حين نفكر في تاريخ المغرب، فإن أول ما يواجهنا هو هذا الانزلاق السهل الذي يجعل الكثيرين يتصورون أن تاريخ البلاد يبدأ مع الإسلام، أو مع إدريس الأول، أو حتى مع لحظة الفتح العربي. وكأن كل ما سبق ذلك كان مجرد فراغ طويل لا يستحق الذكر. هذا التصور لم يأتِ من فراغ، بل تولّد عبر قرون من الكتابة التاريخية التي كانت تنظر إلى شمال إفريقيا من زاوية واحدة، زاوية تجعل من الشرق مركزاً للزمن، ومن الوافد معياراً للبدء والنهاية. ومع مرور الزمن، ترسّخ هذا التصور حتى صار جزءاً من الذهنية العامة، رغم أنه يتعارض مع أبسط الحقائق العلمية التي تقدمها لنا الحفريات والوثائق والدراسات الحديثة. فالمغرب، ببساطة ووضوح، حضارته أقدم بكثير من الحضارة العربية والإسلامية. وليس في هذا أي انتقاص من قيمة الإسلام أو من الثقل الثقافي للعربية، بل هو مجرد ترتيب زمني خالص. فالعرب لم يدخلوا التاريخ السياسي المتماسك إلا في القرن السابع الميلادي، حين ظهر الإسلام وبدأت الدولة تتشكل. أما المغرب، فقد كان فضاءً بشرياً نشيطاً قبل ذلك بآلاف السنين. عندما اكتُشفت بقايا الإنسان العاقل في جبل إيغود قرب آسفي، كان على العلماء أن يعيدوا رسم خريطة تطور الإنسان من جديد، لأن المغرب قدّم للعالم تاريخاً يعود إلى حوالي ثلاثمئة ألف سنة أقدم من أي وجود بشري معروف في الجزيرة العربية. وهذا وحده يضعنا أمام حقيقة لا يمكن القفز عليها: أرض المغرب كانت مسكونة ومُنْتِجة للثقافة والمهارة والتجريب قبل وقت طويل جداً من ظهور الممالك العربية الأولى. لكن الحكاية لا تقف عند ما قبل التاريخ. فمع مرور القرون، تشكلت في شمال إفريقيا حضارات أمازيغية معقدة، بعضها امتد من الأطلس إلى تخوم تونس، وبعضها وصل إلى الصحراء الكبرى. كانت هناك ممالك تملك جيوشاً، وتحالفات دبلوماسية، وتجارات واسعة مع المتوسط. مملكة ماسينيسا وحدها، مثلاً، كانت تملك نظاماً سياسياً مركباً، وسلطة مركزية، وجيشاً منظماً، واقتصاداً زراعياً نشيطاً. أما ملوك موريتانيا الطنجية—يوبا الأول ويوبا الثاني—فكانوا يتقنون اليونانية واللاتينية، ويديرون علاقاتهم مع روما بمهارة القادة الكبار، ويُدخلون الفنون والعلوم إلى مدن مثل وليلي وطنجة وسلا. هذا كله كان تاريخاً مغربياً صرفاً، له جذوره وشخصياته وصراعاته، قبل الإسلام بقرون طويلة. وفي الوقت الذي كانت فيه مكة والمدينة ما تزالان مجرد حواضر صغيرة تعيش في إطار قبلي، كان المغرب مندمجاً في حركة المتوسط، يتفاعل مع الفينيقيين والقرطاجيين والرومان، ويتبادل معهم التجارة والتحالف والصراع. ومن هنا نفهم أن الحضور الأمازيغي لم يكن مجرد "قبائل" كما ظهرت في مدونات مؤرخين عرب، بل كان مكوناً حضارياً كاملاً. ومع ذلك، حين كتب المؤرخون العرب عن شمال إفريقيا، لم تتصدر هذه الصورة كتبهم. كانوا يبحثون عن "لحظة إسلام"، عن حدث يربط المنطقة بالتاريخ الإسلامي، فاعتبروا الفتح هو البداية، ثم أعطوا للدولة الإدريسية مكانة "البداية الرسمية لتاريخ المغرب". غير أن الإدريسيين أنفسهم لم يحكموا سوى رقعة محدودة من البلاد، وكانت سلطتهم لا تصل إلى الريف ولا الأطلس ولا الجنوب، وكانت القبائل الأمازيغية تقوم بدور أكبر بكثير مما تذكره الكتب. ومع ذلك، سُمّيت هذه الإمارة "أول دولة مغربية"، لأن المؤرخ كان ينظر إلى الأمور بعيون مركزية تنطلق من الشرعية الدينية لا من الواقع السياسي. ليس هذا تزويراً بالمعنى الأخلاقي، لكنه اختزال واضح. فالمؤرخ العربي كان يعتبر أن التاريخ يبدأ حين يكتب، لا حين يحدث. وما لم يُكتب بالعربية كان يُعامل كأنه لم يقع. هكذا اختفت آلاف السنين من التاريخ المحلي، ليس لأن الأمازيغ لم يكن لهم تاريخ، بل لأن هذا التاريخ كان شفوياً ولم يدخل دوائر الكتابة إلا متأخراً. ثم جاء الاستعمار الفرنسي ليضيف طبقة أخرى من التشويه. فقد قدم الأمازيغ كجماعات "بدائية" بلا تاريخ سياسي، ليبرر سياساته التفريقية، وليبدو "الحكم الفرنسي" وكأنه جاء لإنقاذهم من هيمنة العرب. وبين خطاب عربي يقلل من شأن القديم، وخطاب استعماري يخضعه لمصالحه، ضاع تاريخ المغرب العميق بين قراءتين متناقضتين وغير عادلتين. اليوم، بفضل العلوم الحديثة، نعرف أن تاريخ المغرب مجرد فسيفساء واسعة، وأن الإسلام والعروبة جزء مهم منها لكنه ليس بدايتها. المغرب لم يولد في القرن الثامن، بل تشكل عبر آلاف السنين من التفاعل بين الإنسان والأرض، بين المتوسط والصحراء، بين الأمازيغ وكل الشعوب التي مرت وامتزجت، أحياناً بالسلم وأحياناً بالقوة. وهذا بالضبط ما يجعل المغرب ما هو عليه: حضارة متراكبة، حية، ممتدة في الزمن، لا تشبه حضارة واحدة بل تشبه المزيج الذي صنعها. إن الاعتراف بقدم الحضارة المغربية ليس مشروعاً سياسياً ولا شعاراً هوياتياً، بل هو تصالح مع الحقيقة. فالمغرب بلد لم يبدأ من الصفر عند أي نقطة من نقاط التاريخ، بل كان دائماً موجوداً، يتحرك، يتغير، ويندمج دون أن يفقد جوهره. وهذا ما يمنحه تلك القدرة العجيبة على الاستمرار رغم التحولات الكبرى. محمد بوفتاس باحث في الدين والفكر والمجتمع