من البديهيات المتأصلة القولُ بفضائلية التواضع والزهد، اللذين يرتدان في جوهرهما إلى خصلة واحدة. فالزهد تَخَلٍّ عن المُتع المادية، والتواضع تخلٍّ عن المُتَع المعنوية، كالسلطة بمختلف درجاتها، وأشكالها، ومظاهرها. غير أن هناك من يرى في الزهد، بوجهيه، مجردَ انعكاس انكساري لنزوعات الأنانية والنرجسية، التي تشكل أساس سيكولوجية الإنسان، الذي جُبِل هَلوعا: «إذا مسّهُ الشرُّ جَزوعا وإذا مسّه الخيرُ مَنُوعا « (قرآن كريم)؛ ذلك الكائن الذي يقول عنه فرويد بأنه محكوم بدوافع الحياة التي تكتنفها أصول الفناء، دوافع تُقيم توازنَاتها لبلوغ الغايات الأنانية عن طريق تغليب تجنُّب الألم على تحقيق المتعة إذا ما قام تنازعٌ بين الغايتين. فالزهد إذَن وجهٌ تضادّيٌ أقصى للأنانية، باعتبار أن «الشيء إذا بلغ أقصى حده ينقلب إلى ضده». إنه عبارة عن موقف أبيقوري من المتعتين المادية والمعنوية؛ وذلك بالمفهوم الصحيح، لا الاختزالي للأبيقورية. فهي ليست فلسفة انغماس فعلي مباشر في الملاذّ؛ بالعكس: إنها دعوة إلى السعادة المتمثلة – حسب تلك الفلسفة – في استدامة التشوق إلى المتعة عن طريق تجنُّب تحقيقها بالضبط، نظرا لأن فناءها يحصل بمجرد الانتقال من التشوق إلى التحقيق، بما يترتب عن ذلك الفناء من شعور بالكآبة والعبث المترتب عن اضمحلال بريق المَثَل، المحرّك للسعي الذي يعطي للحياة معنى. فالمتعة البعيدة هي المحرك الأول لسلوك الحرمان الذاتي في نهاية الأمر، باعتبار ذلك السلوك مجردَ تاكتيك عكسي ذكيّ لبلوغ الهدف الاستراتيجي. يقول نيتشه (The Gay Science): «ماذا يفعل الزاهد؟ إنه إنه يُجاهد من أجل عالم أسمى. يريد أن يحلق أبعدَ وأعلى من أي امرئ مقدام. إنه يتخلص من كل ما من شأنه أن يثقل تحليقَه، ولو تعلق الأمر بأعز الأغراض على نفسه. يضحّي بكل ذلك في سبيل تَوقِه إلى العُلا. هذه التضحية وذلك التخلّي هما بالضبط كلُّ ما يظهر للعيان ويجعل الناس يسمون صاحبهما برجل الزهد. فبتلك الصفة يواجهنا الزاهد مُدَّثِّرا تحت إسكيمه، كما لو أنه روحُ جلبابه الصوفي. إلا أنه جدُّ راضٍ على الانطباع الذي يخلفه لدينا. إنه يستخلص منّا رغباتِه وفخرَه، ويحقق من خلال تقديرنا نيتَه في التحليق بعيدا فوق رؤوسنا. نعم، إنه أذكى مما نتصور، وهو زيادة على ذلك مهذب إزاءنا، هذا الرجل الطَموح الطَموع، لأن ذلك هو حقيقته في واقع الأمر، تماما مثلنا، ولو كان ذلك من خلال تخليه وزهده.». فالتواضع والزهد، في رأي نيتشه، سعيٌ وجهادٌ نحو الرِفعة. ومن تواضع لله رفعه. والرفعة تبدأ بالمال الذي يجلب الجاه، أو بالجاه الذي يجلب المال؛ واجتماعهما هو السلطان. وتختلف تاكتيكات الاستثمار بدءا بهذا الطرف أو ذاك حسب الظروف الذاتية و/أو الموضوعية. والتاريخ القديم والحديث حافل بأمثلة مَن بدأ بالجهاد الزهدي فاكتسب الجاه، الذي أدرّ عليه بدوره المالَ بفضل كرمِ الكرماء الذين يتوخون من كرمهم جزاء العاجلة أو الآجلة. وغالبا ما يكون قسم من هؤلاء «مكفّرين»، بالتقرب إلى الوليّ والانحناء أمام إشعاع زهده، عن مال لم يكن لهم بوجه حق، وذلك ليستعيدوا توازنهم الأخلاقي، ويعدّلوا ميل ميزانيتهم الأخروية الآجلة، بالحسنات اللواتي يذهبن السيئات؛ ولكنهم يسعون بذلك في نفس الوقت إلى تحصين مناعة أرصدتهم الدنيوية العاجلة. أما القسم الآخر ف»مستثمرون» جدد، يلتمسون نصيبهم من الجاه والمال والسلطان من محيط القطب الزاهد، الذي يقوم عرفيا كوسيط خيْرٍ بين «قُفَفِ كرَم» الفريقين ومساهماتهم في مشاريع الخير والإحسان وبين أيادي «ذوي الاحتياج» ممن لا يستثمرون في إشهار التصوف كمهنة، والزهد كطبيعة.