركة المجترة حول الأزمة، ولا تلتفت لشتى التعزيمات اللغوية المتداولة جدا بين النخب هذه الأيام. تعزيمات، الغرض منها إعفاء أصحابها من مهمة التفكير، لا أقل ولا أكثر !
لكن، على الضفة الأخرى لعبارات الأسى والحسرة التي هي الخبز اليومي للمعلقين في شتى المنابر، يتموقع الحس السليم، ذلك الحس الذي هو الدليل القاطع، لا بل وسيد الأدلة، إنه دليل المعرفة الاختبارية المسنود بعالم الأعيان لا الأذهان، بلغة البلاغيين. هذا فضلا عن أنه الفيصل في مجال المعرفة الأصلية والبدئية. فقوته الضاربة هي التي جعلت غاليلي ذات يوم يستدرك صائحا: ومع ذلك فهي تدور ! وهذا لوحده يكفي.
بات في حكم المؤكد أن المحققين في كل محاكم التفتيش، وبتعدد ولاءاتهم، إنما يسعون جاهدين إلى الحفاظ على سلطتهم المعيارية التي تخول لهم الاستفراد بصلاحية إصدار الأحكام. لكن، وبالمقابل، ثمة سلطة موازية، موازنة، «سلطة» الاقتدار المجتمعي(5) التي تؤسس لمجريات الحياة اليومية، والتي تدين في نبوغها لقدرتها الذاتية على التكيف مع الظروف والأوضاع، والانسجام مع أفراح وأتراح الحياة، والتوافق مع تقلباتها وسيروراتها. وقوة هذا الاقتدار تدفعنا دفعا إلى التساؤل عن إمكان وجود تموقفية (6) شعبية؟
هاهنا مكمن الفرق الجوهري بين الرأي المنشور أو المعلن و الرأي العام. فالأول تشوش الطوبى العقلانية الحديثة على بصره وبصيرته، فتجعله يتوهم أن ثمة عقلا حيثما وليت وجهك، وأن كل شيء خاضع لمشيئة الأسباب والعلل العقلانية، بينما الثاني يُعمل ما أسميته ا ليوتوبيات البين فجواتية (7) الحبلى بشتى ممكنات واحتمالات الوجود، والجامعة بلا وعي شقي، بين ظل وضوء، خير وشر، سويٍّ وغير سوي.وقد كان ذوو النباهة من أهل الفكر والعلم ، من طراز غويو و دوركايم ،سباقين إلى إدراك هذا المعطى الأخير.وهو ما تجلى في اهتمام هذين الأخيرين بالمفهوم الخصب أنوميا،الأنوميا بصفتها انزياحا عن القاعدة وخرقا لها، وخروجا عن المألوف والمتعارف عليه.وكلها طرق في الالتفاف على القاعدة القانونية ، للتموقع خارجها، بموازاتها، حواليها، والعصية عن كل تقويم معياري بسيط واختزالي.وبصفتها تلك،تضطلع بوظيفة أخلاقية(إيثيقية) لا غبار عليها، تتمثل في رفد إرادة العيش الجماعي بأسباب القوة والمنعة والديمومة.
تلك أفكار عامة وتأملات إجمالية ، أقدمها لجمهوري من القراء المغاربيين وعموم القراء بالعربية ،بمناسبة صدور ترجمة كتابي عود على بدء إلى العربية . ولن تفوتني هذه الفرصة دون أن أتوجه بالشكر الجزيل لمترجمه الأستاذ عبد الله زارو ، الذي كان ومازال أحد طلبتنا ومن قرائي الأوفياء.أجدد له الشكر لما يبذله من جهد صادق ودؤوب لأجل التعريف بمؤلفاتي في هذه الديار التي لها مكانة خاصة في وجداني.تلك الديار التي تربطني بها أواصر ضاربة بجذورها في عمق التاريخ.
وأنا واثق أن ليلى كانت ستميل، لو استحضرت التوحيدي، إلى كلمة المؤانسة لجهة تأصلها في التراث العربي والإسلامي، فضلا عما تتميز به من فصاحة أكبر !(المترجم).
4) يقابل مافيزولي بين الرأي المنشور (المعلن) وبين الرأي العام. فالأول هو "الرأي العام" عندما تختزله المؤسسة في إسقاطاتها وأمنياتها من خلال ما تسميه جس النبض أو سبر الاتجاهات العامة في المجتمع، فتفرغه في معطيات إحصائية تبسيطية تقدمها كحقائق سوسيولوجية لا ترقى إليها ذرة شك ، من المفروض أن تبنى عليها قرارات سياسية وغير سياسية. واليوم، جل المعطيات التي تقدم، على هذا النحو، على أنها ترجمة للرأي العام سرعان ما تكذبها الوقائع على الأرض لتكشف عن بطلانها وسطحيتها، وأنها لا تستمد "قوتها" من دقة في رصد ووصف ما يجري في الجسم الاجتماعي، بل من جبروت المؤسسة التي تنتجها وتروج لها. بالمقابل، هناك الرأي العام الفعلي الذي تعجز وسائل البحث التقليدية في الإنسانيات عن الوصول إليه، لذلك فهو يباغت على الدوام الباحثين تاركا إياهم في حيرة من أمرهم. وهذا الرأي العام هو في الواقع رأي "الأغلبية الصامتة" التي يستغل المتحذلقون، من كل ألوان الطيف، "صمتها" لَيُقوِّلوها ما لم تقل، أو ليُحمِّلوا أفعالها ما لا تحتمل! وحده الإنصات إلى دبيب الأُنسية هو الكفيل برصد الاتجاهات العامة التي تخترق المجتمعات بحسب مافيزولي(المترجم).
5) الاقتدار المجتمعي مقابل السلطة السياسية. زوج أرساه مافيزولي في اجتهاداته السوسيولوجية الأولى. ويعبر عن معادلة اجتماعية بين قوتين متصارعتين لكل أساليبها في المواجهة، وصراعهما يرمي في المحصلة إلى إعادة إرساء توازنات في الكيان الاجتماعي، كلما أصابها اختلال في الاتجاهين. وتختصر هذه المعادلة الصراع التاريخي بين الحكام والمحكومين. لكن، بينما السلطة لا تضمن للسياسي الخلود لأنها متداولة "يوم لك ويوم عليك"، وقابلة للاختراقات العنيفة أو الناعمة من قبل المجتمع، فان الاقتدار عنوان للأزلية المجتمعية، يذهب الحكام تباعا و "يبقى" المجتمع. من هذا المنظور، فالاقتدار المجتمعي أقوى من السلطة، حتى ولو بدا الأمر خلاف ذلك للوهلة الأولى(المترجم).
6) تموقفية شعبية أسوة بتموقفية وجودية كالتي نظر لها "غي دوبور"، أي بصفتها تموقفا متواصلا ونسقيا إزاء أحداث هذا العالم، والاجتماعي في القلب منه (المترجم).
7) اليوتوبيات البين فجواتية: مصطلح استعمله مافيزولي لأول مرة في كتابه الرائد "تبدل في وجه السياسي"، وخصص له فصلا بكامله بعنوان "الحريات البين فجواتية". وهي من التعبيرات الباذخة عن الاقتدار المجتمعي، ومؤداها التلمس الدائم لحريات صغيرة ويوتوبيات متناهية في الصغر في الفجوات والشقوق المرتسمة في جدار السلط وأنظمة الحكم بمختلف توجهاتها ومشاربها. ومن أبرز التعبيرات المجتمعية عنها : السخرية، المقاطعة، اللامبالاة، التوظيف المضاد، الالتفاف، حياة الأقنعة، الريبة المنتظمة، هوامش العيش مع آخرين وما يحققه من أحساس منزاح بالانتماء القبلي، الترحل والتسكع الدائم أيديولوجيا ومجاليا وجنسيا وهوياتيا..بكلمة، هي حريات تقتنصها "القبائل" المعاصرة بعيدا عين أعين السلط المهووسة بالمراقبة والمعاقبة والضبط والتقنين والتنميط.راجع بهذا الصدد :
M. Maffesoli, la transfiguration du politique : la tribalisation du monde, Ed livre de poche, paris ,1992. (المترجم).
إحالات وهوامش:
1) علبة الباندورة: علبة تودع فيها آلة موسيقية تصدر عنها أنغام ساحرة ، مستعملة مابين القرن 16 والقرن 18، وهي من أصل لاتيني .
2) م.مافيزولي: العنف الشمولي (1979)، الفصل lll:sociogenèse du progrès et du service public, مطبوعات ، Puf, paris,1979.
3) الأنسية القاعدية: في غياب الأفضل، هذه هي الترجمة العربية التي ارتضيناها لمفهوم مركزي في الفكر السوسيولوجي لمافيزولي، هو la socialité de base. ويعرفه، غير ما مرة، كالآتي: الوجود مع الآخرين دون إعداد مسبق ولا أهداف مرسومة سلفا. ويشمل أشكالا كثيرة من اجتماع الأفراد في المجتمعات ما بعد الحداثية لأجل تزجية الوقت وخلق أجواء الألفة والانصهار..الترجمة إياها استسغتها منذ أن اقترحتها السوسيولوجية الجزائرية "ليلى بابس" في:
Laila babes « la socialité en arabe»,in revue SOCIETES ,publiée par CEAQ, numéro ,juillet, paris. 1989
عبد الله زارو
كاتب ومترجم
باريس : 04/05/2013


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.