إن الحديث عن احترام المقدسات بصفة عامة، واحترام الثوابت الدينية بصفة خاصة؛ يحيلنا على مجموعة من القواعد التي تعارفت عليها المجتمعات، وكونت حولها إجماعا بضرورة الحفاظ عليها وزجر من يحاول المس بها، وهو ما يمكن اعتباره كجزء من نظام عام دولي. وقد حاولت بعض الدول إبان الثورة الصناعية وضع إطار تشريعي لحصر القواعد التي يمكن أن تكون مرجعا عاما لتنظيم علاقات الأفراد، وحماية حقوقهم إزاء بعضهم البعض من جهة، وإزاء الدول التي يعيشون فيها من جهة أخرى، وهو ما تجسد من خلال إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789، وبعد ذلك من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948. ومنذ ذلك الحين، عملت مجموعة من الدول على تبني هذا المسار تباعا. وقد تباينت توجهات الدول والمجتمعات في تبني المنظومة الحقوقية بصيغتها الغربية هذه، بين مؤيد لكل ما جاءت به مقتضياتها، وبين متحفظ على بعض أو أغلب فصولها اعتبارا لخصوصية كل مجتمع على حدة، وقد انتظم المغرب في صف الدول المتبنية لهذه المنظومة في عموميتها. ومن أهم ما تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الانسان ما يتعلق بحرية المعتقد (الدين)، والتي تعطي للفرد الحق في تغيير دينه أو معتقده وإظهاره بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، وكذا حرية التعبير والرأي، والتي تمنح للشخص الحق في اعتناق الأفكار ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة كانت. وتكريسا لهذه المبادئ، جاء الدستور المغربي بمقتضيات ضامنة لممارسة هذه الحريات، وهو ما جاء في الفصل الثالث منه، الذي يؤكد أن الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية، على أساس أن الإسلام هو دين الدولة وثابت من ثوابتها الأساسية، كما جاء الفصل 25 ليكرس الحق في حرية الفكر والرأي والتعبير. على ضوء هذه المعطيات، كان لزاما على المشرع تنزيل هذه المعطيات والتفصيل فيها بالشكل الذي يحقق الغاية من التشريع، وهي تحقيق المصلحة العامة والتعبير عن إرادة الأمة، وهو الدور الذي تضطلع به مجموعة من التشريعات أهمها القانون الجنائي. في هذا السياق، عمل المشرع الجنائي على وضع القواعد المؤطرة لممارسة هذه الحريات، على أساس ضمان ممارستها في الحدود التي لا تمس بممارسة الأغيار لحرياتهم، مع استحضار خصوصية المجتمع المغربي من جميع النواحي الثقافية والدينية والاجتماعية.. وهو ما ينبثق عنه بشكل ضمني مفهوم النظام العام. من هذا المنطلق، ونظرا لمكانة الصدارة التي يتبوأها الدين الإسلامي في النسق الثقافي والاجتماعي المغربي منذ قرون، وفي الدستور منذ سنين، فقد حباه القانون بمجموعة من القواعد الآمرة التي تلزم الجميع باحترامها والاحتكام إليها، باعتباره –أي الدين الإسلامي- مكونا أساسيا من مكونات النظام العام بالمغرب. على هذا الأساس، خصص دستور 2011 مجموعة من الفصول لتكريس مكانة الدين الإسلامي في المنظومة القانونية، حيث جاء في التصدير أن الدين الإسلامي يتبوأ مكانة الصدارة في الهوية المغربية، وأنه ثابت من ثوابت الأمة الجامعة (الفصل الأول) باعتباره دينا للدولة المغربية (الفصل الثالث)، كما كرس الدستور هذه الحماية من خلال منع تأسيس تنظيم سياسي يكون الهدف منه المساس بالدين(الفصل التاسع)، أو التعبير عن رأي يجادل في الدين الإسلامي ولو كان من داخل قبة البرلمان المحصنة (الفصل 64)، بل استطال المنع ليشمل المراجعة الدستورية التي لا يمكن أن تشمل الأحكام المتعلقة به (الفصل 175). وهكذا، واستحضارا لهذه الحماية الدستورية المتينة، جاءت المنظومة الجنائية لتكرس هذه القواعد، من خلال معاقبة كل من سولت له نفسه المساس بالدين، أو بالأحرى المساس بالشعور الروحي الجمعي المشترك للمغاربة المسلمين، إذ جاء في الفصل 5-267 أن القانون يعاقب كل من أساء إلى الدين الإسلامي بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين و/أو بغرامة من 20 ألف إلى 200 ألف درهم، وترفع هذه العقوبة إلى خمس سنوات والغرامة إلى 500 ألف درهم إذا كانت الإساءة بواسطة الخطب أو الصياح، أو التهديدات المفوه بها في الأماكن والتجمعات العمومية، أو بواسطة الملصقات المعروضة على العموم، أو بواسطة البيع أو التوزيع، أو بواسطة كل وسيلة تحقق شرط العلنية بما فيها الوسائل الإلكترونية والورقية والسمعية البصرية. إن تنزيل نصوص كهذه، وتطبيقها على مستوى الأحكام القضائية ما برح يثير صخبا كبيرا داخل تمفصلات المجتمع، بين مؤيد لحرية التعبير والرأي مهما استطال مداها، حتى ولو بلغ الثوابت الجامعة للمجتمع، وبين مؤيد لتقييد هذه الحرية في الحدود التي تسمح بعدم المساس بحريات الآخرين من جهة أخرى. ولاشك أن الحديث عن حيثيات تنزيل النصوص التشريعية وتكييف تنزيليها مع هذه السياقات يحيلنا مباشرة على المؤسسة القضائية، التي تضطلع بدور رئيس وحساس جدا، يكمن في تكييف الفعل مع مقتضيات القانون، واتخاذ القرار الفصل لتحريك مسطرة المتابعة من عدمها، وهو دور منوط بقضاة النيابة العامة بالأساس. إن فرز وتحليل الأقوال والأفعال والتصرفات المسيئة للدين، والمشكلة للجريمة السالفة الذكر وتكييفها، يعتبر إختصاصا أصيلا لقضاة النيابة العامة بشكل مبدئي، واختصاصا حصريا لقضاة الحكم فيما يتعلق بالفصل فيها. لكن، وبغض النظر عن المقتضيات القانونية، فإن السؤال الذي يستوجب التحليل هو ذلك المتعلق بكيفيات وضع الحدود القصوى لحرية التعبير في نطاق احترام قواعد القانون الجنائي، والتي تحمي في حالتنا هذه المساس بالدين الإسلامي. كما يطرح سؤال مدى مساس هذا الفصل من القانون الجنائي بحرية المعتقد؟ ومدى تعبيره عن إرادة الأمة؟ على اعتبار المدة التي استطال تطبيقه فيها زمنيا (منذ 1913)، وما صاحب ذلك من تطورات عرفها المجتمع طوال أزيد من قرن من الزمن. وبناء على ما سلف، يمكننا القول بأن حرية المعتقد وحرية التعبيرمكفولتان قانونا، لكن حدود ممارستهما لا يمكنها أن تطال حريات الغير، ولا سلامتهم المادية والمعنوية والروحية، بحيث لا تخول ممارسة هذه الحريات الضرب في معتقدات الآخرين، الشيء ينطبق على جريمة الإساءة للدين الإسلامي، والذي قد يؤدي بشكل أو بآخر إلى إلحاق ضرر معنوي بالشعور الروحي لمجموعة من الأشخاص. والجدير بالذكر أن طريقة التعبير تشكل أهم عنصر من عناصر جرائم كهذه، وهو جزء يجتمع فيه نظريا العنصر المادي للجريمة (أقوال/أفعال/تصرفات) والعنصر المعنوي كذلك، الذي يحيل على الغاية من الفعل، إذ يمكن أن تلقى أفكار إلحادية ومسيئة للدين في برنامج حواري تلفزي بطريقة أنيقة دون أن تثير من الضجيج شيئا، بينما عند استعمال طرق استفزازية مثيرة لمشاعر فئات من المجتمع، غالبا ما يكون رد فعل الأفراد والمؤسسات مختلفا، فطريقة التعبير يطرح سؤال الباعث على ارتكاب الفعل، أو الغاية الكامنة منه. لكل هذه الاعتبارات، ولما كان المساس بالدين يحدث هذا الضرر المعنوي في صفوف المسلمين المغاربة، الذين يشكلون أغلبية رعايا هذا الوطن؛ كان من البديهي أن يكون المساس به مسا بالنظام العام، وعلى هذا الأساس انبنى التشريع الجنائي. وأكاد أجزم وأقول أنه إذا أدت هذه التحولات التي يعرفها المجتمع إلى تحول في ردود فعل الأشخاص العفوية تجاه التطاول على الدين، بحيث لم يصحبها من الامتعاض والازدراء ما يطالها اليوم، فلا شك أن كيفيات تنزيل هذه النصوص من طرف السلطة القضائية ستتغير تبعا لذلك، وغالبا ما سيضطر المشرع إلى التفاعل مع هذا التحول، فالقانون ليس إلا تعبيرا عن إرادة المجتمع. -دكتور في القانون