مقدمة: من نافلة القول إن الذكاء الاصطناعي هو دون أدنى شك التكنولوجيا الأكثر ثورية التي عرفتها الإنسانية في السنوات الأخيرة. يقول فيكتور هوغو: "لا أحد بإمكانه إيقاف فكرة عندما يحين وقتها". وبالفعل، فإن الوقت الذي نعيشه اليوم هو وقت الذكاء الاصطناعي ولا يمكن لأحد إيقاف هذا التسونامي الخوارزمي الذي يهدد الجميع. وقبل تبيان مدى تأثير الذكاء الاصطناعي على المادة الجنائية، لا بد من التوقف عند ماهية الذكاء الاصطناعي. أولا: ماهية الذكاء الاصطناعي التوليدي عرفت المنظمة الدولية للتقييس (ISO) الذكاء الاصطناعي على أنه: "قدرة وحدة وظيفية على تنفيذ وظائف غالبا ما تكون مرتبطة بالذكاء الإنساني، مثل التفكير والتعلم". وعرفت الفقرة الأولى من المادة الثالثة من قانون الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي الصادر سنة 2024 نظام الذكاء الاصطناعي على أنه: "برمجية تم تطويرها بواسطة واحدة أو مجموعة من التقنيات والمقاربات المدرجة في الملحق 'I' والتي بمقدورها، من أجل مجموعة معينة من الأهداف المحددة من قبل الإنسان، توليد نتائج في شكل محتويات أو تنبؤات أو توصيات أو قرارات لها تأثير على السياقات التي تتفاعل معها". غير أن التعريف الواسع الذي اقترحته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يعتبر نظام الذكاء الاصطناعي "نظاما مؤتمتا قادرا، بالنسبة لمجموعة من الأهداف التي يحددها الإنسان، على وضع تنبؤات أو تقديم توصيات أو اتخاد قرارات من شأنها التأثير على سياقات واقعية أو افتراضية. نظم الذكاء الاصطناعي مصممة من أجل أن تعمل على مستويات متفاوتة من الاستقلالية". فعلى العكس من بعض التعريفات التي أجرت مقارنة غير مناسبة مع الذكاء البشري من أجل تعريف الذكاء الاصطناعي، فإن تعريف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سلط الضوء على عنصر الاستقلالية التي تتميز بها نظم الذكاء الاصطناعي والذي يعد في قلب إشكالية العلاقة بين المادة الجنائية والذكاء الاصطناعي. ويرتكز الذكاء الاصطناعي على نوعين من التكنولوجيات: تكنولوجيا تعلم الآلة وتكنولوجيا التعلم العميق. أ- تكنولوجيا تعلم الآلة تعتبر تكنولوجيا تعلم الآلة فرعا من فروع الذكاء الاصطناعي، وهي تقنية للبرمجة المعلومياتية تستخدم الخوارزميات والبيانات الضخمة من أجل إعطاء الآلة القدرة على التعلم من تلقاء نفسها حتى دون برمجة صريحة. في هذا الشأن، يجب التمييز بين عدة أنواع من تعلم الآلة: التعلم الموجه والتعلم غير الموجه من جهة، والتعلم المعزز والتعلم المعزز العميق من جهة أخرى. ب- تكنولوجيا التعلم العميق التعلم العميق فرع من فروع تعلم الآلة الذي يستخدم الشبكات العصبية الاصطناعية من أجل التعلم انطلاقا من البيانات. هذه الشبكات اصطناعية بطبيعتها لكنها تحاكي الكيفية التي يعالج بها العقل البشري المعلومات عن طريق تحليل كميات ضخمة من البيانات من أجل استخراج معلومات ذات صلة بها. وبطبيعة الحال، فإن لتكنولوجيا تعلم الآلة وتكنولوجيا التعلم العميق مستويات مختلفة من الاستقلالية، وبالتالي تأثيرات مختلفة على المادة الجنائية. ثانيا: تأثير الذكاء الاصطناعي على المادة الجنائية لا يمكن لأحد اليوم أن يتجاهل تأثير الذكاء الاصطناعي على جميع الميادين بما فيها المادة الجنائية، سواء تعلق الأمر بشقها الموضوعي أو شقها الإجرائي. ذلك أن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي أصبحت اليوم تلعب دورا حاسما في ارتكاب الجرائم التقليدية منها والمستحدثة من جهة، وفي منع ومعاقبة هذه الجرائم من جهة أخرى. أ- تأثير الذكاء الاصطناعي على الشق الموضوعي في ما يتعلق بالشق الموضوعي من القانون الجنائي، فإن الأمر يهم كل الجرائم التي يتم ارتكابها بواسطة نظم الذكاء الاصطناعي (نظام الذكاء الاصطناعي كمرتكب للفعل الجرمي) أو بالاعتماد عليها (نظام الذكاء الاصطناعي كوسيلة لارتكاب الفعل الجرمي) أو ضدها (نظام الذكاء الاصطناعي كهدف للفعل الجرمي). ودون أدنى شك، فإن التزييف العميق والتزييف العميق الإباحي والتزييف العميق الإباحي الذي يستهدف الأطفال والاستنساخ الخوارزمي للصوت البشري والتمييز الخوارزمي وخلق ونشر الأخبار الزائفة وتزييف الدليل الجنائي، تعد من بين أهم الجرائم التي يتم اقترافها بالاعتماد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي. لا بد من الإشارة إلى أن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي أصبحت اليوم مدمجة في العديد من تطبيقات الهواتف الذكية، تتيح لأي كان إمكانية تزييف الصور والشرائط السمعية وشرائط الفيديو من أجل نشر الأخبار الزائفة وابتزاز والتشهير بالغير والاستغلال الجنسي للأطفال حتى من دون أي معرفة تقنية. ب- تأثير الذكاء الاصطناعي على الشق الإجرائي أما في ما يتعلق بالشق الإجرائي من القانون الجنائي، فإن الذكاء الاصطناعي يمكن كذلك أن يلعب بسبب تنوع تقنياته دورا رئيسيا في جميع المراحل الإجرائية للعدالة الجنائية. إذ بدأ من الآن فصاعدا يتم استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالجرائم والمراقبة الفيديوية والتحقيق الجنائي وتوليد الدليل الجنائي وضبط المحتويات غير المشروعة. في هذا الإطار، لا بد من التمييز بين استخدام الذكاء الاصطناعي كوسيلة كغيرها من الوسائل الإلكترونية في التحقيق الجنائي وبين قيام الذكاء الاصطناعي بنفسه بالتحقيق الجنائي دون أي تدخل بشري. أما الأهم من ذلك، فإن بعض أنواع نظم الذكاء الاصطناعي مثل السيارات المستقلة والروبوتات الجراحية والوكلاء الأذكياء أصبحت، بفعل الاستقلالية التي أصبحت تتميز بها، قادرة على اقتراف العديد من الجرائم التي تستوجب العقاب. وتتفرع عن هذا الواقع الجديد مجموعة من التساؤلات لعل أهمها: – هل يمكن مساءلة الذكاء الاصطناعي كفاعل أصلي للجريمة أم أن مسؤوليته لا تنعقد لانعدام شخصيته القانونية؟ وهل يمكن في هذه الحالة إسناد المسؤولية للمصنع أو للمبرمج أو للمستعمل؟ وقد اختلف الفقه القانوني حول مدى إسناد المسؤولية الجنائية لنظم الذكاء الاصطناعي بين مؤيد لإسناد هذه المسؤولية للذكاء الاصطناعي ومعارض لهذا الإسناد. حيث دعا الاتجاه الأخير إلى الاكتفاء بقيام المسؤولية القانونية لكل من مصنعي ومبرمجي ومستعملي تقنيات الذكاء الاصطناعي، لأن هذه الأخيرة مهما بلغت درجة ذكائها وبالتالي استقلاليتها فهي تحتاج دائما إلى تدخل بشري من أجل برمجتها أو من أجل تشغيلها. خاتمة: بعد وصف الوجه الجديد للمادة الجنائية تحت تأثير الذكاء الاصطناعي، نقول إن استخدام القواعد العامة في القانون الجنائي من أجل مواجهة جرائم الذكاء الاصطناعي موضوعيا وإجرائيا يصطدم اليوم بمبدأ الشرعية الجنائية بصفته مبدأ راسخا في القانون الجنائي. غير أنه إلى غاية اليوم، يمكن إلى حد كبير تشبيه مواجهة المشرع المغربي للذكاء الاصطناعي في علاقته بالمادة الجنائية بالنملة التي تعتقد أنها قادرة على إيقاف أمواج تسونامي بالتجديف بأرجلها الستة. لذلك، ندعو المشرع المغربي إلى عدم الوقوف موقف المتفرج أمام الإشكاليات المستحدثة التي تطرحها نظم الذكاء الاصطناعي في مجال القانون الجنائي، وذلك باستباق انتشارها الواسع بنصوص موضوعية وإجرائية تتلاءم وطبيعة هذه النظم.