تمهيد: يطرح مقال الصحافي علي أنوزلا، المعنون ب «هل يجب تجديد الثقة في العدالة والتنمية؟»، إشكالية تبدو، في ظاهرها، مشروعة، وتتصل بمآل تجربة سياسية تولّت تدبير الشأن الحكومي لما يقارب عقدًا من الزمن، قبل أن تتعرض لانكسار انتخابي حاد سنة 2021. غير أن الإشكال المركزي الذي يثيره هذا المقال لا يكمن في صيغة السؤال في حد ذاتها، بقدر ما يتجلى في الإطار التحليلي الذي يُبنى من خلاله الجواب عنه. إذ سرعان ما ينزاح التقييم من مقاربة سياسية تركيبية تأخذ بعين الاعتبار تداخل العوامل الذاتية والبنيوية، إلى محاكمة معيارية تستند إلى افتراضات غير مفككة، وانتقاء انتقائي للوقائع، وإسقاطات نخبوية لا تستحضر بما يكفي طبيعة البنية السياسية المغربية وتعقيد اشتغالها المؤسسي. وانطلاقًا من هذا المنظور، لا تروم هذه المقالة الدفاع عن حزب العدالة والتنمية ولا تبرئة تجربته الحكومية من مواطن الخلل أو الأخطاء، بقدر ما تسعى إلى مساءلة العدسة التحليلية التي يُقاس بها مساره السياسي. ذلك أن هذه العدسة، في كثير من القراءات السائدة، تميل إلى إعلان نهايات قطعية للتجارب السياسية، بدل تتبع تحوّلاتها وفهم ديناميات استمرارها أو إعادة تشكّلها داخل سياقات سياسية متغيرة. أولا: هل بنكيران شعبوي أم سياسي يتحدث لغة المجتمع؟ يدرج كاتب المقال خطاب عبد الإله بنكيران ضمن خانة "الشعبوية"، استنادًا إلى ما يراه بساطة لغوية، واستعمالًا للدعابة، واعتمادًا على الارتجال في الأداء الخطابي. غير أن هذا التصنيف، في صيغته المتداولة، يعكس خلطًا مفاهيميًا بين الشعبوية باعتبارها نمطًا خطابيًا وسياسيًا يقوم على التضليل المتعمد، وبين التبسيط بوصفه آلية تواصلية تهدف إلى توسيع دائرة الفهم السياسي داخل المجتمع. فالشعبوية، كما تُعرَّف في الأدبيات السياسية المقارنة، ليست مجرد استعمال لغة غير تقنية أو قريبة من التداول اليومي، بل هي استراتيجية خطابية متكاملة تقوم على تبسيط اختزالي للواقع الاجتماعي والسياسي، وبناء ثنائيات أخلاقية حادة من قبيل "الشعب النقي" في مقابل "النخب الفاسدة"، إضافة إلى اختلاق خصوم رمزيين، وتقديم وعود غير قابلة للتحقق، مع تعويض غياب السياسات العمومية المتماسكة بشحن عاطفي مكثف يستهدف التعبئة لا الإقناع. وفي المقابل، فإن خطاب عبد الإله بنكيران، بصرف النظر عن الموقف السياسي منه، لا يستوفي هذه الشروط البنيوية للشعبوية. فهو لم يُبنَ على تسويق حلول سحرية، ولا على تضليل الرأي العام، بقدر ما انصبّ على شرح قرارات سياسية معقدة وإجراءات صعبة بلغة مبسطة، تسعى إلى جعلها مفهومة لدى أوسع شريحة ممكنة من المواطنين. وهنا يبرز فارق تحليلي أساسي بين التبسيط الذي يُوظف كأداة للإيهام والتزييف، والتبسيط الذي يُعتمد وسيلةً للتوضيح وتقليص الفجوة المعرفية بين الفاعل السياسي والمجتمع. ثم إن افتراض أن الخطاب السياسي الجاد لا يكون إلا تقنيًا أو نخبويا ينطوي على تصور إقصائي للتمثيل السياسي، لا ينسجم لا مع الخصوصيات السوسيولوجية للمجتمع المغربي، ولا مع منطق الديمقراطية التمثيلية التي تفترض قابلية الخطاب السياسي للفهم والتداول العمومي. بل إن جزءًا معتبرًا من أزمة الوساطة السياسية في المغرب يرتبط، في العمق، بهذه القطيعة اللغوية والرمزية بين النخب السياسية والثقافية من جهة، وعموم المواطنين من جهة أخرى، وهو ما يجعل تبسيط الخطاب، في هذا السياق، ممارسة تواصلية مشروعة أكثر منه انزلاقًا شعبويًا. ثانيا: عن "إكراهات الحكم" وحدود المسؤولية السياسية ينتقد كاتب المقال لجوء حزب العدالة والتنمية إلى استحضار ما يسميه "إكراهات الحكم"، ويقدّم هذا الاستحضار بوصفه شكلًا من أشكال التهرب من المسؤولية السياسية. غير أن هذا النقد ينطوي، في عمقه، على افتراض ضمني مفاده أن الحزب كان يمارس السلطة التنفيذية بصورة مستقلة وكاملة، وهو افتراض يصعب الدفاع عنه إذا ما استُحضر الإطار المؤسسي والسياسي الذي تشتغل داخله الحكومة في المغرب. فالنظام السياسي المغربي يقوم على بنية تنفيذية مركبة، تتوزع فيها السلطة الفعلية بين مستويات متعددة، تحتل فيها المؤسسة الملكية موقع الفاعل المركزي في تحديد التوجهات الاستراتيجية الكبرى، بينما يضطلع رئيس الحكومة والحزب الذي يقوده بدور فاعل جزئي يعمل ضمن شبكة معقدة من التوازنات والمؤسسات والفاعلين. وضمن هذا السياق، لا تُنتج السياسات العمومية باعتبارها تعبيرًا مباشرًا عن إرادة حزبية خالصة، بل بوصفها محصلة لتفاعلات وتوافقات فوق حكومية، تحكمها اعتبارات سياسية واقتصادية وأمنية لا تخضع دائمًا لمنطق الأغلبية البرلمانية. وبناءً على ذلك، فإن التناقضات التي طبعت الأداء الحكومي خلال فترة تدبير حزب العدالة والتنمية لا يمكن ردّها حصرا إلى اختيارات ذاتية أو أخطاء حزبية، بقدر ما تعكس، في جزء معتبر منها، تناقضات البنية السياسية ذاتها وحدود الفعل التنفيذي داخلها. وعليه، فإن مطالبة الحزب بالتصرف كما لو كان حاكمًا مطلقًا، ثم محاسبته على هذا الأساس، تمثل انزلاقًا منهجيًا يفضي إلى قراءة تبسيطية للتجربة، ويحول دون بناء تقييم سياسي يأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام وتعدد مراكز القرار داخله. ثالثا: في تفكيك سردية "العقاب الانتخابي" يقدّم المقال موضوع الرد نتائج انتخابات 2021، ولا سيما الانهيار العددي لحزب العدالة والتنمية من 125 مقعدًا سنة 2016 إلى 13 مقعدًا سنة 2021، بوصفها تجسيدًا مباشرًا لما يسميه "العقاب الانتخابي". غير أن هذا التفسير، في صيغته التبسيطية، يصطدم بعدة إشكالات منهجية ومعرفية. فالعقاب الانتخابي، حين يقع في الأنظمة التمثيلية، يكون عادة تدريجيًا ونسبيا، ويأتي متناسقًا مع السلوك الانتخابي السابق ومع حجم التآكل التدريجي في الثقة، لا في شكل انهيار شبه كلي لا يمكن تفسيره بسلوك الناخب وحده. إن التحول العددي الحاد الذي عرفه الحزب، في سياق يعترف فيه الكاتب ذاته بامتلاكه قدرة تنظيمية معتبرة وحضورًا مجتمعيًا وازنًا، يفرض إدراج متغيرات بنيوية لا يمكن القفز عنها دون الوقوع في قراءة انتقائية. ويتعلق الأمر، على وجه الخصوص، بالإغداق غير المسبوق للمال السياسي، وبالتدخل السافر للسلطة في العملية الانتخابية، وبإعادة هندسة الخريطة والدوائر الانتخابية، فضلًا عن أشكال متعددة من التضييق الميداني والإداري. وينسحب المنطق نفسه على عدد من الملفات الاجتماعية، من قبيل ملف الأساتذة المتعاقدين، الذي عرف احتجاجات مشروعة دون أن يشكل، من الناحية الديمغرافية، كتلة انتخابية حاسمة، مقابل ما شهدته فترة تدبير الحزب من توسيع غير مسبوق للتوظيف العمومي، ولا سيما في قطاع التعليم. كما أن تحميل الحزب مسؤولية تدهور القدرة الشرائية يتم غالبًا عبر قراءة مبتورة تتجاهل معطيات موثقة، من قبيل الزيادة في الحد الأدنى للأجور، وتوسيع البرامج الاجتماعية، وتدبير جائحة كورونا، الذي يُعد، بشهادة تقارير دولية، من بين التجارب الناجحة. رابعا: التطبيع وخطاب "زعزعة الثقة" يقدّم المقال ملف التطبيع باعتباره عاملًا حاسمًا في "زعزعة ثقة المواطنين" في حزب العدالة والتنمية، غير أن هذا التوصيف يظل حكمًا قيميًا أكثر منه استنتاجًا مؤسسًا على مؤشرات ميدانية دقيقة. فموقف الحزب من التطبيع ظل، على المستوى المبدئي، معلنًا وثابتًا، كما عبّرت عنه بياناته وتصريحات قيادته، وعلى رأسها أمينه العام، إضافة إلى استمرار أشكال الفعل السياسي والترافعي المرتبط بالقضية الفلسطينية، ما يصعب معه الحديث عن غموض أو ازدواجية في الموقف. خامسا: خطاب المظلومية أم الاعتراف المركب بالمسؤولية؟ ينتقد المقال ما يسميه "خطاب المظلومية"، غير أن هذا التوصيف يختزل الخطاب الفعلي للحزب ويتجاهل طبيعته المركبة. فالإقرار بالمسؤولية الذاتية لم يكن غائبًا عن خطاب قيادة الحزب، لكنه جاء مقترنًا بتحليل شروط اشتغال الفعل السياسي داخل بنية مؤسسية محددة. إن الخلط بين الاعتراف المركب بالمسؤولية، الذي يدمج بين العامل الذاتي والبنيوي، وبين خطاب المظلومية بوصفه تبريرًا أحاديًا، يفضي إلى قراءة معيارية تُحمّل الفاعل السياسي مسؤوليات لا تتناسب مع حدود سلطته الفعلية. خلاصة تظهر مجمل النقاشات المثارة حول حزب العدالة والتنمية أن الإشكال لا يقتصر على حدود التجربة الحزبية ذاتها، بقدر ما يرتبط، في مستوى أعمق، بالإطار التقييمي الذي تُقاس من خلاله هذه التجربة. فبدل مقاربة المسار السياسي للحزب بوصفه تجربة اشتغلت داخل بنية مؤسسية مركبة، تُستدعى مقاربات اختزالية تميل إلى إعلان نهايات حاسمة للتجارب السياسية. إن السياسة في السياق المغربي لا تُختزل في محاسبة معيارية مجردة، بل هي فعل عمومي يُمارَس داخل حدود الممكن البنيوي. ومن ثم، فإن طرح سؤال "الثقة" بمعزل عن تفكيك هذه الشروط يفضي إلى إعادة إنتاج الأسئلة ذاتها، دون الاقتراب من فهم ديناميات الواقع أو آفاق تحوّله.