يبدو المغرب، في ظاهره، بلداً يركض نحو الحداثة بخطى محسوبة: طرق سيارة تمتد في كل الجهات، قطارات فائقة السرعة تربط الأطراف بالمركز، موانئ ومطارات ومشاريع عمرانية تبهج العين وتغري بالنموذج. لكن حين نُزيح طبقة الإسمنت قليلاً، ونُمعن النظر في التفاصيل الاجتماعية اليومية، نصطدم بسؤال بسيط في صيغته، عميق في دلالته: هل يوازي تطور البنية التحتية تطوراً في البنية الذهنية والسلوكية؟ إننا نعيش في مغرب بسرعتين، أو لِنَقُل بثقافتين: ثقافة تُبشّر ب"التحوّل الكبير" على مستوى العمران والخدمات، وأخرى متشبثة بأنماط سلوكية قديمة، قوامها الريبة، والأنانية، وانعدام الثقة. وكأن المواطن يعيش تمزقاً بين واقع جديد يُفرض عليه فرضاً، وذهنية جماعية لم تتح له بعد فرصة التحديث الحقيقي. وإذا استعرنا من عالم الاجتماع إيميل دوركهايم قوله إن "المجتمع ليس فقط مجموع أفراده، بل هو أيضاً مجموع العلاقات التي تربط بينهم"، فإننا نكتشف أن العلاقات الاجتماعية في مغرب اليوم تتآكل بشكل مقلق. الفرد لا يثق في الآخر، ولا في المؤسسات، ولا حتى في إمكانية التغيير، مما يخلق فراغاً أخلاقياً لا تملؤه لا المشاريع الكبرى ولا الخطابات الرسمية. في الأسواق، في الإدارات، في المدارس، وحتى في الفضاء العام، سلوك يومي يشي بعمق الأزمة: العنف اللفظي، الغش، التملق، التهافت على الربح السريع، والميل نحو الانغلاق والتوجس. هي أعراض مجتمع لم يُنجز مصالحة فعلية مع ذاته، رغم كل التحديثات الشكلية. كما يقول زيغمونت باومان، نحن نعيش في "مجتمع سائل"، حيث لا ثوابت ولا علاقات طويلة النفس، بل كل شيء قابل للتبخر لحظة الاختبار. الخطير في المسألة، ليس فقط وجود هذه الاختلالات، بل أنها تحوّلت إلى "أعراف" غير مكتوبة، تطبّعنا معها حتى أصبحت جزءاً من نسيج الحياة. من يُراكم الثراء بسرعة يُحتفى به، حتى لو على حساب القانون أو القيم. من يتقن التملق يصعد. من يلتزم بالنزاهة يُسخر منه. وهنا يصبح السؤال حول "مفهوم النجاح" نفسه سؤالاً وجودياً. لقد قال عبد الله العروي: "الثقافة هي التي تحدد ملامح الهوية". وإذا كنا نُفكك في هويتنا، فذلك لأننا لم نحدد بعد ثقافتنا القيمية الحقيقية: هل هي ثقافة الغش أم ثقافة العمل؟ هل هي ثقافة الفردانية القصوى أم التشارك والتعاون؟ هل نُريد فعلاً مجتمعاً مدنياً حقيقياً، أم مجرد واجهة حديثة لنفس البنيات القديمة؟ لا تنمية بدون إنسان. ولا حداثة بدون وعي جماعي مشترك. أما بناء الحجر وحده، فقد أثبت فشله في تشكيل المجتمعات الحية. لقد سبق لإدغار موران أن قال: "الحداثة الحقيقية هي تلك التي تُعلي من شأن الإنسان، لا تلك التي تُمعن في نفيه". ونحن اليوم، للأسف، نُنجز نفي الإنسان بشكل أنيق ومُكلف. إذا أردنا لمغربنا أن يكون فعلاً بلداً صاعداً، فالطريق يمرّ عبر إعادة الاعتبار للمدرسة، للمجال العمومي، للثقافة، للمساءلة، للضمير. يمرّ عبر ثورة سلوكية هادئة، قاعدتها البسيطة: لا تنمية بدون احترام، لا مواطنة بدون وعي، ولا دولة قوية بدون مجتمع يحترم نفسه أولاً.