جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية طاجيكستان بمناسبة العيد الوطني لبلاده    إحداث لجنة لبلورة نموذج اقتصادي جديد للصيدليات.. أبرز ما تم الاتفاق عليه في اجتماع وزير الصحة بالنقابات    غوغل تضيف تحديثات رئيسية لمنتجاتها المدعومة بقدرات نماذج جيمني    أسطول الصمود المغاربي ينطلق غدا الأربعاء من تونس نحو غزة    في ظل الأزمة المالية .. المختار العروسي يترشح لرئاسة نادي الشباب الأصيلي لكرة القدم    الياميق ينتقد أرضية ملعب "ليفي مواناواسا": "لم تكن صالحة للعب ولعرض إمكانياتنا كاملة"        نشرة انذارية تحذر من امطار رعدية قوية بالدريوش والناظور    توقعات أحوال الطقس لليوم الثلاثاء    155 ألف مترشح لولوج معاهد المهن التمريضية وتقنيات الصحة للتباري حول 8600 مقعد            بسبب 20 وشاية.. القضاء البلجيكي يدين عائلة مغربية بالحبس بسبب احتيال على نظام المعاشات    القمة الإفريقية الثانية حول المناخ تسلط الضوء على البعد القاري للرؤية المغربية بشأن التحديات المناخية        قارب مساعدات متجه لغزة يتعرض لهجوم في ميناء تونسي    السفارة الصينية بالرباط تهنئ الطالبة المغربية ياسمين مزواري على تتويجها الدولي في الصين            نشرة إنذارية: زخات رعدية قوية وأمطار بالناظور والدريوش    المنتخب المغربي يحافظ على مركزه 12 عالميا ويشدد الخناق على ألمانيا    الأداء الإيجابي يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    جامعة محمد السادس "بولي تكنيك" تفتتح فرعا لها في نيويورك                أمين زحزوح يتوج بأفضل لاعب في الشهر بالدوري القطري    بنعلي ووزير الطاقة الموريتاني يبحثان تسريع الشراكات الطاقية بنواكشوط    تسريع التعاون في مجالات الكهرباء والطاقات المتجددة محور مباحثات الوزيرة بنعلي مع نظيرها الموريتاني    المغرب يواجه خيارات حسم نزاع الصحراء بين انتظار مجلس الأمن او التدخل الفوري    إسبانيا تستدعي سفيرتها لدى إسرائيل وتصف اتهامات تل أبيب لها ب "معاداة السامية" ب "الترهيب"    السيتي ينهي النزاع القانوني مع رابطة الدوري الإنجليزي الممتاز    تلميذ يرد الجميل بعد 22 سنة: رحلة عمرة هدية لمعلمه    مبادرة شبابية في تطوان توفر لوازم مجانية لتخفف عبئ الدخول المدرسي على الأسر المعوزة    مداهمة مقاهي تقدم النرجيلة وتوقيف مسيرين ووضعهم رهن تدبير الحراسة النظرية    بفضل التعبئة الحكومية.. أشغال إعادة بناء وتأهيل المنازل المتضررة من زلزال الحوز تشارف على النهاية    بطولة اسبانيا: برشلونة يؤكد إصابة دي يونغ    "أسطول الصمود" يعلن تعرض إحدى سفنه لهجوم يشتبه أنه نفذ بمسيرة إسرائيلية    1500 ممثل ومخرج سينمائي يقاطعون مؤسسات إسرائيلية دعما لغزة        أجواء روحانية عبر إفريقيا..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تحيي المولد النبوي    إسبانيا تستدعي سفيرتها لدى إسرائيل وتصف اتهامات تل أبيب لها ب "معاداة السامية" ب "الترهيب"        انتشار السمنة بين المغاربة يطلق دعوات إلى إرساء "خطة وطنية متكاملة"        نسرين الراضي تخطف جائزة أفضل ممثلة إفريقية    مقتل شاب من مليلية في هجوم مسلح نفذه فلسطينيان بالقدس    "كناش الحشمة".. أسطورة الرحل فوق خشبة المسرح الكبير بنمسيك    ربيع القاطي يطرق باب العالمية مجددًا عبر سلسلة "Atomic"    اللغة والهوية في المغرب: خمسون عاماً بين الأيديولوجيا والواقع    الكلمة أقوى من الدبابة ولا مفر من الحوار؟..        أمير المؤمنين يصدر أمره إلى المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة توضح للناس أحكام الشرع في موضوع الزكاة    دراسة: عصير الشمندر يُخفّض ضغط الدم لدى كبار السن    دراسة : السلوك الاجتماعي للمصابين بطيف التوحد يتأثر بالبيئة    الملك محمد السادس يأمر بإصدار فتوى توضح أحكام الشرع في الزكاة    المجلس العلمي الأعلى يعلن إعداد فتوى شاملة حول الزكاة بتعليمات من الملك محمد السادس    مبادرة ملكية لتبسيط فقه الزكاة وإطلاق بوابة رقمية للإجابة على تساؤلات المواطنين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خلود الحيوية في المشروع العلمي للباحث الناقد محمد مفتاح
نشر في طنجة الأدبية يوم 12 - 03 - 2022

ودعنا علما من أعلام الثقافة العربية الخُلَّص الراحل محمد مفتاح، الذي آثر- رغم مكانته العلمية الرصينة وذيوع صيته- العزلة والابتعاد عن الأضواء. فعلاوة على ما تمتع به من حميد الصفات، ومجيد الشيم، وصادق الخلال، وجزيل العطاء، وعظيم الخجل اتسم مساره بواسع الثقافة، ورائع المؤلفات، وفصاحة اللسان، ودقة النظر، وبعد البصر. يصعب أن أستعرض- في صفحات معدودات- صحائفه البيض والناصعة لما خلفه من منجزات ثرَّة وعميقة ووفيرة، كان لها الأثر البليغ على أفواج من الطلبة، والباحثين، والمثقفين العرب بحفزهم على الخوض في الظواهر الأدبية بمناهج ومعارف جديدة (اللسانيات، والسيميائيات، وتحليل الخطاب، والتداولية، والنظرية الكارثية، والذكاء الاصطناعي، والمقاربة النَّسقية الشمولية) سعيا إلى استيعاب محتوياتها وقضاياها، واستكشاف مناطقها الداجية واستقصائها، والتغلغل في تضاريسها العسيرة.
شكل محمد مفتاح- بفضل جليل جهده في التحصيل والتدريس والتأليف- ظاهرة ثقافية إن لم نقل مدرسة أدبية متميزة في الحقل الثقافي العربي بالنظر إلى ما يلي:
أ‌ – إنه مثال المثقف العصامي الذي طور مؤهلاته المعرفية واللغوية بافتراش المَدَر، ورد الضجر، وملازمة الكتاب في البيت والسفر. لم يستوعبه التدريس في التعليم الثانوي، ولم يثنه عن تحدي الصعاب والعوائق لتحقيق جملة من طموحاته إلى أن أصبح أستاذا في جامعة محمد الخامس العريقة اعتبارا من العام 1971. أسهم – منذ التحاقه بكيلة الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط- في تجديد الدرسين البلاغي والنقدي، وتكوين جيل من الطلبة الباحثين وتأطيرهم والإشراف على أطاريحهم، وتنظيم ندوات ولقاءات علمية، وإصدار كتب ومؤلفات ذات الصبغة الشخصية أو الجماعية.
ب‌ – تفاعل إيجابا مع المستحدثات المعرفية والمنهجية مع مراعاة طبيعة الإبدالات التي تتحكم فيها من جهة، وخصوصية الثقافة العربية وتطلعاتها من جهة ثانية. شكل كل صرح من مشروعه الممتد على مدى خمسة عقود ثمرة من ثمرات التفاعل الإيجابي مع الطفرة المعرفية في انتقالها من إبدال إلى آخر. وهكذا تدرج فكره ونقده بمحطات يتداخل فيها الوظيفي والدينامي والنسقي والمعرفي والثقافي، ويندغم في سبيكة مُفرغة.
ج‌ – فضلا عن إلمامه وإحاطته بعلوم اللغة العربية (النحو، والبلاغة، والعروض، والتحقيق)، استوعب الثقافة الغربية في مظانها ومصادرها. حفزته الازدواجية اللغوية والثقافية على إقامة مقارنات ومقابلات بين مختلف الثقافات التي تفاعلت معها الثقافة العربية، وذلك بهدف التدليل على وجود الثوابت المشتركة ، وتمنين سبل المثاقفة وتبادل الخبرات في أفق استدامة السلم والطمأنينة والتوافق بين الشعوب.
د – حمل مشروعا نقديا ومعرفيا مفتوحا على آفاق متعددة، مستوعبا تراكمات هائلة، ممتدا – في رحابته وسعته- عبر لحظات ومراحل مختلفة. تولد هذا المشروع من بذرة النقد المهموم بقراءة النص في منأى عن الاختزالية والإسقاط والانطباعية، ثم سرعان ما تفرع شِعبا وفروعا لتلتئم في مصب رؤية تراهن على التماثلين الثقافي والمعرفي لإقامة الجسور بين مختلف الشعوب، وحفزها على التعاون والتآزر عوض التطاحن والتنابذ.
ه – كان من السباقين الذين انخرطوا مبكرا في الثورة الهادئة لتقويض النزعة البنيوية المحايثة، واستلهموا أدوات وتصورات جديدة تراهن على إقامة التفاعل الدينامي بين النص والوضع البشري من جهة، وبين إرغامات الكتابة والقراءة من جهة ثانية.
ما يهمني في هذا المقال- على ما هو عليه من قصر وما فيه من تقصير- بيان الثوابت العامة التي احتكم إليها الباحث محمد مفتاح في مشروعه النقدي الغني والرحب.وفيما يلي بعض منها:
1 – التعدد المنهجي:
تبنى المقاربة المتعددة رغم مشاقها وسعة امتداداتها لدواع كثيرة يرد في مقدمتها السعي إلى مقاربة مكونات الظاهرة الأدبية أو الثقافية في شموليتها ونسقيَّتها وتشابكها. من بين ما أهله إلى ذلك: تكوينُه العلميُّ الرصين، وزاده المعرفي الثَّر، وتسلحه بالأسئلة الابستمولوجية الملائمة، وفطنته الندية والمبتكرة. حتم عليه هذا الاختيار الانفتاح على حقول معرفية متعددة (علم النفس المعرفي، والذكاء الاصطناعي، والنظرية الكارثية، والمنطق، والبلاغة، وفلسفة الذهن، و الانتربولوجيا الثقافية المعرفية، وعلم الموروثات، وعلم الآثار.) والإفادة من مناهج متنوعة (سيميائيات مدرسة باريس، وسيميائيات بورس، والتداولية، والهرمنطيقا، والنسقية..) والإلمام بتيارات فكرية ومذهبية مختلفة ذات الصلة بالفلسفة، والتصوف، وعلوم القرآن والحديث، والفقه والنقد. سعى – باعتماد عدة منهجية مُركَّبة- إلى إضاءة النص من الجوانب الآتية:
أ – مقتضيات الأحوال: تتجلى عموما في توظيف مفاهيم محددة (من قبيل: المقصد، والتكييف، والفطريات ، ضبط قواعد التأويل، التعبير عن ثوابت كونية) تطلعا إلى استجلاء الخلفيات المعرفية التي تثري النص، وتضفي عليه الحيوية بالنظر إلى أدبيته وفنيته من جهة، وإرغامات الكتابة والتأويل من جهة ثانية.
ب – دينامية النص: تتجسد –عموما- في مفاهيم كثيرة (من ضمنها: تنمية النواة الدلالية، والسالبية، والتماسك، والتوازي، والتشعب، والتشاكل، والحوار الداخلي، والصراع، والتدريج، والتشابه) للتدليل على تشاكل النص، وتدرُّجه الموضوعاتي، وتماسكه الدلالي.
ج‌ – الاستعانة بالمبادئ الكلية والخاصة لبيان فرادة الخطاب وخصوصيته، والتمييز بين الشعر الراقي (ما تتناغم عناصره جميعها في بنية متسقة) والشعر العادي (ما يعلي من شأن عنصر على حساب عناصر أخرى).
د – الانتظام: يتجلي في بنية النص بمستوييْه الظاهر (اتساق النص وتماسكه) والباطني (البنيات العميقة المشتركة)، وفي الكون على الرغم من اختلافه الظاهر. يرى محمد مفتاح أن الإنسان مزود بكفايات ذهنية تتطلب محيطا ملائما لإبرازها واستخدامها في مشروعه الثقافي والتنموي. ومن بين المفاهيم التي وظفها-في هذا الصدد- نذكر أساسا: القياس، والترتيب، والاستحالة، والاتصال، والسريان…
2 – النحت والتوليد:
توخى محمد مفتاح – من تشريح المفاهيم – تجنب الآراء الاختزالية والانطباعية، والمراهنة على الحقيقة العلمية، وتأسيس معايير اجتماعية مشتركة، وإشاعة تقاليد جمالية في إطار المسؤولية والحرية. ومن بين الأمور التي ارتكز إليها- في نحت المفاهيم وتوليدها- نذكر أساسا ما يلي: النحت (الحقملة والنصنصة) والمقارنة (المقارنة بين ظاهرتين متماثلتين أو متباينتين) والتدريج (تجاوز الثنائيات المختزلة) والتحديد (على نحو المقترحة للتطابق والتحاذي والتداخل).. الخ.
3 – دينامية التأويل:
استفاد محمد مفتاح من مراجع مختلفة لفهم التأويل من زويا متعددة، وضبطه حتى يصبح عنصرا أساسيا في تفادي الفتن وتعزيز التفاعل الدينامي والإيجابي بين شعوب تتقاسم القيم و التمثيلات نفسها؛ ومما يشترطه في التأويل يُجمل فيما يلي: أ- أن يُحتكم فيه إلى المجال التداولي لمراعاة مقتضيات الأحوال وتقلباتها. ب – أن يكون مستندا إلى مشروع فكري وفلسفي. وفي حال العكس يغدو مادة استهلاكية أو لهوا ولعبا يشغل عن الحياة الدنيا وعن الآخرة. ج – أن يُضبط بقواعد وأحكام تفاديا للهذيان أو الهذر الذي لا يتعسف على النص فقط، بل يؤثر سلبا على وحدة الأمة وتماسكها. د – أن يُنتقل فيه من الثنائيات المعتادة والمستهلكة إلى رباعيات، بل إلى سداسيات تسعف على مقاربة معاني الظواهر الثقافية في مختلف أنساقها اللغوية وغير اللغوية وعبر-اللغوية، وفي مختلف تجلياتها التأريخية والثقافية والجمالية. يعتمد المؤول على استراتجية قرائية ملائمة لاستنباط المعنى من النص والظفر بمغازيه وأبعاده؛ ومن ضمن هذه الاستراتجيات نذكر: الاستراتجية التصاعدية (من الخاص إلى العام) والاستراتجية التنازلية(من العام إلى الخاص) والاستراتجية الاستكشافية (الانطلاق من المؤشرات النصية) والاستراتجية الاستقياسية (إقامة المشابهة بين المعروف واللامعروف) والاستراتجية الاستدوانية (تشمل القراءتين التصاعدية والاستكشافية) والاستراتجية الاستئطارية (تحوي القراءتين الاستقياسية والتنازلية). 4 – استئصال آفة التطاحن: أكبَّ محمد مفتاح على إثبات تماثل آليات التفكير البشري عند شعوب تتقاسم بنيات ذهنية مشتركة (على نحو دول حوض البحر لأبيض المتوسط)، والتدليل على وجود علائق وصلات تعزز تعاونها وتآزرها، وتقلل من تورطها في نزعات دينية وعرقية، وتحفز ناشئتها على التحلي بالمسؤولية والحوار والتسامح. ومن بين الموضوعات المتشابهة التي تقوم عليها فلسفة التماثل نذكر أساسا : مكانة الإنسان في الكون، والزمان الدائري، ونهاية العالم، ومسألة التوحيد. إن التماثل والتشابه هو الأصل (المشترك الإنساني أو الكليات المتماثلة)، وهذا لا يلغي الاختلاف في جزئيات وفرضيات ووضعيات محددة؛ ومن ضمنها اختلاف النظرة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية إلى التصوير. خلف الراحل مشروعا علميا يتناول-عموما- النص من زوايا متعددة (النص، اللانص، شبه النص)؛ وذلك بصفته نسقا مفتوحا في علاقته بذاته (الإحالة الذاتية) أو بنصوص أخرى (التناص) أو في علاقته بأنساق سيميائية أخرى (ما اصطلح عليه بالنصنصة) لاستنساخها أو تحويلها أو قلبها، أو في علاقته بالأمة (الحرص على وحدتها وتلاحمها) وبالكون (الكونية الإنسانية المشتركة). وهذا ما يقتضي – في نظره – تبني مقاربة سيميائيات موسعة ومُركَّبة (السيميائيات، وعلم النفس المعرفي، واللسانيات، وتحليل الخطاب، والهرمنطيقا) لمعالجة النص في شموليته ونسقيَّته، ومعاينة الحقيقة الهاربة باستراتجيات قرائية وتأويلية متعددة، والكشف عن الثوابت والفطريات الإنسانية المشتركة، وفتح آفاق جديدة للحوار والتفاهم والتقارب حرصا على استرجاع الإنسانية إنسانيتها المفتقدة بعد أن اصطبغت الحداثة- في مظهرها السلبي- بالصبغة العرقية والعنصرية والاستعلائية. ما يهم – بحسب فرديرك نتشة- ليس الحياة الخالدة بل خلود الحيوية.
محمد الداهي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.