يشن العروبيون حملات انتقادية مرعبة ضد العلامة ابن خلدون ، الذي يعد بشهادة المعاصرين من مؤسسي علم الاجتماع بدون منازع ، زودنا بنماذج مبتكرة في الأبحاث التاريخية ، وآراء عميقة في نواميس الحياة الاجتماعية ، لم يسبقه فيها أحد من المفكرين في العصور القديمة ، ولم يقدر أن يحاكيه أحد من العلماء المعاصرين حتى القرن التاسع عشر . ولا غرو في أن خدماته كفيلة بإدخاله في حظيرة مفاخر الإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء . هذا الجهد ، وهذا والنبوغ لم يشفعا للرجل عند العروبيين ، فهم يعدونه من الكافرين بالعروبة ،ومن الشعوبيين المناهضين للعرب ، ويرى بعضهم وجوب حرق كتبه ونبش قبره باسم القومية العربية ؟ إن مقدمة ابن خلدون تتسم بنزعة علمية وفلسفية خالصة ، تصرف كل جهدها وقوتها في سبيل البحث عن الأسباب والعوامل بحثا فكريا ممنهجا وهادفا ، لا يستهدف سوى إظهار النواميس الاجتماعية المؤثرة في نشأة الدول وتطورها وانقراضها . لماذا يكرهه العروبيون اٍذا ؟ لأنه كتب في مقدمته فصولا في مثالب العرب ، (فصل في أن العرب اذا تغلبوا على أوطان أسرع اليها الخراب ) وفصل ( في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك ) وآخر ( أن العرب أبعد الناس عن الصنائع )و(أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط) و ( أن العرب لايحصل لهم ملك الآ بصبغة دينية ) و ( فصل في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم). وأمور أخرى تظهر الوجه الحقيقي للعرب قبل الاسلام وبعده ، زيادة عن توظيفه صفات الأعراب عن قصد وإلصاقها حسب نظرتهم بالعرب الحضر . ( وتلك مسألة فيها نظر ؟).فقد أورد ابن خلدون في مقدمته اسم العرب في أكثر من ثمانين موضعا ، تشير في غالبها اٍلى استعمال العبارة للدلالة عن البدو ؟ (الأعراب) ،واجتهد العروبيون لإبعاد تهمة البداوة عنهم ، باستعمال شتى الأساليب ، فهم يجزمون بأن العربي ليس أعرابيا ، فهم لايستسيغون هذا اللقب بدعوى أن الله سبحانه وتعالى وصف الأعراب في عشر آيات محكمات ، كلها ذكر لمثالبهم وذما لصفاتهم، والصفات الغالبة فيهم بدوية قحة لا نكران لها ، والأمم تتدرج تدرجا طبيعيا وتتحول بفعل النشاط المستقر اٍلى حضر، فلا غرو أن للعرب مثال في البداوة المتجذرة كالجيتول في شمال افريقيا ، والمغول في وسط آسيا . وحسب رأيي المتواضع أن [العربي = أعرابي ]، لأن العبرة في الأساس هي العرق ( الٍاثنية) وليس مكان الاستقرار والاٍقامة . مثلهم مثل الأمازيغ الذين لقبوهم بالبربر ، فالأمازيغ والبربر صنوان لجنس واحد مهما تباينوا في سلوكهم التاريخي ، ولا يمكن نكران التسمية وٍان استهجنناها ، لأنها أطلقت علينا من طرف المستعمرين الرومان ومن لحقهم و واكبهم من ذوي السلطان . من المتعارف عليه في الدراسات الاجتماعية أن الأمم أعراق ، والأعراق متباينه ومتمايزة فيما بينها مظهرا وملبسا ، وسلوكا وثقافة ….ونظرة للحياة ، والتمايز جائز داخل وحدة عرقية نتيجه الاٍقامة في الحضر والبادية ، وفي كل اثنية عرقية صالحون ومفسدون ،خيرون وشريرون ، وتاريخ شبه الجزيرة حافل بمظهر البداوة ( مثلها مثل باقي مناطق العالم ) ،ونصيب التمدن فيه ضئيل ، وبدأ التحول التدريجي من البداوة إلى التمدن شيئا فشيئا قليلا قليلا ، فظهرت حضائر كمكة، ويثرب ،والطائف ، وغيرها ، ونتساءل هنا كم نسبة أهل الحضر بالنسبة للبدو ؟ فنجد جازمين بأن أهل البادية أكثرية ، وهم يمثلون الخزان المزود للمدن، وهذا شأن كل الأمم التي انتقلت من البداوة الى المدنية . فٍاذا قلنا العرب فهم في الأصل أعرابا تمدنوا ، وٍاذا قلنا الأعراب فهم بدو رحل ، ولكنهما صنوان ، دم واحد ، صفات واحدة في الغالب، أي بمعنى اثنيه جنيسة ، (أم أن العملية فيها انتقاء؟ )، أهل الحضر عرب ، وغيرهم من البدو ليسوا عربا ؟( هذا منطق لم استسغه تماما )فقد يكون من أبناء صلبي خيرون و أشرار ، فهل أتبنى الأخيار وأتنكر للأشرار ؟ ويمكن القول هنا بأن ذاك الشبل من ذاك الأسد ؟ وهذا رأي الكثير من الدارسين لفكر ابن خلدون ، الذي وظف الوصف على الموصوف بدراية وعلم ، حتى أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقرّ في حديث له ( أن الأعراب هم اصل العرب ومادة الإسلام ……) ، والقرآن الكريم قدم اللسان على الجنس ، فورد ( لسان عربي ) ولم يرد جنس عربي ، وإنما ذكروا باسم (الأعراب ) في عشر آيات محكمات كلها ذم وقدح باستناء واحدة ! أما الذين يرون بأن ابن خلدون قصد الأعراب ، ولم يقصد العرب ، فتمعنوا في رد المفكر والأديب أحمد حسن الزيات عليهم : (….أما تفسيرك العرب بالبدو في قول صديقك ابن خلدون فلا يؤخر في التهمة ولا يقدم في الدفاع ، لأنك تعلم أن الموج من العباب ، وان العرب من الأعراب ، وأن العصا من العصية ، والطباع قلما تتغير بانتقال صاحبها من سكنى الوبر إلى سكنى الحجر ، ومن رعاية الإبل إلى رعاية الناس ). خلاصة القول أن تشخيصات ابن خلدون لواقع العرب ماثلة أما م أعيننا ما ضيا وحاضرا، لا يمكن لجاحد نكرانها ، هذه الطباع التي لم يحسمها الدين، ولم تخففها التجارب ،لأنها لم تصدر عن علل تزول ، واٍنما تصدر عن جبلة تبقى.