في لحظة فارقة من التاريخ السياسي المغربي، ومع اقتراب موعد حاسم في سنة 2026، تتحول أزمة الثقة إلى فرصة ذهبية لإعادة تعريف معنى التمثيل السياسي. البلاد على أبواب تحول جذري في قوانينها الانتخابية، ومشهدنا السياسي، على علاته، يكشف عن دينامية جديدة غير مسبوقة. صحيح أن ملفات الفساد القضائية، التي طالت عددًا من البرلمانيين الحاليين والسابقين، شكلت صدمة للرأي العام، لكنها أيضًا أيقظت وعيًا جمعيًا طالما انتظر لحظة الحساب. إن مجرد مساءلة أسماء وازنة في المشهد السياسي، بعضها كان في قلب السلطة والقرار، هو تطور لم يكن ممكنًا لولا تغير في المعادلة السياسية والمؤسساتية. القضاء لم يعد مترددًا، والمؤسسات لم تعد صامتة، والمواطن لم يعد غافلًا. لقد دخلنا عصرًا جديدًا، حيث الصمت لم يعد حكمة، والحصانة لم تعد حماية، والمنصب لم يعد درعًا ضد القانون. ما يحدث اليوم من تدقيق ومحاسبة لا يُعاب على الديمقراطية، بل يُحسب لها. إنها، ولأول مرة، تتعرى من زيف الشعارات، وتكشف معدنها الحقيقي: إما أن تكون وسيلة لخدمة الصالح العام، أو ساحة للاستغلال والمصالح. وما كشفته المحاكم من ملفات فساد لم يَعُد يُنظر إليه كاستثناءات، بل كأعراض لمرض بنيوي في بنية التزكيات الحزبية، وفي منطق التمثيل نفسه. ومع ذلك، فإن هذه المواجهة مع الحقيقة هي أول خطوة نحو الشفاء. لقد أدرك المواطن المغربي، رغم كل الخيبات، أن صوته له وزن، وأن المؤسسات، وإن تخلخلت، يمكن أن تستقيم. لم يعد يتعامل مع الانتخابات كطقس موسمي، بل كرافعة للتغيير أو، على الأقل، كوسيلة للدفاع عن الكرامة. ومن جهة أخرى، تتلمس الدولة هذا التحول، وتعلن، من خلال وزارة الداخلية، استعدادها لإصلاح عميق، ليس فقط في القوانين، بل في شروط المنافسة ونزاهة التباري. ويبقى التحدي الأكبر أمام الأحزاب: هل تملك الشجاعة لمراجعة الذات قبل أن تطالب بالإصلاحات؟ اللحظة اليوم ليست لحظة لوم فقط، بل لحظة تأسيس. نحن أمام فرصة نادرة لبناء ديمقراطية لا تكتفي بالشكل، بل تؤسس للجوهر. ديمقراطية تقطع مع منطق "الأعيان" وتنتصر للكفاءة، وتعيد للمؤسسات الرسمية هيبتها ومصداقيتها. ولا يمكن أن يحدث ذلك دون قرار شجاع من داخل الأحزاب، برفض تزكية كل من تحوم حوله الشبهات، حتى ولو كان ذلك على حساب عدد المقاعد. إن روح الخطاب الملكي الأخير، الذي حدد بدقة أفق الإصلاح المنتظر، لم تكن دعوة تقنية، بل دعوة سياسية وأخلاقية في جوهرها. دعوة لإعادة الاعتبار للسياسة، بعد أن كادت تتحول إلى سوق مفتوح للصفقات. دعوة لإعادة الثقة في المؤسسات، بعد أن تزعزعت تحت وطأة الفضائح. دعوة لإشراك الشباب والنساء، لا كشعارات، بل كقوة تغيير حقيقية، قادرة على ضخ دماء جديدة في جسد الحياة العامة. 2026 ليست فقط موعدًا انتخابيًا، بل لحظة مفصلية: إما أن تستعيد السياسة معناها النبيل، أو تستمر الأزمة في إنتاج المزيد من العبث. المطلوب اليوم ليس فقط قوانين جديدة، بل شجاعة جماعية لقول "لا" للعبث، و"نعم" للمستقبل. وهذا المستقبل لن تصنعه النصوص وحدها، بل الإرادة السياسية الحقيقية، والمواطنة الواعية، والنخب النزيهة التي اختارت خدمة الوطن لا المتاجرة به. لقد آن الأوان لتُكسر الحلقة المفرغة التي تبدأ بالوعود وتنتهي بالفضائح. آن الأوان ليتصالح المغربي مع السياسة، لا كمجرد أداة للاختيار، بل كرافعة للتغيير. وفي خضم كل هذه التحولات، يبقى الأمل قائمًا، بل متوهجًا، بأن البلاد على موعد مع انبعاث سياسي جديد، يكون فيه البرلمان منبرًا للمساءلة لا محطًا للمتابعة، وتكون فيه الأحزاب مدارس للمواطنة لا منصات للاغتناء. إننا لا نعيش نهاية مرحلة فقط، بل بداية أخرى أكثر صدقًا، أكثر شفافية، وأكثر عدالة. ولأول مرة منذ زمن طويل، يمكننا أن نحتفل لا بسقوط الفاسدين، بل بصعود معايير جديدة تؤسس لغد مختلف.