حسن ناجح الخميس 14 غشت 2025 - 0:09 قراءة سيميائية في مشروع قانون المالية في المغرب برسم سنة 2026 "دلالات خفية في مواجهة تحديات المستقبل" مقدمة: (الخطاب الحكومي بين السرد الرسمي والواقع المتعدد الأوجه). إن مشاريع قوانين المالية، بما في ذلك مشروع ميزانية المغرب برسم سنة 2026، تتجاوز كونها وثيقة تقنية أو محاسباتية بحتة. فهي تعد "مادة" بالمعنى السيميائي للكلمة، أي نظامًا معقدًا من العلامات يُنتج خطابًا ويؤسس لسردية وطنية، محملة برموز ودلالات.خلف الأرقام والكلمات. وباستعمال أدوات التحليل السيميولوجي، تصبح المقاربة السيميائية لا تقتصر على النظر إلى الأرقام كبيانات موضوعية فحسب، بل تعاملها كدلالات (Signifiants) تستخدم لإنتاج مدلولات ومعانٍ جديدة (Signifiés). يأتي المشروع المغربي في ظرفية دقيقة تتزامن مع التحضير للانتخابات التشريعية وسط تحديات دولية من عدم اليقين والتوترات الجيوسياسية وتباطؤ النمو وصدمات التغيرات المناخية. يعكس الخطاب الرسمي رؤية لمغرب "صامد" «Résilient »، في طور تحول هيكلي، يعبر عن ثقة في متانة الاقتصاد والتحكم المالي والشراكات الدولية، غير أن قراءة نقدية معمقة، من منظور "الفكر المركب" ، تكشف تعقيدات وتناقضات اجتماعية واقتصادية باطنية. يطرح المقال قراءة جديدة للقانون المالي كفعل سياسي وسردي يتناول التوتر بين الطموح والقيود، الخطاب والواقع، الإدماج والإقصاء. ويعتمد تحليلًا سيميولوجيًا يستشرف الخطاب الحكومي والتوجهات الراهنة لفك رموز السردية الحكومية. وتستغل هذه السردية الهوية الثقافية في النقاشات الاجتماعية والسياسية، لتبرز الدولة كمجال جامع ومتعدد، مستخدمة رموز الماضي المشترك من إمبراطورية وهوية ودين وانتماء.فالسردية الحكومية، حسب مذكرة التقديم للمشروع، تسعى إلى وضع الميزانية كتركيبة تجمع بين التأكيد على المصير المشترك والاعتراف بالتعددية، في محاولة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي بوصف الدولة وسيطًا بين الهويات المحلية والاندماج الوطني، لتشكيل خطاب توازني يجمع بين طبقات المجتمع ويثمن الخصوصيات الثقافية لتعزيز الوحدة الوطنية والتكيف مع الواقع الثقافي المركب. وبناءً عليه، فإن مشروع قانون المالية لسنة 2026 ليس مجرد وثيقة محاسباتية، بل تجسد سردية وطنية تكشف عن دلالات سياسية واقتصادية وفلسفية ترسم ملامح مستقبل المجتمع المغربي. أولا: الإطار القانوني والمؤسساتي لإعداد مشروع قانون المالية في المغرب على هذا الأساس المؤسساتي ، يشتغل الإطار القانوني نفسه، بكل ما يحمله من نصوص ومبادئ، كدال مركزي، وظيفته التأسيس لمدلول "الحكامة الرسمية"، وما تقتضيه من مبادئ رئيسة كربط الشفافية بالمعلومة والمسؤولية بالمحاسبة. وتجدر الإشارة إلى أن عملية إعداد مشروع قانون المالية في المغرب تخضع لإطار قانوني دقيق، قوامه دستور 2011 والقانون التنظيمي(LOLF) 130.13. ومن جهة أخرى، تنص القوانين المنظمة على الفاعلين المؤسساتيين اللذين لهم صلاحية التدخل في عملية إعداد الميزانية وهم: * السلطةالتنفيذية: وزارة الاقتصاد والمالية (مديرية الميزانية)، رئيس الحكومة (التوجيه السياسي السنوي)، مجلس الحكومة والمجلس الوزاري (التداول والمصادقة الأولية). * السلطةالتشريعية: لجان المالية بمجلسي النواب والمستشارين (دراسة، استماع، مناقشة)، الجلسات العامة (النقاش والمصادقة العلنية). * مؤسسات داعمة ورقابية: بنك المغرب (المعطيات الماكرو-اقتصادية)، المجلس الأعلى للحسابات (رقابة بعدية وتقييم الأداء) وعليه، فالإشكالية العامة تطرح نفسها بنفسها: فهل هذه المنظومة القانونية والمؤسساتية تضع المغرب في إطار متقدم من حيث التأطير الدستوري والتنظيمي للمالية العمومية؟ أم أن نجاحها يظل رهيناً بمدى التزام الفاعلين السياسيين والتقنيين بروح النصوص ومقتضيات الحكامة الرشيدة، بما يعزز الشفافية والمساءلة، ويضمن تحقيق الأهداف التنموية المنشودة؟ ثانيا : الإنجازات والتوجهات الرسمية (من منظور الحكومة) بالإضافة إلى الشفافية في تقديم نسبة التنفيذ الى غاية متم شهر يونيو 2025 فيما يخص الاعتمادات المخصصة لكل الهيئات، بما في ذلك القصر الملكي والغرفتين، يقدم الخطاب الحكومي مجموعة من الإنجازات والمؤشرات الإيجابية كبرهان عن نجاح السياسات العمومية، هذا إلى جانب التركيز على توجهات استراتيجية تروم مواجهة التحديات وتعزيز مسار التنمية. ولتحليل هذا التحول بدقة، سنطبق نموذج الشبكة السيميائية لتفكيك الخطاب الرسمي للحكومة، وذلك على النحو التالي: اعتبار الخطاب السياسي والإعلامي حول "الدولة الاجتماعية" والميزانيات المرصودة لها في إطار هذه النظرة الإستراتيجية، بالإضافة إلى ورش تعميم الحماية الاجتماعية كدالّ محوري في خطاب الحكومة ( (Le Signifiant اعتبار المعنى الصريح (La Dénotation): كمعنى واضح يتم الترويج له من طرف الحكومة، مثال التصريح بأن الدولة كيان حامٍ وفاعل في تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الكرامة لجميع المواطنين. اعتبار المعنى الضمني (La Connotation): كمعنى إيديولوجي عميق والذي تكشفه هذه القراءة النقدية: حيث تحول الدولة من 'دولة-راعية (Etat-Providence) هدفها الإدماج والصعود الاجتماعي، إلى "الدولة-المدبرة" ( Etat- Gestionnaire) تكتفي بتدبير شؤون الفئات المجتمعية حسب نموذج هرم "ماسلو". فيبدو أن الهدف لم يعد خلق الفرص للرقي والاصطفاف مع الدول المتقدمة، بل احتواء الاحتقان الاجتماعي عبر مساعدات مباشرة وموجهة . وفي هذا المنوال، لا يقدَّم مشروع قانون المالية لسنة2026 كوثيقة تقنية فحسب، بل كسردية وطنية مشحونة بالدلالات الرمزية. فكل رقم وكل مؤشر اقتصادي يشتغل كدالّ يرمي إلى ترسيخ مدلول محدد في المخيال الجماعي للمغاربة. فمثلا، يضحى تحقيق نمو اقتصادي بنسبة+4,5% لا يُعرض كمؤشر اعتباطي، بل كتجسيد للأداء ودليل على أن الآلة الاقتصادية الوطنية تشتغل بكفاءة عالية وتنتج نتائج ملموسة. أما تراجع معدل التضخم إلى 0,9%، فيحمل دلالة الحماية، حيث تصوَّر الدولة كدرع يحافظ على القدرة الشرائية للمواطنين رغم عواصف وتقلبات الأسواق العالمية. أما التصريح بخلق282 ألف منصب شغل، فإنه يرمز إلى نجاح في عملية الإدماج، أي توزيع ثمار النمو على أوسع شريحة ممكنة، وبالتالي، ترسيخ العقد الاجتماعي القائم على توفير تكافئ فرص للشغل والاستفادة من الثروات، وهو ما تفتخر به الحكومة عند حديثها على الدولة الاجتماعية. ومن جهة أخرى، تتجسد الحداثة في تنوع القطاعات (إلكترونيك، فوسفاط، سياحة، صناعة غذائية، فلاحة، إلخ)، ما يعكس، حسب رواية الحكومة، اقتصادًا متعدد الركائز ومنفتحًا على أهم سلاسل القيمة العالمية. ويترجم تحسن المداخيل الجبائية دون زيادة العبء الضريبي، فضلا عن النجاعة والعدالة، أي إدارة مالية أكثر كفاءة وإنصافًا. كما أن ضبط عجز الميزانية في حدود 3% يشكل للحكومة بينة لمصداقيتها في أعين الخارج واحترام قواعد الانضباط المالي المعترف بها عالميًا. ولعل استدلال الحكومة بإشادة صندوق النقد الدولي ورفع وكالة "فيتش" لتوقعاتها، ونجاح إصدار السندات لتجسيد المصداقية والشرعية، أي أن التقييم الإيجابي للسياسات الوطنية ليس دعاية ذاتية، بل شهادة من مؤسسات مرجعية عالمية. خلف هذه المؤشرات، يبرز بعد جديد كمادة للتحليل السيميائي، ألا وهو رأسملة الموارد البشرية عبر الاستثمار في التعليم، والتكوين المهني، خصوصا الظاهرة الجديدة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. من الوجهة النظرية، يرمز هذا التوجه إلى التأهيل الاستراتيجي، أي أن الدولة لا تراهن فقط على الأرقام الآنية، بل تبني قدرات بشرية وتقنية لضمان استدامة النمو وتعزيز تنافسية المغرب في الاقتصاد المعرفي، وهذا بالطبع أمر إيجابي. إنه سرد متكامل لمغرب متحكم في مصيره، دينامي، فعّال، حامٍ، ومعترف به دوليًا، يضع الإنسان في قلب التنمية، ويستعد لمواجهة المستقبل بأدواته المعرفية والابتكارية. إلا أنه وبعد عرض السردية الرسمية، بكل ما تحمله من مؤشرات اقتصادية كبرى متينة ونبرة متفائلة، يصبح من الممكن الانتقال إلى قراءة ما بين السطور. فجوهر المسألة لا يكمن في الخطاب ذاته، بل في الفجوة الفاصلة بين هذا الخطاب الواقع الاجتماعي-الاقتصادي المعاش، وكذلك في الصمت، أي كل ما لم يتم تداوله داخل الوثيقة. فبين طيات المسكوت، تتخفّى الملامح الحقيقية للمشروع الفلسفي لقانون المالية هذا. وهذه هي بالضبط قراءة المفارقات والنقاط التي نقترح خوضها الآن. ثالثا : النقد المركب (تفكيك الأسطورة: واقع بسرعتين متفاوتين) على الرغم من الصورة الوردية التي يسعى الخطاب الرسمي للحكومة الحالية إلى ترسيخها، تكشف القراءة النقدية عن اختلال بنيوي ومفارقات حادة على صعيد وثيقة الظرفية الاقتصادية المقدمة، لاسيما على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. وقبل الانخراط في التحليل، يقتضي الأمر تأطير هذه الصورة في إطار سيميائي؛ إذ إن ما يصفه هذا الخطاب ب"الصمود الوطني" أو "الثقة المتجددة" يتجاوز حدود كونه مجرد سردية سياسية، ليغدو ما يسميه رولان بارت: "أسطورة" (Mythe) سياسية. فعلى سبيل المثال: نمو اقتصادي بنسبة +4.5%) إلى "دالّ " جديد لمعنى إيديولوجي أوسع، من قبيل: "الأمة تسير على الطريق الصحيح". وتكمن وظيفة هذه الأسطورة في "تطبيع" الخيار السياسي وبالأحرى الإيديولوجي، أي تجريده من طابعه الجدلي وتقديمه كأمر طبيعي وحتمي، مع التعتيم على تناقضاته الداخلية. وانطلاقاً من هذا الفهم، تتمثل مهمة النقد السيميائي في تفكيك هذا البناء الأسطوري، والعودة من المعنى المضمَر إلى الواقع الملموس الذي يحس به المواطن في كل ربوع المملكة بغض النظر على انتمائه أو طبقته. فحسب الخطاب الرسمي للحكومة، يهدف مشروع قانون المالية لسنة 2026 إلى ترسيخ مفهوم صمود الاقتصاد، وتحقيق نمو مستدام عبر الاستثمارات الاستراتيجية، فضلا عن تعميق الإصلاحات الاجتماعية، وتعزيز الحكامة الجيدة، كل هذا مع الحفاظ على الاستقرار المالي. وفي هذا الشأن، تقدّم الحكومة، في مرافعاتها دفاعا عن المشروع، القطاعات التصديرية الرئيسية باعتبارها قلاع النجاح الصناعي، مُنشئاً بذلك أسطورة "وهم الحصانة"، غير أن تحليل دلالات الواقع يكشف عن هشاشة بنيوية تناقض هذه الصورة المرسومة عن الصلابة الاقتصادية، وكأن الاقتصاد يسير بسرعتين مختلفتين أو يهم جغرافيتين متباعدتين في بلد واحد. وهنا تكشف القراءة النقدية عن سلسلة من المفارقات التي تفضح واقعاً بعيداً عن الانسجام المعلن وبالتالي فإن أسطورة حسن الأداء هذه تتصدع عند مواجهتها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي المعاش، إذ تدعي الحكومة أن المشروع يهدف إلى التحكم في المديونية عند 65.8% من الناتج الداخلي الخام، مع الاستمرار في دينامية الاستثمار التي يُنتظر أن تتجاوز 370 مليار درهم، موجهة نحو خلق فرص الشغل، تعزيز جاذبية المجالات الترابية، وتطوير القطاعات ذات القيمة المضافة العالية. غير أن هذه المؤشرات الإيجابية تخفي تحديات حقيقية، حيث يكشف التحليل السيميائي عن عدة دلالات متباينة، أبرزها: 1. نمو اقتصادي غير شامل )النمو لا يعالج مباشرة البطالة والهشاشة): بالرغم من تحقيق نمو قوي في الناتج الداخلي الإجمالي غير الفلاحي وخلق عدد لافت من مناصب الشغل (+282 ألف منصب في الربع الأول من 2025)، يظل معدل البطالة مرتفعًا هيكليًا ليصل إلى 13.3% . ويعود ذلك إلى كون القطاعات الرائدة في "المهن الصاعدة بالمغرب" مثل السيارات والطيران حققت نموًا في قطاعات تعتمد على رأس المال والتكنولوجيا مع ضعف قدرتها على استيعاب اليد العاملة منخفضة المهارة والتي تكون شريحة كبيرة من طالبي العمل. والنتيجة كانت هي إنتاج للثروة عبر الصادرات يقترن بإقصاء اجتماعي وبطالة تتكاثر نسبيا بالنظر للنشاط الصناعي. وبالموازاة، فقد القطاع الفلاحي، الذي كان يمتص أعدادًا كبيرة من اليد العاملة، حوالي 905 آلاف منصب منذ 2019، وهو نزيف لم تُعوضه القطاعات الصناعية أو الخدماتية الجديدة إلا جزئيًا وفي ظروف متباينة نوعيًا. 2. تضخم"متحكم فيه" أمام قوة شرائية متآكلة: لقد كان متوقعا أن التضخم الكلي سنة 2025 سوف لا يتجاوز 1.1%، إلا أن التفاصيل تكشف واقعًا آخر،حيث أن التضخم تأثر بالأساس بارتفاع أسعار المواد الغذائية ((+2.0% في النصف الأول من سنة .2025 وبما أن هذه المصاريف تشكل المكوّن الأكبر في إنفاق الأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط، فيشير إلى أن عدم ضبط التضخم العام قد يترافق مع تراجع ملموس في القدرة الشرائية لعدد كبير من فئات المجتمع، بحيث تصبح الزيادات في الأجور غير كافية لتعويض الخسائر التي تتكبدها "قفة البيت". 3. الدولة الاجتماعية بين الطموح وقيد الميزانية مع إعلان بناء الدولة الاجتماعية كأولوية استراتيجية، استبشر المغاربة خيرا بهذه المبادرة الحكومية، إلا أن هذا المسعى يصطدم بقيود صارمة، تتمثل في الهدف المعلن لتقليص العجز المالي إلى 3.0% من الناتج الداخلي الإجمالي بحلول سنة 2026، فهناك توتر واضح بين النمو المطّرد في النفقات الاجتماعية الهيكلية ومتطلبات التوازن المالي. ويبقى الخطر الكامن في تنزيل مشروع الدولة الاجتماعية هو الاعتماد المتزايد على التمويل بالدَّين على حساب المنتوج الخام، بما ينقل عبء التكلفة إلى الأجيال القادمة ويقلل هامش المناورة في المستقبل. رابعا: القراءة الاجتماعية لمشروع قانون المالية 2026 على ضوء وثيقة تقديم مشروع قانون المالية لسنة 2026، تكشف قراءة الدلالات الاجتماعية عن مشهد طبقي مغربي يزداد تعقيدًا، حيث يُعاد تشكيل موازين القوة والتوزيع داخل المجتمع تحت تأثير خيارات اقتصادية ومالية تحمل في طياتها رؤية إديوليوجية غير مُعلنة من طرف الائتلاف الحكومي الحالي. ورغم المؤشرات الإيجابية المعلنة للنمو وكذلك الأرقام المطمئنة، فإن برنامج الحكومة فشل في امتصاص البطالة الهيكلية أو في حماية الفئات الهشة من التآكل المستمر في قدرتها الشرائية. النتيجة تكريس واقع تعزز فيه امتيازات أقلية مؤهلة ترتبط بالاقتصاد المعرفي والقطاعات التصديرية، في مقابل اتساع رقعة المواطنين المحاصرين في الاقتصاد غير الرسمي أو المعتمدين على مساعدات ظرفية لمواجهة الفقر. أما الطبقة المتوسطة التقليدية، التي شكّلت تاريخيًا العمود الفقري للاستقرار الاجتماعي، فتجد نفسها اليوم محاصرة بين مطرقة التضخم وسندان تراجع جودة الخدمات العمومية، خصوصًا في قطاعي التعليم والصحة، مما يهدد مكانتها ودورها التاريخي. وتمثل هذه التحولات في النسيج الاجتماعي إعادة تعريف ضمنية للعقد الاجتماعي : من دولة "رحمانية" تقوم بدور "الضامن الجماعي" إلى دولة مقاولاتية تدفع الأفراد نحو تحمل المسؤولية الفردية والانخراط في نضال معيشي على المستوى الشخصي وكذا سباق تنافسي في إطار رؤية تنموية تُغلب الاعتبارات الماكرو-اقتصادية والاعترافات الدولية على مبادئ العدالة الاجتماعية والانسجام المجتمعي. خامسا: وضع الطبقة المتوسطة في ظل مشروع قانون المالية 2026 تُواجه الطبقة المتوسطة المغربية وضعًا حرجًا في ظل مشروع قانون المالية لسنة 2026، إذ تتحمل عبء التناقض بين الخطاب الرسمي المتفائل والواقع المعيشي الضاغط. فهي تعاني من ارتفاع أسعار المواد الأساسية التي تشكل جزءًا كبيرًا من دخلها، ما يزيد من وطأة التضخم عليها. إلى جانب ذلك، تتدهور جودة الخدمات العمومية، لا سيما في مجالي التعليم والصحة، مما يدفعها إلى اللجوء إلى القطاع الخاص وتحمل تكاليف إضافية تُرهق ميزانيتها. فبعيدا عن شعارات الإصلاحات الجبائية التي ترفع راية العدالة، فإن هذه الإصلاحات غالبًا ما تُبقي الطبقة المتوسطة في مركز العبء الضريبي، دون استفادة حقيقية توازي ما يُمنح للفئات الهشة أو المستثمرين الكبار. بيد أنه في الوقت نفسه، ومع انتقال الاقتصاد نحو قطاعات تكنولوجية ومعتمدة على الكفاءة العالية، يواجه شريحة كبيرة من الطبقة المتوسطة خطر التراجع الاجتماعي، خصوصًا أولئك الذين تفتقر مهاراتهم إلى متطلبات الاقتصاد الجديد. هذه الدينامية العكسية تعرض الطبقة المتوسطة لخطر "التآكل البطيء"، مما يحولها من رافعة للاستقرار والتنمية إلى فئة قلقة مهددة بالانزلاق نحو الهشاشة. فالطبقة المتوسطة، كونها حجر الزاوية لأي مشروع تنموي واجتماعي ناجح، تمثل اليوم في المغرب "المنسية الكبرى" في السياسات والخطابات الرسمية، رغم دورها المحوري في تحقيق التوازن والاستقرار الاجتماعي. ويعكس تهميش قضاياها ضعفًا في الاهتمام بالعقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، حيث يعد تآكل هذه الطبقة دليلاً على إخفاق العقد في تلبية تطلعات المواطنين، مما يزيد من الفوارق الاجتماعية. . لذلك، بات من الضروري إعادة وضع الطبقة المتوسطة في صلب السياسات التنموية، والعمل على دعمها وتمكينها لتعزيز العدالة الاجتماعية وضمان استمرار التضامن الوطني. ويبقى الهدف هو ترسيخ مكانة هذه الطبقة كصمام أمان للمجتمع، دون تحويلها إلى مصدر قلق منهجي. وتتجلى هذه المفارقات في تعامل الحكومة مع هذه الطبقة في عدة محاور رئيسية: أ.المحور الاجتماعي–الاقتصادي: نمو غير شمولي رغم نمو الناتج الداخلي وخلق آلاف مناصب الشغل، تبقى البطالة مرتفعة (13.3%) بسبب اعتماد القطاعات الرائدة على الرأسمال والتكنولوجيا أكثر من اليد العاملة، إضافة إلى فقدان القطاع الفلاحي مئات الآلاف من الوظائف، ناهيك عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وما يترتب عنه من ضغط على القوة الشرائية وضعف قدرة الادخار وإمكانيات الاستثمار. ب. محور الحكامة وضعف الاستراتيجيات القطاعية قطاع السيارات: "المقود ذو أربعة أعطال" يُقدم قطاع السيارات في مشروع الحكومة كواجهة للنجاح الصناعي المغربي، إلا أن حكامته تكشف عن اعتماد مفرط على عوامل خارجية، إذ تأثرت الصادرات خلال السنة الجارية بتباطؤ الطلب في سوق الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى مشاكل جودة في مصنع رئيسي (Stellantis).كما أن الانتقال نحو تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية لا يضمن الاستقلالية الصناعية، بل قد يحل تبعية السوق الأوروبية بتبعية أخرى للتكنولوجيا ورأس المال الصيني، مما يجعل مفهوم "السيادة الصناعية" و قدرة "الإدماج" نسبيًا، وربما مجرد مرحلة انتقالية ضمن مخطط أجنبي. قطاع الفوسفاط: "الذهب الأخضر والدراجة أحادية العجلة" رغم الأداء القوي للمجمع الشريف للفوسفاط، يظل اعتماد المغرب الكبير على هذا القطاع نقطة ضعف استراتيجية، خصوصًا فيما يتعلق بالتوازنات الخارجية. فالظروف الراهنة، مثل ارتفاع الطلب وقيود الصين، مؤقتة بطبيعتها ولا تعكس استقرارًا دائمًا. لذلك، يصبح تنويع القاعدة الاقتصادية الوطنية وتعزيز قطاعات جديدة، مثل الصناعة التحويلية، ضرورة حتمية لضمان صمود الاقتصاد واستقراره وتقليل تأثير الصدمات الخارجية. حكامة الاستثمار العمومي: المخاطر والتحديات يُقدم الاستثمار العمومي كمحرك للنمو، لكن الحكامة الفعلية لهذا "البحر من الاستثمارات" تثير تساؤلات جدية: تأثير المزاحمة (Effet d'Eviction): ضخامة الاستثمار العمومي قد تستحوذ على الموارد المالية واليد العاملة المؤهلة على حساب القطاع الخاص المنتج وغير المرتبط بهذه المشاريع. الربحية الاجتماعية: هل استثمارات البنية التحتية (كالملاعب والقطار فائق السرعة) هي الأكثر كفاءة في مواجهة التحديات الهيكلية (التعليم، الصحة، تدبير الماء في الوسط القروي)؟ أم أنها تخدم بالأساس منطق الصورة والهيبة، مما قد ينتج "كاتدرائيات في الصحراء" بعد انتهاء الفعاليات؟ ج. المسكوت عنه أو الدلالات المفقودة تُبرز القراءة السيميائية المتعمقة عدة قضايا غائبة أو مُقلّلة في الوثيقة الرسمية: أزمة الماء: تُذكر كعامل ظرفي يؤثر على الفلاحة فقط، بينما هي إشكالية هيكلية وجودية تهدد نموذج التنمية بأكمله، بما في ذلك الصناعة والسياحة والطاقة والاستقرار الاجتماعي، خاصة أنه من المعلوم أن الحلول التقنية كتحلية المياه تظل مكلفة فيما يخص الفاتورة الطاقية إضافة أنها تخلق تبعيات جديدة لأصحاب التكنولوجيا المتخصصة. الاقتصاد غير المهيكل: غائب تمامًا من التحليل الرسمي، رغم كونه المخفف الاجتماعي الرئيسي في البلاد ومصدر عيش الملايين. فقد تم تجاهله، أو التقليل من أهميته في عرض أرقام البطالة وفرص الشغل الرسمية. اقتصاد الريع: إن أعمق النقاط التي تجنب الخطاب الرسمي الخوض فيها هي استمرار هيمنة اقتصاد الريع (L'économie de rente). فخلف سردية "الحداثة التنافسية" و"مجتمع الأداء" و "حكومة الكفاءات"، لا يزال جزء كبير من الثروة الوطنية يُولَّد ليس عن طريق الابتكار والإنتاجية، بل عبر استغلال الموارد الطبيعية (كالفوسفاط والصيد البحري والفلاحة) أو عبر الامتيازات والمواقع الاحتكارية التي تمنحها الدولة في قطاعات شبه محمية. هذا المنطق الريعي هو النقيض المباشر لخطاب الاستحقاق والكفاءة، وهو يتجسد في ممارسات ترنو إلى مفهوم "الوزيعة" في المناصب العليا واحتكارات بعض القطاعات الحيوية. ومن المنطقي أن الصمت عن هذا الواقع والاكتفاء بالرواية الرسمية يسمح ببناء أسطورة اقتصاد مفتوح، بينما في العمق، تستمر آليات غير تنافسية في توزيع الثروة والسلطة، مما يعزز الفوارق ويقوض أسس التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. الاقتصاد المعيشي: في المقابل تماماً للاقتصاد الريعي الذي يمركز الثروة، يوجد واقع آخر يتجاهله الخطاب الرسمي بالكامل، ألا وهو الاقتصاد المعيشي. (L'économie de subsistence ou vivrière) يشمل هذا الاقتصاد ملايين المواطنين، خصوصًا في العالم القروي والمناطق المهمشة، لكنه يغيب عن مؤشرات النمو الكبرى. بطبيعته، يقتصر على ضمان البقاء اليومي دون تحقيق فائض أو استثمار حقيقي. أما برامج الدعم الاجتماعي المباشر، التي تتباهى بها الحكومة، فهي ليست أدوات تنموية من منظور نقدي، بل آليات لإدارة واقع هذه الفئة من المواطنين، والحفاظ على السلم الاجتماعي. الصناديق الغير المعلنة : يضاف إلى الغير المعلن عنه في خطاب الحكومة الصمت المطبق حول شفافية تدبير بعض الصناديق الغير الخاضعة للمراقبة البرلمانية، والتي تُوظَّف خارج الميزانية العمومية لتمويل مشاريع أو مصالح غير خاضعة للمساءلة، مما يُعزز ثقافة التعتيم ويُضعف مبادئ الحكامة الرشيدة. التفاوتات المجالية: المتوسطات الوطنية تخفي فجوة عميقة بين المغرب الساحلي المندمج في سلاسل القيمة العالمية، والمغرب الداخلي والقروي الذي يعاني من أزمات فلاحية وضعف انعكاسات الاستثمارات والخدمات. وهذه المفارقة المجالية ترمز إلى معاملة جغرافية حسب تنطيق مغرب نافع وآخر غير نافع. صراع الأزمنة (Conflit des Temporalités): تركز الوثيقة على المدى القصير (سنوي وثلاثي)، بينما تبقى التحديات الكبرى للمغرب ذات طابع طويل الأمد، بل وجيولوجي أيضا، مثل الإجهاد المائي الهيكلي، تآكل التربة، والتغيرات الديموغرافية. فالحلول المطروحة في المشروع تشبه "حلول عرضية" بيد أن المغرب يواجه أزمةً نظامية وبنيوية تتطلب إعادة بناء شاملة للنموذج التنموي والاقتصادي يأخذ بعين الاعتبار رؤية شاملة مع برامج مندمجة تتلاءم والظروف العالمية الحالية، خصوصا قدوم النظام العالمي الجديد مزدوج القطبية الذي يلوح في الأفق. غياب توطين القطاع الثلاثي : يُظهر التحليل السيميائي أن "توطين القطاع الثالثي" في المغرب يواجه مفارقة، فخلف صورة الحداثة والانفتاح عبر قطاعات تنافسية عالمياً، هناك غياب توطين حقيقي وشامل لقطاع الخدمات، حيث ينقسم القطاع إلى جزء نخبوي متكامل ومتجانس فيما بينه وجزء كبير غير مهيكل يشمل أنشطة متنوعة، كتلك المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي ويعمل كآلية للتخفيف الاجتماعي، وهذه من نتائج العقد الاجتماعي الضمني الذي يميّز رمزيا بين "مغرب نافع" وبقية المجتمع. من ناحية أخرى، تبقى أبرز النقاط الغائبة في الخطاب المالي الرسمي هو السكوت حول الأزمة الهيكلية التي تعاني منها صناديق التقاعد، وعلى رأسها الصندوق المغربي للتقاعد (CMR) والذي أضحى "الفزاعة" التي تشهرها الحكومة كلما ضاق بها الأمر. ويمثل العجز المتراكم لهذا الصندوق "قنبلة موقوتة" تهدد استدامة المالية العمومية والسلم الاجتماعي على المدى المتوسط والبعيد، وتشكل ديناً ضمنياً هائلاً على عاتق الدولة والأجيال القادمة من الموظفين. إن إغفال هذه الأزمة يقدم، لا محالة، صورة وردية ومؤقتة عن توازنات الميزانية، لكنه يتجاهل حقيقة أن كل يوم يمر دون إصلاح جذري يفاقم العبء المستقبلي. هذا الصمت ليس تقنياً، بل هو اختيار سياسي يعكس صعوبة الموازنة بين الانضباط المالي قصير الأجل ومبدأ العدالة بين الأجيال (l'équité intergénérationnelle) ، ويؤجل المواجهة مع إصلاحات لا تحظى بشعبية ولكنها ضرورية. د. الرؤية الاجتماعية والفلسفية (إعادة تعريف العقد الاجتماعي) تكشف وثيقة المشروع المقدمة للمناقشة ضمنيًا عن عقد اجتماعي جديد لم يُعلن عنه صراحة، مختلف عن العقد التقليدي ما بعد الاستقلال، الذي كان يقوم على وعد بالتوظيف كحق لكل المغاربة لتحقيق الارتقاء الاجتماعي عبر المدرسة، ودعم واسع لتكاليف المعيشة المنخفضة. إلا أن الممارسات الحالية فيما يخص التوظيف خصوصا في المناصب العليا توحي عكس ذلك، إذ تشكل حسب المفهوم السيميائي "معضلة دلالية"، يتجسد مدلولها في تناقض الخطاب الرسمي مع الواقع، فقد طغى منطق "الوزيعة"، أي المحسوبية، على عملية التعيينات إلى حد فقدان الثقة والإحباط وعزوف الكفاءات عن عملية الترشح. إن هذه الممارسة، التي تبدو في الظاهر مجرد انحراف إداري، هي في جوهرها تجسيدٌ لازدواجية عميقة في بنية الدولة ومنطق تدبيرها. فهناك الدولة الظاهرة، دولة القانون والمؤسسات والمساطر الرسمية التي تتغنى بمبادئ الاستحقاق وتكافؤ الفرص. وهناك، في المقابل، الدولة الباطنة، وهي بنية غير مرئية لكنها هي المهيمنة فعلياً، لا تحكمها نصوص القانون بل تحكمها قواعد الولاء وشبكات النفوذ وتبادل الامتيازات. وعندما يتعلق الأمر بالمناصب العليا، أي مفاصل السلطة الحقيقية، فإن منطق الدولة الظاهرة يتوارى ليترك المكان كاملاً لمنطق الدولة الباطنة. وهنا يبرز "منطق الوزيعة" كقانون أساسي لهذه الدولة الخفية. فالوزيعة ليست مجرد محسوبية عابرة، بل هي نظام متكامل لتوزيع مغانم السلطة، تُقتَسَم فيه المناصب العليا لا باعتبارها وظائف تقتضي الكفاءة لخدمة الصالح العام، بل باعتبارها حصصاً أو ريعاً يُمنَح للأتباع والموالين. في هذا النظام، تتقدم عقيدة الولاء على كفاءة الأداء، ويصبح المعيار الأسمى للتعيين ليس القدرة على الإنجاز، بل ضمان خدمة مصالح الشبكة التي ينتمي إليها المسؤول. وهكذا، تتحول الإدارات والمؤسسات الكبرى من أجهزة لتنفيذ السياسات العامة إلى إقطاعيات تابعة لدوائر النفوذ. سادسا: العقد الاجتماعي الضمني الجديد في مشروع قانون المالية 2026 توزيع الوعود والمسؤوليات حسب الفئات الاجتماعية: توزّع السياسات الاقتصادية وعودها بين أقلية مؤهلة ومنظمة في القطاعات التنافسية تُمنح فرص الاندماج في الاقتصاد والنمو، وبين جماهير مهمشة تُدار حاجاتها بمساعدات محدودة تضمن البقاء، وبين طبقة متوسطة تقليدية منسية تتآكل بفعل التضخم وتردي التعليم والصحة والتي تحاول التأقلم مع الوضع مع الأمل في مستقبل أفضل بما في ذلك الهجرة إلى الخارج. مُجتمَع ينمو بسرعات متعددة: اختلاف عن النموذج الذي تقدمه الحكومة، فالسائد يصنع وعيا مجتمعًا حسيا تتعايش فيه "سرعات" مختلفة للنمو وتتأرجح فيه الطبقات فيما بينها. فلم تعد الدولة بمثابة "الدولة-الراعية" تدمج الجميع، بل تحولت إلى "دولة-مدبرة" تصنف المواطنين بين "القادرين على التعامل مع المؤسسات المالية" و"المحتاجين إلى دعم للبقاء"، وكل هذا بهدف الحفاظ على السلم الاجتماعي إبان الولاية الحكومية. النموذج البشري ومعنى التقدم: بالرجوع إلى القاعدة السيميائية السالفة الذكر، التي ترى أن مشروع قانون المالية ليس مجرد وثيقة مالية، بل نصًا سياسيًا حضاريًا يعكس تحوّلًا فلسفيًا عميقًا في بنية العقد الاجتماعي، تكشف القراءة السيميائية أنه بينما كان المواطن يُنظر إليه كجزء من جماعة تحتاج إلى حماية وضمانات، أصبح يُعاد تشكيله ك"فرد مرن" يتحمل وحده عبء التكيف والمنافسة والصمود في بيئة اقتصادية متقلبة. وفي هذا الإطار، تتخلى الدولة عن دور "الحامي" لتتبنى دور "المدرب" الذي يهيئ شروط السوق، ويحسّن مناخ الأعمال، ويعزّز مهارات العمل، ليس كغاية في ذاتها، بل كوسيلة لرفع كفاءة رأس المال البشري في خدمة النموذج الاقتصادي السائد. وبذلك، يتحول المواطن من مستفيد من شبكة حماية اجتماعية، إلى عنصر منتج يُقاس بقيمته السوقية وأدائه الفردي، في انتقال صريح من مجتمع التضامن إلى مجتمع الأداء والانتقائية. البحث المضني عن الاعتراف الدولي: كل من التركيز المكثف على ثقة الأسواق وتقييمات الوكالات الدولية ونجاح إصدار السندات ثم تنظيم الأحداث العالمية، يعكس سعيًا حثيثًا للاعتراف في الساحة الدولية، إذ يسعى المغرب إلى تأكيد "صلاحية وجوده وحداثته" في نظر الآخر، أي المستثمر الدولي، أو خبراء صندوق النقد الدولي، والخطر هنا هو بناء دولة "مصنفة جيدًا" على الورق، مع نسيان بناء دولة توفر العيش الكريم لمواطنيها. سابعا: الانتقادات الرئيسية الموجهة لمشروع قانون المالية لسنة 2026 رأي المعارضة ترى المعارضة أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يفتقر للمصداقية ويتسم بانتقائية في عرض البيانات، حيث تتهم الحكومة بتقديم مؤشرات انتقائية و"تفاؤل مفرط" من وزارة الاقتصاد والمالية، رغم السياق الجيوسياسي المليء بالمخاطر (حرب غزة وأوكرانيا، وارتفاع التعريفات الجمركية الأمريكية) .كما تنتقد المعارضة الاعتماد المفرط على العوامل المناخية، معتبرة أن بناء سياسات اقتصادية على فرضيات غير مؤكدة للتساقطات المطرية يمثل مجازفة غير محسوبة. وتشير الهيئة كذلك إلى التلاعب بالمؤشرات الاقتصادية، عبر تعديل أرقام سنوات 2019 و2020 و 2021 لخدمة رواية حكومية معينة، مطالبة باعتماد سنة مرجعية موحدة تضمن التقييم الموضوعي للانجازات الحكومية. من جهة أخرى، وفيما يخص ملف التجارة الخارجية، أبرزت المعارضة ظاهرة استمرار العجز الهيكلي (198 مليار درهم صادرات مقابل 331.7 مليار واردات سنة 2025 ) وهو عجز واضح وكبير على مستوى الميزان التجاري، واتهمت الحكومة بتقويض السيادة الغذائية والصناعية من خلال ضعف دعم "التصنيع في المغرب". أما فيما يتعلق بالقطاع الزراعي، فتسجل المعارضة مفارقة واضحة تخص ارتفاع الصادرات الزراعية بنسبة +22% مقابل استمرار غلاء الأسعار بالسوق الداخلي وانهيار الثروة الحيوانية المحلية. وبخصوص الاستثمار الأجنبي المباشر، أشار الفرق المعارض بالبرلمان إلى تدني مستوياته (1.6 مليار دولار سنة 2024 مقابل أكثر من 40 مليار دولار حققتها مصر مثلا) . كما شكك الفريق ذات في نزاهة سياسات الجذب، متسائلة عما إذا كانت تخدم الصالح العام أم مصالح خاصة مرتبطة بمسؤولين حكوميين بعينهم، إذ انتقد احتكارات المحروقات، حيث أوضح أنه لم تنعكس الانخفاضات العالمية لأسعار النفط على السوق المحلية، مع تحقيق شركات التوزيع (خصوصاً المرتبطة برئيس الحكومة) أرباحًا "فاحشة".وقد ذهبت بعض الأحزاب المعارضة إلى القول أن هذا الإطار المالي المقدم لها مليء بالتناقضات ولا يخدم سيادة البلد ولا يعزز ثقة المواطنين في الدولة. رأي الخبراء الاقتصاديين يجد هذا التفكيك السيميولوجي للسردية الرسمية صدى مباشراً، وإن صيغ بلغة مختلفة،وذلك في الانتقادات السياسية والتقنية التي يوجهها كلّ من المعارضة والخبراء المستقلين في ميدان الاقتصاد والمالية العمومية والصادرة في الجرائد الوطنية، والتي يمكن تلخيصها كالتالي: غموض آليات التمويل: غياب تفاصيل عملية لما يسمى "التمويل المبتكر". انفصال عن المشاريع الوطنية الكبرى: عدم ربط الميزانية بكأس العالم 2030 أو بإعادة إعمار المناطق المنكوبة. غياب مؤشرات الأداء: عدم وجود معايير قابلة للقياس، رغم تبني شعار "ميزانية مبنية على النتائج". مخاطر التوسع الضريبي: التحذير من أثر توسيع الوعاء الضريبي على الطبقة المتوسطة والقطاع غير المهيكل. عدم التوازن بين ميزانية التسيير والاستثمار، إذ يتوقع أن تبلغ النسبة المئوية لميزانية التشغيل من إجمالي الميزانية لعام 2026 65.45%، ومنها نفقات الموظفين التي تعتبر خللا يستوجب إصلاحا بنيويا للتحكم في كتلة الأجور وترشيد اقتناء مواد الاستهلاك والخدمات. نقاط ضعف هيكلية مدمجة في التحليل يكشف التحليل عن نقاط ضعف هيكلية في مشروع قانون المالية، من هشاشة أمام التقلبات المناخية حيث النمو المتوقع (4.5%) مرهون بوفرة الأمطار، رغم تكرار موجات الجفاف، تليها التبعية المفرطة للسوق العالمية حيث تم تبني فرضيات غير واقعية (برميل النفط ب65 دولارًا، الغاز ب500 دولار للطن في بيئة جيوسياسية مضطربة) ، و من تم إلى تحديات العدالة الاجتماعية التي تسعى إلى توسيع الحماية الاجتماعية دون الإشارة إلى كيفية ترجمة الوعود إلى نتائج ملموسة (وكمثال، لا للحصر: الدعم المباشر للسكن، المقاصة، تعميم التغطية الصحية، إعادة إيواء سكان الحوز، إلخ)، هذا فضلا على تراجع كبير للاستثمارات الخارجية مقارنة مع الدول الإفريقية مثل مصر، إثيوبيا وساحل العاج ودول أخرى. ويُقرأ صمت وثيقة الظرفية الاقتصادية عن هذه المخاطر كخيار سياسي مقصود للحفاظ على تماسك نموذج التنمية القائم. الخاتمة: من فك شفرة الأرقام إلى فك شفرة المستقبل. يُظهِر الاقتصاد المغربي مرونة خارجية ملحوظة مدعومة بارتفاع تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج وانتعاش قطاع السياحة، مع تعزيز الاحتياطيات الرسمية إلا أن التحديات الهيكلية تظل قائمة، أبرزها: عجز تجاري هيكلي مدفوع بالتبعية الطاقية (20% من الواردات). ضغوط على المالية العامة بسبب صعوبة كبح النفقات الجامدة (الأجور + فاتورة الدعم) محدودية مصادر التمويل وضعف أسواق رأس المال وإلى جانب الانتقادات الموجهة لمشروع قانون المالية لسنة 2026، والمتمثلة في نقص الشفافية، المبالغة في الفرضيات، تناقضات الاستراتيجية الصناعية، مخاطر الإصلاحات الضريبية، وضعف الواقعية الهيكلية، تكشف القراءة السيميائية أن النص المالي يتجاوز طابعه التقني ليشكل سردية مكثفة تحمل دلالات عميقة. فالأرقام والمشاريع والأولويات، وحتى المسكوت عنه، رموز منتقاة بعناية لتروي قصة تحول نحو مغرب جديد قائم على حداثة تنافسية ومنفتحة. لكن هذه السردية، رغم بريقها، تخفي تكاليف اجتماعية ونقاط ضعف واضحة كغياب إدماج الاقتصاد غير المهيكل، وتهميش أزمة الماء كقيد وجودي، وضعف ترجمة خطاب الاستثمار في الرأسمال البشري إلى واقع ملموس، فضلًا عن غياب رؤية استراتيجية متكاملة لعدد من المشاريع المهيكلة الكبرى مثل المبادرة الأطلسية، الموانئ العملاقة، المدن الذكية، والاقتصاد الأخضر. حيث تظل هذه المبادرات، رغم أهميتها، منفصلة عن رؤية تنموية شمولية تضمن انسجامها مع أولويات العدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية. والسؤال الجوهري هنا ليس اقتصاديًا فقط، بل وجوديًا: ما هي السردية الوطنية التي تريد تبنيها الحكومة؟ ومن المستفيدين منها ومن هم ضحاياها؟ يشير التحليل إلى أن المغرب يتقن لغة النظام العالمي الجديد من مؤشرات وكالات التنقيط إلى تنظيم الأحداث الكبرى، لكن الخطر يكمن في أن يؤدي استيعاب هذه اللغة إلى فقدان القدرة على رواية قصة الذات بشروطها، ما يخلق اغترابًا سرديًا عن الهوية والمصير المشترك للمغاربة. فإعادة التوازن السردي، مترع بدلالات صادقة، واقعية وغير شعبوية، تتطلب إصلاحات بنيوية تركز على الشفافية والحكامة الجيدة والعدالة الاجتماعية لتسريع هيكلة السيادة في جميع القطاعات الحيوية، توسيع عادل للوعاء الضريبي، تطوير أسواق رأس المال لتعزيز الاستدامة المالية والنهوض بالرأسمال البشري. وعليه، فقد تحولت القراءة السيميائية من أداة لتفكيك الخطاب الرسمي الحكومي إلى بوصلة لإعادة البناء، نحو مغرب حديث، عادل، وراسخ في هويته، قادر على عصرنة تدبير شؤونه. حيث أبانت القراءة السيميائية أن الخطاب السياسي يسعى إلى إثارة المشاعر الجماعية وإدارتها، إذ يحاول بها خطاب مشروع قانون المالية أن يبني «مسارًا انفعاليًا» لكل الفاعلين الاقتصاديين. ثم لا يمكن إغفال أيضا أن الخطاب يلحّ بشكل كبير على «ثقة» الشركاء ووكالات التصنيف. وفي سيميائيات الانفعالات، لا تُعتبر الثقة حالة ثابتة، بل قيمة هشة يجب إعادة تدويرها وصيانتها باستمرار عبر تقديم الأدلة (الأرقام الجيدة، التقارير الإيجابية، المؤشرات الخضراء). وأخيرا ، وفق هذا التحليل يتبين أن الخطاب يحاول تطبيق نظرية إدارة القلق (خصوصا المتعلق بالتضخم والبطالة والحقوق مقابل الواجبات) ويتم ذلك عبر تحويل بعض الفقرات إلى مشكلة فردية تتعلق ب«المرونة» الشخصية للمواطن، أو من خلال احتوائه عبر مساعدات موجهة، بدل الاعتراف بأن الوعي بالانتماء هو شعور جماعي ناتج عن شجاعة الإفصاح ثم قدرة حل الإشكاليات الهيكلية التي تواجهها الأمم. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة