في الحوار التالي يتحدث الدكتور عبدالجبار شكري عن الأسباب الاجتماعية التي تقف وراء هروب الفتيات من بيت الأسرة. حيث يسرد جملة من هذه الأسباب الاجتماعية، ويشير إلى المفارقة القائمة بين مجتمع مازال محافظا وبين ظاهرة هروب الفتيات واستقلالهن كنساء عازبات عن أسرهن. في نظركم ما هي أسباب انتشار هذه الظاهرة في مجتمع محافظ كالمجتمع المغربي؟ صحيح تبدو هناك مفارقة، في العلاقة بين مجتمع مازال محافظا وبين ظاهرة هروب الفتيات واستقلالهن كنساء عازبات عن أسرهن والتي تعبر عن التحرر من ثقل التقاليد ونظام القيم في المجتمع المغربي. إلا أن هذه المفارقة وإن كانت تبدو غريبة من جهة، فهي من جهة أخرى تدل على وجود أسباب موضوعية أدت إلى انتشار هذه الظاهرة. ماهي هذه الأسباب؟ هناك أسباب أخرى اجتماعية تلعب دورا مهما في الدفع بالفتاة إلى الهروب والاستقلال عن الأسرة. ومن هذه الأسباب الاجتماعية نجد ما يلي: أولا: نجد أن نظام القيم في المجتمع المغربي، يستمد تصوراته الأخلاقية وآلياته القمعية من معتقدات وأوهام العقلية الذكورية، في تصوره للكينونة الأنثوية، في شهواتها ورغباتها وتطلعاتها. من هنا نجد أن الفتاة المتحررة من سلطة نظام العقلية الذكورية، ترى أن استمرارها في السكن مع أسرتها، هو نوع من العبودية والتمييز الجنسي، الذي تمارسه العقلية الذكورية من خلال الأسرة ولهذا تضطر إلى الهروب من بيت الأسرة. ثانيا: هناك بعض الفتيات تعودن على ممارسة عادات اعتبرنها حقا من حقوق الكينونة الأنثوية، وخطوة أساسية للثورة على سلطة نظام العقلية الذكورية، وتحقيق المساواة مع الرجل، كالسهر في الأندية والتدخين، إلى غير ذلك. وهذا النوع من الفتيات لا يمكن أن يستمر في السكن مع الأسرة، لأنهن لا يجدن الحرية التامة في ممارسة كل ذلك، ولهذا يلجأن إلى الهروب واللجوء إلى السكن وحدهن لتحقيق ما يرغبن فيه بكامل حريتهن، دون رقيب أو حسيب. ثالثا: هناك من الفتيات من يعشن تحت ضغوط الأسرة وإكراهاتها وشروطها، ومشاكلها المستمرة التي لا تتوقف، فلكي ترتاح الفتاة من هذه المشاكل -خصوصا الفتاة الموظفة- تضطر إلى الهروب من بيت الأسرة و السكن لوحدها. رابعا: هناك من الفتيات من يرغبن في متابعة دراستهن في تخصصات معرفية لاتوجد في مدينتهن، فيذهبن إلى المدينة التي توجد فيها تلك التخصصات، ولكن الأسر ترفض ذلك فيضطررن إلى الهروب من بيت الأسرة والذهاب إلى تلك المدن، وفي كثير من الأحيان يلجأ البعض منهن إلى السكن في الأحياء الجامعية، في حين تضطر أخريات إلى كراء منزل للسكن لمتابعة الدراسة في مدارس عليا متخصصة. خامسا: عندما تنتهي الطالبات من دراستهن، تبحثن عن الوظيفة في مدينتهن، فإن لم يجدنها، فيهربن من بيت الأسرة ليذهبن إلى مدينة أخرى، ويشتغلن هناك. في نظركم ما هي نتائج هروب الفتاة من بيت الأسرة واللجوء إلى سكن مستقل؟ في ما يخص انعكاسات هروب الفتاة واللجوء إلى السكن المستقل، نجد في هذا الإطار انعكاسات إيجابية، وانعكاسات سلبية. فيما يتعلق بالانعكاسات الإيجابية، نجد أن الأنا الأنثوي عند الفتاة الهاربة و المستقلة، يتقوى أكثر في التحرر من سلطة نظام العقلية الذكورية. كما يتقوى شعور الفتاة بكينونتها الأنثوية، في شهواتها وفي رغباتها، وفي تطلعاتها وطموحاتها. وتتجه هذه الكينونة الأنثوية في هذا الإطار إلى التساوي مع الكينونة الذكورية. كما أن الفتاة في استقلالها تتفادى الكثير من المشاكل، التي يمكن أن توجد في حالة العيش مع أسرتها. وفي ابتعادها عن هذه المشاكل، تقوم بوقاية نفسها من المعاناة وبالتالي الوقوع في بعض الأمراض النفسية. ما هي في نظركم الحلول الممكنة لهذه الظاهرة؟ على الفتاة أن لاتصدم أسرتها بطريقة الهروب من بيت الأسرة، لأن ذلك يجرح كثيرا وبعمق مشاعر الأسرة، وفي نفس الوقت إذا أحست هذه الفتاة أنها تعاني في فضاء الأسرة عليها أن تستعين بعناصر خارجية لكي يفهموا السلوكات السلبية التي تقوم بها اتجاه ابنتها، وهذا قد ينقص من سلبيات فضاء الأسرة. (*) أستاذ علم الاجتماع وعلم النفس