بقلم: عبد العظيم هريرة في زمن تتسارع فيه الأحداث أكثر مما تتطور العقول، ونعيش فيه لحظة تاريخية يصبح فيها الصخب أعلى من الفكر، تبرز ظاهرة مقلقة تشبه موجة عاتية تغرق كل محاولة للعمق: التوقف عن التفكير، أو ما يمكن تسميته ب "تعطيل العقل طوعا"، وفتح الطريق أمام ما يمكن وصفه ب "عصر سمو التفاهة". لقد انتقل الإنسان، في كثير من المجتمعات، من مرحلة طرح الأسئلة إلى مرحلة الهروب منها، ومن رغبة في المعرفة إلى رغبة في الإمتاع السريع، ومن لذة التأمل إلى لذة "التراند". لم يعد السؤال "ماذا نعرف؟" بل أصبح "ماذا ينتشر أسرع؟"، ولم يعد المعيار "ما القيمة؟" بل "كم عدد المشاهدات؟". حين يتوقف التفكير... يبدأ الخطر التوقف عن التفكير لا يحدث دفعة واحدة، بل هو فعل يومي صغير يتكرر حتى يصبح عادة ويحدث عندما نستهلك المحتوى بدل استيعابه، نردد الأفكار بدل نقدها، نصدق كل ما يمر عبر الشاشات دون أن نكلف أنفسنا لحظة للتحليل والتمحيص. وهكذا يفقد العقل مهارته الأساسية: القدرة على التمييز. عندما يغيب التمييز، تتساوى الحقيقة والإشاعة، العلم والخرافة، القيمة والفراغ. وبين هذا الكم من الضجيج، يصبح الإنسان هشا، قابلا للانقياد، يشعر أنه يعرف كل شيء وهو في الحقيقة لا يعرف شيئا. التفاهة... حين تتحول من سلوك إلى منظومة التفاهة لم تعد مجرد محتوى سطحي أو سلوك سخيف. لقد أصبحت نظامًا ثقافيا واقتصاديا قائما على الاستهلاك اللحظي، يعيد إنتاج نفسه بلا توقف. إذ تصنع التفاهة اليوم مثل أي بضاعة تصمم وتسوق وتلمع وتقدم للمجتمع بصفتها "الطبيعية الجديدة". في عالم تتحول فيه المعايير، يصبح المؤثر أغلى من المثقف، والنكتة أهم من الفكرة، والفضيحة أكثر تأثيرا من أي نقاش معرفي. هكذا يرتفع "رأسمال التفاهة"، وتضعف مكانة القيم الأخلاقية والثقافية، ويصبح النجاح مرادفا للظهور، لا للإنتاج. المجتمعات التي تحتفي بالتفاهة... تفقد تدريجيًا مناعتها المناعة الثقافية تبنى بالوعي والتربية والنقد والنقاشات الجادة. ولكن حين تسيطر التفاهة، يهمش الجاد لصالح "الخفة"، ويستبعد المجتهد لصالح "المتسرع"، ويسخر ممن يفكر بعمق وكأنه خارج الزمن. فالمجتمع الذي يتوقف عن التفكير، يتحول إلى مجتمع انفعالات لا مجتمع أفكار، يتحرك بسرعة، لكنه لا يعرف إلى أين. ينتقد بشراسة، لكنه لا يملك بدائل. يغضب، لكنه لا يحلل. والأخطر أنه يصنع أجيالا ترى أن المعنى ترف فكري، وأن التعلم "طريق طويل"، وأن القراءة "غير مربحة"، وأن الشهرة هي الهدف الأعلى. من صناعة العقول إلى "صناعة المحتوى"... من القيم إلى المؤثرين في عصر سمو التفاهة، تحولت التقنية من وسيلة للنهوض بالعقل إلى أداة لابتلاع الانتباه. منصات التواصل اليوم لا تبيع المعرفة، بل تبيع الانتباه، والأكثر انتشارا ليس الأكثر قيمة، بل الأكثر إثارة. صار "من يرقص" أكثر تأثيرا من الذي يكتب ومن يثير الجدل أكثر متابعة من صاحب الاختراع. ومن يصنع مقطعا سخيفا يعطى مساحة أكبر ممن يكتب كتابا. هذه معادلة مقلوبة تقود إلى مجتمع مختل الأولويات، مجتمع يقيس أهميته بعدد "اللايكات" لا بعدد الإبداعات. هل يمكن مواجهة عصر التفاهة؟ يبقى أن إمكانية مواجهة عصر التفاهة واردة ولكن بشرط أن نعيد الاعتبار للتفكير، إعادة الاعتبار للقراءة وللنقاش المثمر وللفن الهادف وللتربية التي تصنع إنسانا يفكر قبل أن يستهلك. لابد أن نعيد الهيبة للمعرفة، حتى لو صارت "غير رائجة"، وأن نرفع مكانة كل من يحمل مشروعا ثقافيا أو إنسانيا، مهما كان صوته خافتا. إن مقاومة التفاهة لا تكون بالصراخ في وجهها، بل ببناء بديل أقوى وأعمق وأكثر إنسانية. فالعقل مثل العضلة إذا لم يستخدم سيذبل ويتعطل، وإذا لم يفكر صاحبه، فهناك دائما من يفكر مكانه. نحن نعيش لحظة فارقة بين عالمين، عالم كان يقيس الإنسان بما يعرف وعالم يقيسه بما يظهر. لذا الخطر الحقيقي ليس في انتشار التفاهة، بل في استسلام الناس لها، وقبولهم بعالم بلا معنى، بلا تفكير، وبلا قيم. وإن لم ننتبه، فإن عصر سمو التفاهة قد يتحول إلى عصر سقوط الإنسان.