استوقفني كتاب "الوهم الشعبوي" الذي أصدره الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي، أندري تاغياف، في بداية صيف 2002، أي بعد أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أزاح فيها اليميني المتطرف، جون ماري لوبين، الاشتراكي ليونيل جوسبان، بحصوله على ما يقارب 17% من الأصوات أهلته لخوض الدور الثاني مع جاك شيراك. وكلنا يتذكر الصدمة السياسية التي أحدثتها هذه الانتخابات ومخاوف الأوربيين على مصير الديمقراطية في ظل النفوذ المتنامي للتيارات الشعبوية التي كان يمثلها آنذاك اليمين المتطرف في فرنسا وبعض البلدان الأوربية. ويقدم تاغياف الذي يعمل مديرا للبحث في المركز الوطني للبحث العلمي، وأستاذا بمعهد الدراسات السياسية في باريس، نظرة تحليلية دقيقة لظاهرة الشعبوية السياسية والإعلامية التي تكبر وتصغر وفق ما يتولد عن الأوضاع الاجتماعية من تيارات مختلفة وربما متصارعة. وأهمية الكتاب لا تكمن في ما يعرضه صاحبه من حالات "شعبوية" تفشت في الثمانينات والتسعينات، وتكاد تنمحي اليوم من الفضاء السياسي الأوربي المهيكل وفق انقسامات إيديولوجية ثنائية القطبية (يسار يمين، اشتراكيون ليبراليون...)، ولكن في كون الظاهرة تسربت بشكل مدمّر ليس إلى الجسد السياسي المغربي، بل إلى جسمه الإعلامي حيث بعض الإعلاميين ممن يعتزون بشعبويتهم ويتفاخرون بها، يعتقدون أن "الشعب" بحاجة دائمة إلى أقراص ديماغوجية لتنشيط جانبه العاطفي والمخيالي، فيعمدون إلى تكرار نفس الخطاب الشعبوي الاستفزازي القائم على التجريم والتخوين، وقد أعطوا لأنفسهم كامل الصلاحية في محاسبة الجميع وهم فوق الناس جميعا. هؤلاء الإعلاميون المُنجّمون، العالمون بخبايا النفوس (وهم لحسن الحظ قلة قليلة)، يشرحون للمواطن الوقائع والأحداث لا من زاوية المعالجة الهادئة القائمة على التوعية والتنوير، ولكن بنيّة شحنه وتأجيج مشاعره من خلال التحامل على الأحزاب الوطنية ورموزها..وهؤلاء ليست لديهم قناعة فكرية بعينها، أو منظومة مبادئ يدافعون عنها، فهم ينقلبون ويتقلبون بسرعة قياسية من الضد إلى الضد، كلما اقتضت مصلحتهم ذلك. فالشرفاء المخلصون عندهم، هم من يخلصون في "الواجبات الإشهارية"، وحتى إذا توقفوا عن أداء "الواجب الإشهاري"، انقلبوا عليهم بما يعزز المقولة الإعلامية الفرنسية :"الْحس، ازْدح ثم افترس" ‘'Lécher, Lâcher, Lyncher''. والملفت في المشهد الشعبوي لدى بعض الصحف التي تقول عن نفسها إنها مستقلة، وهي في واقع الأمر مستغلة أشد الاستغلال لفئة القراء البسطاء، أنه أصبح يأخذ من فرط تكراره في بعض الأعمدة، طابع الغزو والتسميم لمجتمع يعتقد هؤلاء أنه عديم الإدراك، فيحاولون صياغة وعيه على مزاجهم ووفق أهوائهم بما يكرس التضليل ويغذي الكراهية وانعدام الثقة بين أبناء الشعب الواحد. والملفت أيضا أن الشعبويين (وبعضهم حكم عليه بالسجن بتهمة النصب والاحتيال) كما يتقنون بشكل كبير فن الملاسنة والشتائم في حق من ليس مثلهم في قائمة "الصالحين المصلحين"، فإن لديهم خبرة فريدة في اختلاق المبررات والمسوغات المقبولة لاقتحام قلوب الناس وتحويلها إلى الهدف المنشود. والتوجه الشعبوي الذي حصل الإجماع بشأنه اليوم على أنه ظاهرة مرضية وشر محدق بالمغرب، آخذ اليوم للأسف في اكتساح وجدان الشارع وعواطفه عبر بعض الصحف "المستغلة" أشد الاستغلال لبعض فئات القراء الذين لم ينضج ضميرهم الإعلامي بعد، فيقبلون بتلقائية وبثقة فطرية على سلعة يتفاعلون مع مضامينها وإن كانوا يدركون في معظم الأحيان أنها فاسدة، ملغومة وتضليلية. والإعلام الشعبوي الذي يرفع رايته الصفراء اليوم جيل جديد من بوعشرا وبوعشرين وبوربعين وغيرهم ممن يحاولون تكريس الدجل والكذب على القراء، من خلال استهداف الرموز الوطنية والتصادم مع أحزابها، لن يعمّر أكثر مما سيعمّر رمزها ونموذجها في المشهد السياسي، "القائد المنقذ" أحمد بنكيران الذي ينفرد عن غيره من رؤساء الحكومات السابقة بحصيلة سياسية واقتصادية مثيرة للحسرة والتقزز عنوانها "بخير في كل شيء" : الاقتصاد بخير، الثقافة بخير، المجتمع بخير، الأمن بخير، والمستقبل أيضا بخير...إلى أن كذبه الواقع وحركات الشارع المتجلية في الإضرابات والمظاهرات الناقمة على سنوات التلفيق والارتجال والفساد التي ميزت عهده. آفة الإعلام الشعبوي المتجدر في كيان وهوية بعض الصحف المستقلة التي لا تزودنا إلا ب"أخبار اليوم" الفاسدة، أنه بدلا من أن يقدم للقارئ سلعة نظيفة تتسم بالحياد والاستقلالية، وتلامس الواقع المغربي من زاوية التعامل الذكي النافذ في تفاصيل هذا الواقع وأسراره، اختار الارتماء في أحضان "الإسلاموية" الزائفة التي يحمل يافطتها حزب العدالة والتنمية، وذلك على حساب الأحزاب الوطنية التي أرّخت بمواقفها الدينية والسياسية وحتى الإنسانية لفصول النضال الوطني وسنوات الجمر التي اكتوى بلهيبها العديد من رجالات الاستقلال والحركة الاشتراكية، فيما لفيف الصحافة المستقلة (المستغلة) غائب بالمرة عن الساحة يترقب بشغف فترة الانفتاح الديمقراطي ليتحرر بقدرة قادر من عقدة اللسان التي كانت تصيبه عندما يذكر اسم علال الفاسي، المهدي بن بركة، بوبكر القادري أو عبد الرعيم بوعبيد.. والآن وقد أنتجت بعض التحولات التي يعرفها المغرب سياقا جديدا للتعامل مع الواقع السياسي والاقتصادي المغربي، فإن الإعلام الشعبوي، أكان بوعشرينيا أو بوتسعينيا، ينذر بتراجع وشيك من حيث قدرته على حشد وتعبئة جمهور القراء بأسلوب جميل المبنى، فارغ المعنى، مشحون بعبارات الشتم والتحقير. وإلى حين ذلك تكون الصحافة الوطنية الجدية قد واصلت مشعل التوعية والتثقيف، بعيدا عن الكلام "النجومي" الشعبوي. تلك الصحافة (العلم، المُحرر وغيرهما..) التي كانت لمن عليه أن يتذكر تطالعنا في كل يوم بمقالات تحليلية ونقدية لأحداث بعضها ملتقط من الصحفي نفسه، وبعضها منسوب إلى الصحيفة الفلانية أو الزميل الفلاني، حيث الجسم الصحفي منيع ومتماسك، وكل صحيفة تعمل، في حدود أنساقها التحريرية المختلفة، على صناعة خط تحريري يميزها ويعكس وجهة نظرها دونما تصادم أو تراشق مع زميلاتها.. ضالة هذه الصحف تنوير القارئ وإطلاعه على ما يدور حوله من وقائع وأحداث في ظل مناخ سليم متحرر يستوعب أحلام المتلقي من خلال الانفتاح والتفاعل مع قضاياه وانشغالاته اليومية، دون قيود رقابية تمارسها صحيفة على أخرى أو تهجمات ساقطة أصبحت اليوم، وللأسف، السمة الغالبة في مشهدنا الإعلامي وخاصة لدى بعض الصحف المستقلة المتشبعة بالنهج الشعبوي القائم على تزوير الوعي وبيع الأوهام لبعض فئات القراء.