يحمل أحد أحياء طنجة اسما لا يثير كثيرا من التساؤلات اليوم: حي علي باي. اسم مألوف يتردد على لافتات الشوارع وفي الاعلانات العقارية وعلى ألسنة سائقي سيارات الاجرة، دون ان يعرف معظم السكان أن وراءه قصة استخباراتية تعود الى بداية القرن التاسع عشر، كان بطلها جاسوسا اسبانيا انتحل هوية رجل دين مسلم ونجح في اختراق الدولة المغربية، قبل ان ينصب له تمثال في الحي نفسه، ثم يزال لاحقا بهدوء، بينما بقي الاسم. - إعلان - في سنة 1803، غادر دومينغو باديا، الموظف الاسباني في مصلحة التبغ ببرشلونة، بلاده متخفيا في هوية مختلقة. تعلم اللغة العربية في قرطبة، ودرس اصول الفقه وبعض المعارف الاسلامية، كما حفظ ما تيسر من القرآن الكريم، واطلع على كتب الفلك والتقويم. ثم انتقل الى لندن، حيث خضع لعملية ختان لدى طبيب يهودي، حتى يتقن تنكره ويبعد عن نفسه كل شك. وحين عبر المضيق نحو طنجة، لم يكن دومينغو باديا الاسباني، بل "علي باي بن عثمان باي العباسي"، امير مزعوم من سلالة الخلفاء العباسيين، قادم من الشام، وفي طريقه الى مكة لاداء فريضة الحج. لم يكن وحده، بل يحمل معه تكليفا دقيقا من السلطات الاسبانية لتقصي احوال المغرب الداخلية واستكشاف نقاط ضعفه السياسية والدينية والاجتماعية. دخل علي باي مدينة طنجة يوم 23 يونيو 1803. صادف وجوده في المدينة وقوع كسوف شمسي، فاستغل الحدث في تثبيت صورته لدى النخبة. قدم توقعا فلكيا دقيقا بشأن الكسوف، وهو ما اعتبر في نظر السكان دليلا على علمه وورعه، فحاز ثقة حاكم المدينة بسرعة. وبعد اسابيع، انتقل الى فاس، حيث استقبل من طرف السلطان المولى سليمان، ونال مكانة اعتبرت استثنائية بالنسبة لغريب لم يسبق له وجود في سجل العلماء او الرحالة المعروفين. اقام في البلاط السلطاني، ورافق الموكب بين فاس ومكناس ومراكش، ودخل المجالس العلمية، وجلس مع الفقهاء، وشارك في النقاشات الدينية، دون ان يكشف امره او تثار حوله اي شبهة. وخلال هذه الفترة، كان يسجل بدقة كل ما يراه ويسمعه ويلاحظه، بدءا من التنظيم الاداري للدولة، مرورا بالزوايا والمعتقدات الشعبية، وصولا الى الحياة اليومية للمدن المغربية. الملاحظات التي جمعها تحولت لاحقا الى مادة اساسية في كتابه "رحلة الى افريقيا واسيا"، الذي نشره بعد عودته الى اوروبا سنة 1807، موقعا اياه بلقبه المزيف: "الصالح الحكيم الفقيه الشريف الحاج علي باي بن عثمان باي العباسي، خادم بيت الله الحرام". غادر علي باي المغرب من بوابة دينية لاستخلاص الشرعية النهائية لهويته المصطنعة، فانتقل الى الحجاز، حيث ادى مناسك الحج، ونال ترخيصا من شريف مكة غالب بن مساعد لدخول الكعبة وتعطيرها، في لحظة بلغت فيها شخصيته الملفقة اقصى درجات القبول الاسلامي الرمزي. وبعد استكمال جولته في شبه الجزيرة العربية، انهى رحلته في دمشق ثم اسطنبول، قبل ان يعود الى اوروبا محملا بوثائق ومشاهدات واوصاف دقيقة لحواضر المغرب والمشرق، اصبحت بعد نشرها في كتابه مادة تحليلية اساسية للدوائر الاستشراقية الاوروبية. وقد تضمن مؤلفه توصيفات نقدية للمجتمع المغربي، اعتبر فيها ان السكان يجهلون كروية الارض، وان الفكر الديني يطغى عليه الخلط بين التنجيم والفلك، كما تحدث عن الخرافات والكسل وانعدام النجاعة المؤسسية. وبقدر ما حملت هذه الانطباعات نظرة دونية، فانها قرئت في اوروبا باعتبارها وصفا علميا، ما منح الكتاب مصداقية مضاعفة. عقود بعد هذه الرحلة، وفي ظل النظام الدولي لمدينة طنجة، قررت الجالية الاسبانية تخليد اسم "علي باي" من خلال تشييد تمثال له في حي سكني راق كانت تقيم فيه. لم يكن الهدف احتفاء دينيا او معرفيا، بل توظيفا لذاكرة استخباراتية ناجحة. وبالنسبة للاسبان، كان دومينغو باديا يمثل نموذجا للذكاء الاستعماري، حيث استطاع رجل واحد، بفضل انتحال ذكي وتكوين دقيق، ان يخترق نظاما تقليديا دون ان يفتضح امره. وقد نصب التمثال وسط ساحة هندسية، يطل على شارع داخلي هادئ، في حي ظل حتى منتصف القرن العشرين مخصصا للاوروبيين، يحمل طابعا عمرانيا خاصا، بعيدا عن مركز المدينة. وبعد استقلال المغرب، بدأت ملامح الحي تتغير تدريجيا، مع مغادرة العائلات الاوروبية واستقرار سكان مغاربة قدموا من احياء مختلفة. لكن تلك المرحلة لم تكن خالية من التردد. فقد روي ان بعض سكان الاحياء المجاورة كانوا يتوجسون من دخول المنازل التي خلفها الاوروبيون، انطلاقا من قناعات دينية واجتماعية تعتبر تلك المساكن "بيوت نصارى"، ولا يجوز للمسلم ان يقطنها دون ان يصيب نفسه ب"الشماتة"، غير ان هذا التردد لم يصمد طويلا. لكن سرعان ما جاء سكان من اصول قروية او من مدن اخرى، استقروا في الحي وامتلكوا المنازل دون اعتبار لما يقال عن سكانها السابقين، وتحول الحي تدريجيا الى فضاء مغربي بالكامل، من دون ان تختفي علامته الاساسية: الاسم. اما التمثال، فقد ازيل في وقت غير موثق، دون صدور اي اعلان رسمي، ودون ان تتناول الصحافة المحلية الحدث. اختفى من الساحة بنفس الغموض الذي احاط بحضوره، وبقيت الساحة نفسها موجودة، لكنها فقدت رمزها، وتحولت الى فضاء عادي بلا شروحات، كأنها قررت ان تنسى. لكن الاسم لم يمح. فالحي ما يزال يعرف حتى اليوم ب"حي علي باي"، دون ان يعرف الغالبية العظمى من السكان ان هذا الاسم يعود لرجل اجنبي دخل المغرب متخفيا، وخدع سلطانا، وكتب كتابا، ثم خرج دون ان يمس. لا توجد لوحة تذكارية في المكان تشرح القصة، ولا اي مبادرة لادراج هذا المعطى في سجل الذاكرة الحضرية للمدينة. لكن في هذا الاسم وحده، تقبع طبقات متداخلة من التاريخ، يتقاطع فيها الاستخبار بالتنكر، والاستشراق بالاستهانة، والتخليد بالنسيان. وبينما يجهل الكثيرون من يكون علي باي، يظل الاسم شاهدا رمزيا على ان بعض الانتحالات، وان زالت مادتها، تبقى محفورة في جغرافيا المدن.