المستقبل يرسم في البؤر الساخنة من غزة واليمن إلى أزمة الديون وحرب التعريفات الجمركية... عندما تأخذ الإمبراطوريات مسارها نحو التراجع والانحدار وتقلص القوة، يسقط ساستها في تناقضات وأخطاء تتراكم بسرعة دون أن يدركوا نتائجها السلبية والعكسية على ما يريدونه ويخططوا له. ما يوصف بالتكتل الغربي يعيش خاصة منذ 20 يناير 2025 في متاهة لا يستطيع أحد حاليا إيجاد مخرج آمن منها، متاهة تهدد بإنهيار الكثير من التحالفات وتمهد لنظام عالمي جديد. أهم أعمدة قوة الغرب على الساحة الدولية حتى وقت قريب كانت التفوق الاقتصادي والقوة العسكرية، غير أنه وخلال السنوات العشر الأخيرة من 2014 وحتى 2024 تبدلت المعادلات اقتصاديا وعسكريا، ولم يعد للغرب هذا التفوق، الصين وضعت حدا له مع حلفائها روسيا وإيران ومجموعة دول بريكس، وعسكريا كشفت حروب محدودة من اليمن وغزة ولبنان أن المسلمات القديمة للتفوق العسكري قد تبدلت بأسلحة بسيطة وجديدة وقدرات على الصمود. كتب سيمون هيفر في صحيفة "ديلي تليغراف" في 18 مايو 2023، أنه "لا ينبغي أن يكون المرء مؤرخا محترفا ليعرف أن التاريخ يكرر نفسه، فعندما يرى المرء قادة سياسيين -عندنا أو عند غيرنا- يرتكبون الأخطاء نفسها مرارا وتكرارا، فإنه يرى أيضا أن أولئك المكلفين بحكمنا نادرا ما يدركون هذا الأمر. في هذا السياق صدر حديثا كتاب صغير الحجم، مؤلف من 200 صفحة فقط، بعنوان "لماذا تسقط الإمبراطوريات: روماوأمريكا ومستقبل الغرب" عن دار بنغوين، لمؤلفيه أستاذ الاقتصاد السياسي جون رابلي وأستاذ تاريخ القرون الوسطى البروفيسور بيتر هيذر المتخصص في سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية. "مرة أخرى تروج صرعة الحديث عن الانحدار". هكذا يبدأ استعراض "لماذا تسقط الإمبراطوريات" في مجلة "إيكونوميست" البريطانية في 25 مايو 2023. يمضي المقال فيقول إنه مع توتر العلاقات بين أمريكاوالصين وازديادها تدهورا، يزداد شيوع دراسة نهايات عصور الهيمنة السابقة. وتتكاثر الكتب التي تتنبأ بصعود الطغاة المستبدين ووفاة الديمقراطية. ويكثر الحديث عن فخ ثوقيديدس [الذي يعني في أدبيات السياسة] حتمية الصدام بين قوة صاعدة وقوة قائمة، مثلما سبق لأثينا أن تحدت إسبرطة في القرن الخامس قبل الميلاد. "يضيف هذا الكتاب المثير إلى هذا المنهج لمسة بسيطة جديدة. فهو يقارن بين الغرب في عام 1999، في ذروة ثقته، وروما قبل 1600 سنة، في عام 399 على وجه التحديد، قبل عقود قليلة من انهيار الإمبراطورية"، وفق ما جاء في المجلة البريطانية. البعض يرى أن الانحدار ليس حتميا على الغرب أو على الإمبراطورية الأمريكية، ففي مقال حديث بصحيفة "نيويورك تايمز" نشر في الرابع من سبتمبر 2023، كتب المؤرخ جون رابلي إنه "لم يزل بوسع أمريكا أن تحشد مواردها الوفيرة للبقاء قوة القيادة في العالم. غير أنه من أجل القيام بذلك سيلزم الولاياتالمتحدة أن تتخلى عن محاولة استرداد مجدها الغابر من خلال إتباعها منهج أمريكا المنفردة، وأمريكا أولا، فقد كان هناك دافع مماثل هو الذي دفع الإمبراطورية الرومانية إلى مغامرات عسكرية تسببت في خرابها النهائي. لقد تغير الاقتصاد العالمي، ولن يتسنى لواشنطن أن تسيطر على الكوكب سيطرتها القديمة، لكن إمكانية إقامة عالم جديد من التحالف مع بلاد مماثلة في الذهنية ترف لم يتيسر مثله لروما. ويجب على أمريكا... أن تنتهز هذه الفرصة".