اختيارات الركراكي تظفر بالمساندة    فاعلون يثمنون آفاق المشروع التنموي للحكم الذاتي في الصحراء المغربية    النيابة العامة تطلق دليلا وطنيا للتحري في ادعاءات التعذيب    عامل إقليم العرائش ريترأس اجتماع للجنة الإقليمية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية    تساقطات ثلجية وأمطار قوية أحيانا رعدية من غد الجمعة إلى الأحد المقبل    ابتدائية صفرو تؤجل النظر في ملف Pause Flow    أمريكا تطلق تأشيرة ترامب الذهبية للأثرياء    توقيع الاتفاقية الرسمية لخطة تسريع التكوين المهني الخاص : حدث تاريخي يؤسس لمرحلة جديدة في القطاع    تعاون عربي واسع في إصدار أغنية "روقان" للنجم المغربي محمد الرفاعي    مدينة الحسيمة تستعد لاحتضان الملتقى الجهوي للإعلام والتراث ببرمجة متنوعة    البنك الإفريقي للتنمية يمنح المغرب 150 مليون أورو لتعزيز التنمية الترابية    بايتاس: نجاح تجربة جهة طنجة يُعمم المجموعات الصحية الترابية في المغرب    جلالة الملك يعزي الرئيس الإندونيسي في ضحايا الفيضانات المدمرة    مصابو "فاجعة فاس" يُلازمون المشفى.. والتحقيقات تنذر بسقوط مسؤولين    تساقطات مطرية مهمة بعدة مدن مغربية    الحسيمة.. الجنايات الاستئنافية تؤيد الأحكام الصادرة في حق ستة قاصرين على خلفية أحداث إمزورن    السكتيوي عن احتمال مقابلة الجزائر في المباراة القادمة: "كل المباريات صعبة وكلما تقدمنا زادت الصعوبات أكثر"    الركراكي يكشف لائحة " الأسود" لكأس إفريقيا 2025 .. بحثا عن التتويج الثاني من قلب المغرب    المنتخب المغربي يتأهل إلى نصف نهائي كأس العرب على حساب سوريا    كأس العرب لكرة القدم.. المنتخب المغربي يتأهل إلى دور النصف عقب فوزه على نظيره السوري ( 1-0)    حركة "جيل زد" تلتمس من مندوبية السجون تقريب المعتقلين من عائلاتهم وضمان مواصلة تعليمهم    بمبادرة صينية.. المغرب ينضم إلى الدول المؤسسة لمجموعة "أصدقاء الحوكمة العالمية"    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    بطولة فرنسا.. نانت يعيّن المغربي القنطاري مدربا في مهمة محفوفة بالمخاطر    تلك البراري    هكذا يكبُر الخَوف    الإمارات تعزّي المغرب في "فاجعة فاس"        تصنيف "فيفا" للسيدات.. المغرب يحتل المركز 66 عالميا والخامس إفريقيا    الدار البيضاء.. معرض "خمسون" يحتفي بأعمال 50 فنانا    منظمة الصحة العالمية تؤكد عدم وجود صلة بين تلقي اللقاحات والإصابة بالتوحد    إسرائيل تتمسك بنزع سلاح حماس غداة اقتراح الحركة "تجميده" مقابل هدنة طويلة الأمد في غزة    أطر التدبير الإداري بالوزارة تصعّد وتطالب بإنصاف مالي وتعويض عن المخاطر    انطلاق فعاليات الدورة الرابعة عشرة للجامعة السينمائية بمكناس    تتويج الذهبي بجائزة "الأثر الإنساني"    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    النفط يتجه لمزيد من الارتفاع وسط قلق بشأن الإمدادات        تقرير: السياسات الفلاحية بالمغرب تستنزف الماء وتهمل الأمن الغذائي وتهمش الفلاحين الصغار    ترامب يعلن احتجاز الولايات المتحدة ناقلة نفط قبالة سواحل فنزويلا    البرد القارس يقتل رضيعة جنوب غزة    بمناسبة اليوم العالمي للتطوع..المغرب يكرّم المبادرات المحلية والوطنية ومغاربة العالم    هذا الزوال بقطر: ربع نهائي ملغوم بين المغرب وسوريا..    جامعة "الأخوين" تدعم التحول الرقمي        تراجع استخدام اليافعين الألمان لمنصات التواصل الاجتماعي خلال 2025        غزة.. تنظيم حملة "شتاء دافئ" لفائدة نازحين فلسطينيين بتمويل مغربي    مارسيل خليفة يوجه رسالة شكر إلى المغرب والمغاربة    "ميتا" تمنح مستخدمي "إنستغرام" أدوات تحكم جديدة مدعومة بالذكاء الاصطناعي    حوار مع شاب مصاب بالهيموفيليا: رحلة معاناة لا تعترف بها القوانين    ضعف حاسة الشم قد يكون مؤشرا مبكرا على أمراض خطيرة    دراسة تكشف فوائد الذهاب للنوم في التوقيت نفسه كل ليلة    علاج تجريبي يزفّ بشرى لمرضى سرطان الدم    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيطاليا رمزا لأوروبا اللاتينية في رحلة ابن بطوطة
نشر في أخبارنا يوم 23 - 07 - 2024

بخلاف القسطنطينية العظمى التي أبدى ابن بطوطة(1304-1377م)1رغبة شديدة في زيارتها، حين سنحت له الفرصة للقيام بذلك ،لم يحدث للرحالة المغربي أن أبدى في أي ظرف من الظروف رغبة في زيارة أي أرض مسيحية لاتينية.والحال أن الأرض اللاتينية ذاتها لم تكن لترحبباستقبال ابن بطوطة بصفته مسلما،ففي القرن الرابع عشر "لم يكن لرجل مسلم أن ينصح بأن يهيم في البلاد المسيحية كمغامرة خاصة بحتة"2.وقد شاء القدرأن يتعرف ابن بطوطة وهو حي يرزق ،ولو بشكل سريع خاطف،على جزء من أوروبا اللاتينية -التي ستستقبل بترحاب كبير ثمرة رحلاته بعد قرون من وفاته- ممثلا بميناء في جزيرة سردينيا بإيطاليا متزعمة حركة النهضة الأوروبية آنذاك. فخلال عودة ابن بطوطة الأولى إلى المغرب بعد غياب دام خمسا وعشرين سنة، غادر تونس في سفينة قشتالية متجهة إلى تنيس في الساحل الجزائري، فكان أن عبرت السفينة طريقا طويلا يمر عبر كالياري في أقصى جنوب جزيرة سردينيا ،مثلما اتفق دارسو الرحلة على ذلك3:
ثم سافرت من تونس في البحر مع القطلانيين فوصلنا إلى جزيرة سردانية، من جزائر الروم. (4، ص.190).
تجدر الإشارةهاهنا إلى أن جزيرة سردينيا كانت حينها تابعة لمملكة أراغون-كطالونيا، بوصفها قوة عسكرية مسيطرة زمن رحلة ابن بطوطة "على مجال واسع من غرب البحر المتوسط بما في ذلك جزر البليار وصقلية"4 ،مما يضيء سيطرة أرباب السفن الإسبان فضلا عن الجمهوريات البحرية الإيطالية على التجارة في الطرق البحرية آنذاك ،و يفسر في الوقت ذاته العواقب الوخيمة الناتجة عن انتهاء مدة اتفاقية السلام والتعاون التي وقعها السلطان أبو الحسن المريني سنة 1337مع بعض قادة أوروبا الجنوبية5، بمن فيهم حكام سردينيا ،وقد قدمت رحلة ابن بطّوطة نموذجا عن هذه العواقب بحديثها عن استيلاء "العدو الرومي" على مركب تونسي كان قد وصل الرحالة على متنه إلى جربة6.
بتوقف السفينة القشتالية في ميناء كالياري،إذا، سنحت الفرصة لابن بطّوطةمن دون سابق استعداد بأن تلامس قدماه الأرض اللاتينية المسيحية لأول مرة في حياته.و بالرغم من أن وصفه لهذا الميناء وإحدى حصونه وصف مقتضب جدا يتطابق مع سرعة الزيارة، إلا أنه يتفق في المجمل "مع الوصف الوارد في المرشد البحري الذي ألفه ريتزو"7،وهو علاوة على ذلك يترجم بوضوح إعجاب الرحالة المسلم بالميناء وهندسته الدالة تعميما على اهتمام الأوروبيين المسيحيين بالملاحة البحرية التي سيكون لها أكبر الأثر في تقدمهم لا حقا:
"ولها مرسى عجيب، عليه خشب كبار دائرة به، وله مدخل كأنه باب لا يفتح الا بإذن منهم وفيها حصون دخلنا أحدها وبه أسواق كثيرة ". (ص.190 )
وهذا يعني أن الزيارة لم تكن بحد ذاتها مثيرة للاشمئزاز، كما ذهب إلى ذلكروس .إ.دان وهو يعلق علىالحدث قائلا: "كانت الزيارة سريعة ومثيرة للاشمئزاز"8.إن ما أثار الرعب في نفس ابن بطّوطة وكدر صفو الزيارة، هو ما تناهى إليه من إضمار أهل الجزيرة نية أسره وصحبه من المسلمين:" ونذرت لله تعالى إن خلصنا اللهمنها صوم شهرين متتابعين لأننا تعرفنا أن أهلها عازمون على إتباعنا إذا خرجنا عنها ليأسرونا ! ، ثم خرجنا عنها ..." .(ص.190)
وربما يكون الرعب الذي تملك الرحالة من جراء معرفته بالنوايا، هو الذي ضيع علينا فرصة اهتمامه بوصف ما يتميز به الحصن وأسواقه الكثيرة فضلا عمن صادفهم من الأهالي والأجانب هناك ،تماما كما ضيع علينا احتمال ورود المقارنة بين الأرض اللاتينية والأرض البيزنطية.
في هذا الإطار، نشير إلى أن سرد ابن بطوطة المختزل لزيارته السريعة للميناء الأوروبي ، كفيل بأن يعطينا صورة عميقة عن أحوال العلاقات بين المسلمين والمسيحيين تعميما في القرن الرابع عشر، وبين المسلمين وسكان جزيرة سردينيا تخصيصا بالنظر إلى تاريخ الجزيرة مع الفاتحين العرب ، ابتداء بأول محاولة فتحفي القرن الثامن الميلادي زمن الوليد بن عبد الملك ،إلى حدود آخر محاولة في القرن الحادي عشر الميلادي على يد المجاهد العامري بحسب المؤرخ ابن الأثير(1160م-1233م)9.
هذا مع العلم أن بالإمكان تقصي آثار الوجه العنيف المعقد لهذا التاريخ في رحلات الغرب الإسلامي،ونأخذ مثالا عنها رحلة ابن جبير10التي تشيد صورة حية عن طبيعة العلاقة بين نصارى جزيرة سردينيا والمسلمين في القرن 12م استنادا ،من جهة، إلى شهادة شاهد عيان هو رفيق سفر الرحالة الأندلسي على مركب توقف مدة في مرسى قوسمركة للتزود بالماء والزاد والحطب، واستنادا من جهة أخرى إلى رد فعل ابن جبير ذاته أثناء سرد الحدث: "وهبط واحد من المسلمين ممن يحفظ اللسان الرومي مع جملة من الروم إلى أقرب المواضع المعمورة منا،فأعلمنا أنه رأى جملة من أسرىالمسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق.وكان ذلك عند وصول العدو،دمره الله، بهم من سواحل البحر ببلاد المسلمين، والله يتداركهم برحمته"11 .
على سبيل الموازنة ،نلاحظ أن وصف ابن بطّوطة لحالة الرعب التي أصابته ،بعد أن تناهى إلى سمعه الخطر الذي يتهدده وصحبه ،وصف يعضد ما جاء في رحلة ابن جبير، في الوقت نفسه الذي ينقلنا فيه إلى عالم القرصنة البحرية الذي كان المسيحيون الأوروبيون يسيطرون عليه قبل تأسيس القرصنة الإسلامية في العهد العثماني. ذلك أن القصد من حديث ابن بطّوطة عن أهل الجزيرة العازمين على اتباعهم ليأسروهم، إنما هو بعض القراصنة المقيمين في الجزيرة الذين أضمروا نية" في ملاحقة [المركب]بعد انطلاقه لأسر الركاب المسلمين، والاحتفاظ بهم طلبا للفدية"12.
ويتضح من ذعر ابن بطّوطة وتضرعه إلى الله ونذره الصيام في حال النجاة، أنه كان يعرف حق المعرفة حقيقة الخطر الذي يتهدده بصفته مسلما في أرض لاتينية مسيحية، وإلى هذا الخطر الداهم الذي يعي ابن طنجة في العهد المريني دوافعه جيدا، يمكن أن نعزو أيضا "نفوره" الظاهر من أوروبا13 ،وهو الذي ذهب أبعد مما خططته له الكرامات الإسلامية .
ترى ما الذي كان سيحدث لو كانت قد أتيحت لابن بطّوطة فرصة السفر إلى كالياري تحت حماية قوة متنفذة-كما كان الشأن في القسطنطينية-فزار الميناء زيارة أطولوهو مطمئن على حياته؟
ارتكازا من ناحية علىخلو نص الرحلة من أي نعت قدحي في حق منطقة كالياري وأهلها14،وعلى حرص ابن بطّوطة الشديد من ناحية ثانية على الالتزام بشروط الضيافة وحدودها بغية تأسيس "علاقة لطف" مع الآخر المسيحي الأورثوذوكسي المتحفظ في أثناء زيارته للقسطنطينية، نميل إلى الاعتقاد أن الرحالة المغربي كان سيسعى وهو يزور أهم معالم الميناء إلى تأسيس "علاقة لطف" أيضا مع الساكنة المسيحية اللاتينية، وفي هذه الحالة كانت روحه الاستكشافيةوملاحظاته الثاقبة ستنتهي به –ولاشك- إلى تشييد الوجه الآخر الخفي لعلاقة أهل الميناء والجزيرة تعميما بالحضارة العربية الإسلامية ،حيث أوضحت بعض الأبحاث الإيطالية مؤخرا أن هذه العلاقة لم تقتصر على الرفض والعنف وإنما تجاوزت ذلك إلى التفاعل الإيجابي. فميناء كالياري – مثله في ذلك مثل مناطق أخرى من جنوب سردينيا–يحمل من خلال شواهد القبور،والعملات النقدية،والأواني الخزفية المنقوشة ...إلى آخره،آثارا واضحة عن الإرث الإسلامي والحضور العربي في الجزيرة، تشهد كلها على وجودعلاقاتطيبة بين مسيحيي الجزيرة والعرب المسلمينتتعدى النشاط التجاري الصرف إلى التبادل الثقافيوالتعايش النسبي15،وتخصيصا مع مسلمي الأندلسرمز التفاعل والتمازج الحضاري.
..........................
الهوامش
- محمد بنعبد الله بن محمّد اللواتيّ الطنجيّ.
2-روس إ. دان ، مغامرات ابن بطوطة الرحالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي ، ترجمة أحمد بوحسن، مراجعة عبد الأحد السبتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2020، ص.215.
3- يقول إ.دان في هذا الإطار:"لم يذكر ابن بطوطة الميناء الذي زاره ، ولكن ليس هناك من شك أنه ميناء كالياري " (المرجع نفسه، هامش :362، ص.326).
4- مصطفى ناشط،"الارتزاق المسيحي بالدولة المرينية"،ضمن: الغرب الإسلامي والغرب المسيحي خلال القرون الوسطى ، تنسيق محمد حمام ، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية ، ط1، 1995 ، ص.135.
5-كانت مدة الاتفاقية عشر سنوات .
6-"فركبت البحر في قرقورة لبعض التونسيين صغيرة ، وذلك في صفر سنة خمسين ، وسرت حتى نزلت بجربة ، وسافر المركب المذكور إلى تونس فاستولى العدو عليه ". (4 ،ص.184)
7-انظر في هذا الصدد الهامشرقم :90 من الصفحة 190-م.4،ويضيف عبد الهادي التازي مؤكدا في الهامش نفسه : "وهو ما تأكد لدي من خلال شهادات أساتذة الجامعة هناك عند زيارتي للجزيرة".
8-روس.إ دان، م.س.، ص.326 .
-9انظر: الكامل في التاريخ ، المجلد الثالث ،(ذكر غزوة جزيرة سردانية)، دار صادر-بيروت ،1979.
معاصرللمؤرخ ابن الأثير.
10-معاصر المؤرخ ابن الأثير.
11-ابن جبير أبو الحسين محمد بن أحمد ،رحلة ابن جبير ، دار صادر ، بيروت ، د.ت ،ص.9.
12-روس .إ.دان، م.س ،ص.326.
13- يقول عبد الفتاح كيليطو:" لو عاش ابن بطوطة في القرن التاسع عشر،لما خطر بباله أن يسافر لا إلى بلاد الهند ولا إلى بلاد الصين ، ولتوجه حتما إلى أوروبا ، إلى قارة لم يهتم بها ولم يولها اعتبارا كبيرا في رحلته."(لن تتكلم لغتي، جدل اللغات، الأعمال، الجزء الأول ، دار توبقال للنشر، ط1، 2015،ص.159).
14-انسجاما مع طبيعة ابن بطوطة المدهشة التي أشاد بها الدارسون، فقد كان"مسافرا جيدا متحررا من التعصب والرؤية الضيقة، إلا فيما ندر".(أحمدبوحسن ،م.س.،ص.11).
15-انظر في هذا الشأن مثلا :
Oman Giovanni," Vestiges arabes en Sardaigne" ,"Vestiges arabes en Sardaigne" , Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée ,Année 1970 / 8 , p. 175-184.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.