حين تتآكل الثقة في المؤسسات، وتتحول الأغلبية البرلمانية إلى حائط صدّ يحمي الحكومة من كل مساءلة، وحين تختار بعض أطياف المعارضة الاصطفاف الصامت بدل الدفاع عن روح الدستور ومصالح المواطنين، تصبح القبة البرلمانية مكانًا فارغًا من المعنى، ويصبح من الطبيعي أن تنتقل معركة المحاسبة إلى حيث تُطرح الأسئلة الحقيقية: في الشارع، في الأحياء الشعبية، وفي القرى والمداشر. لقد تم إفشال ملتمس الرقابة الذي تقدم به الفريق الاشتراكي، ليس فقط بتحالف الأغلبية، بل بتواطؤ مكشوف – أو صامت – من أطراف في المعارضة. وكأن هناك اتفاقًا ضمنيًا على حماية الحكومة من الحساب، وتجنيبها فتح ملفاتها السوداء، خاصة في القطاعات التي تمسّ حياة الناس بشكل مباشر، وعلى رأسها أزمة التشغيل. في مواجهة هذا الانسداد، لم يختر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية التراجع أو الصمت. بل بادر، انطلاقًا من مسؤوليته السياسية والأخلاقية، إلى كسر هذا الجدار، ونقل النقاش إلى حيث يجب أن يكون: بين المواطنات والمواطنين. هكذا وُلدت مبادرة «المحاكمات الشعبية»، كمبادرة ميدانية تعبّر عن رفض صريح للعبث السياسي، وترتقي بالرقابة من مستوى النخب المتواطئة إلى مستوى الشعب الواعي، المتضرر، الغاضب. ليست المحاكمات الشعبية ترفًا خطابيًا أو مجرد رد فعل عابر، بل هي إعادة إحياء لدور السياسة كأداة للإنصات والمحاسبة. إنها منصة جماعية لفضح اختلالات السياسات العمومية، وتعرية فشل النموذج الاقتصادي القائم، وفضح منطق التمويه الذي يحاول تصوير الأزمة كمجرد أرقام في تقارير رسمية، في حين أن الواقع يكشف عن بطالة متفشية، وهشاشة متزايدة، وتهميش مقصود لفئات واسعة من الشباب. بهذا التوجه، يؤكد حزب القوات الشعبية أنه لا يخوض معاركه من أجل المواقع، بل من أجل القضايا العادلة، وأن السياسة – كما ينبغي أن تكون – ليست أداة للتهرب من المسؤولية، بل وسيلة للإصلاح والتغيير، وإنصاف المواطنين. فملتمس الرقابة قد سقط في البرلمان، نعم، لكن الحقيقة وُلدت من جديد في الشارع، أقوى وأكثر وضوحًا، مدفوعة بصوت الناس لا ضجيج المقاعد. ولذلك سنُخصص هذا المقال لتسليط الضوء على أزمة التشغيل، لما لها من ارتباط وثيق بالدورة الاقتصادية، وبمستويات العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروات، واستقرار السلم المجتمعي. فالتشغيل في المغرب لم يعد مجرد مطلب اجتماعي مشروع، بل غدا مؤشرًا كاشفًا لاختيارات سياسية واقتصادية تُعيد إنتاج الفوارق، وتُقوّض أسس التنمية العادلة، وتحكم على فئات واسعة من الشباب بالهامش واليأس. وفي هذا السياق، تصبح السياسة، كما يفهمها الاتحاد الاشتراكي، وسيلةً للإنصات الفعلي والتجاوب مع انتظارات المواطنين، لا ذريعةً للهروب من المحاسبة أو الالتفاف على جوهر الديمقراطية. التشغيل والبطالة: مرآة لعجز الحكومة عن الربط بين النمو والتنمية تُظهر الأرقام الرسمية فداحة الوضع الذي يعيشه سوق الشغل في المغرب، حيث بلغ معدل البطالة 21.3%، وارتفع بشكل مقلق إلى 37.7% في صفوف الشباب، وقرابة 20% لدى حاملي الشهادات، فيما تسجل النساء نسبة بطالة تناهز 18.5%، رغم تفوقهن في التعليم العالي (يشكلن 54.7% من الطلبة، حسب وزارة التربية الوطنية لسنة 2023). هذه الأرقام لا تمثل مجرد مؤشرات تقنية ظرفية، بل تعكس أزمة بنيوية عميقة، تُجسد انهيار العقد الاجتماعي، وتُظهر بما لا يدع مجالاً للشك فشل الحكومة في تحويل النمو الاقتصادي إلى تنمية حقيقية قائمة على الإدماج والعدالة الاجتماعية. فرغم تحقيق الاقتصاد المغربي لمعدل نمو متوسط بلغ 3.8% بين 2010 و2022، فإن معامل مرونة التشغيل لهذا النمو لا يتجاوز 0.3، مقارنة ب0.7 في دول ذات تركيبة اقتصادية مماثلة مثل تركيا، ما يعني أن النمو الحالي غير قادر على توليد فرص شغل كافية. فالمغرب، الذي يزخر بمؤهلات جغرافية وبشرية وإنتاجية متنوعة، ويشهد مشاريع مهيكلة كبرى منذ عقدين، لا يزال رهينًا لقطاعات غير منتجة مثل العقار والسياحة، التي تمثل 68% من الناتج الداخلي الخام، بينما لا تتجاوز مساهمة القطاع الصناعي 12%، وفقًا لتقارير البنك الدولي (2022). والمفارقة أن هذا البلد، بدل أن يتحول إلى فضاء لإنتاج الشغل بفضل موارده وتوجيهات عاهل البلاد، بات يعمّق الفجوة بين طبقاته الاجتماعية، بفعل خيارات نيوليبرالية غير منتجة، تعجز عن الاستجابة لانتظارات الشارع المغربي. فقد فشلت الحكومة، رغم ما تمتلكه من أدوات تنفيذية وتحكمها في مختلف مستويات القرار الترابي والمهني، في تحويل التوجيهات الملكية الواضحة بشأن تفعيل ورش الحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية، وتعزيز فرص التشغيل، إلى واقع ملموس. لم تُحدث مناصب شغل قارة، ولا استطاعت بلورة سياسات دامجة وفعالة، بل اكتفت برفع شعارات إعلامية ومقترحات غير مهيكلة. وبرامج مثل «فرصة» و»أوراش»، التي روّجت لها الحكومة كأجوبة على أزمة البطالة، لم تتجاوز كونها مسكنات مرحلية. غاب عنها التنسيق، وانعدم فيها التقييم والجدوى. فبرنامج «فرصة»، على سبيل المثال، لم يخلق سوى 62 ألف منصب مؤقت خلال سنة 2022، في حين يتجاوز الطلب السنوي على سوق الشغل 400 ألف. أما «أوراش»، فاستُنزفت فيه ميزانيات ضخمة دون أثر واضح على الإدماج المهني، وظل رهان الحكومة عليه هشًا، يبرّره السياق المناخي تارة، دون الاعتراف بأن عمق الأزمة اقتصادي-سياسي، لا بيئي ظرفي. في المقابل، أظهرت تجارب دول أخرى ذات بنية اقتصادية واجتماعية مشابهة أن مواجهة البطالة لا تتحقق عبر الخطابات والوعود، بل من خلال سياسات ميدانية عملية، تربط بين التكوين والتشغيل، وتُفعّل آليات تمويل حقيقية للمقاولات الصغرى، وتطلق برامج عمومية قائمة على منطق النتائج. أما في المغرب، فإن غياب هذه الرؤية أدى إلى تعميق فجوة الثقة بين الشباب والدولة، وحوّل مسألة التشغيل من مطلب اجتماعي إلى أزمة بنيوية تهدد الاستقرار المجتمعي وتضع النموذج التنموي القائم موضع تساؤل. حكومة بلا رؤية: من البرامج الموسمية إلى تفويت البدائل في ظل هذا الواقع القاتم، تكشف السياسات الحكومية المعتمدة خلال السنوات الأخيرة عن غياب رؤية إصلاحية متماسكة، وعجز بيّن عن إبداع حلول ميدانية فعالة لمعضلة التشغيل. الوعود الحكومية، التي كثر ترويجها إعلاميًا، اصطدمت بواقع اجتماعي صلب، وتجسدت في برامج سطحية قصيرة المدى مثل «فرصة» و»أوراش»، والتي تحولت عمليًا إلى أدوات لامتصاص الغضب بدل أن تكون حلولًا هيكلية. لكن ما يثير القلق أكثر، ليس فشل هذه البرامج فقط، بل إقصاء البدائل الحقيقية بشكل متعمد. فمنصات الوساطة المهنية، التي كان يُفترض أن تكون جسرًا بين العرض والطلب، لم تُفعل، وبقيت مجرد شعارات في التصريحات الرسمية. الدعم الضريبي والتقني للمقاولات الصغرى ظل حبيس النوايا، حيث لم تُخصص له سوى 1.2 مليار درهم، في مقابل 7.8 مليار دُعمت بها الطاقة خلال سنة واحدة فقط (2023). كما أن السياسات الموجهة للفئات الهشة غابت تمامًا، إذ لا تتجاوز نسبة إدماج الأشخاص في وضعية إعاقة في سوق الشغل 12%، مقارنة ب40% في تونس حسب تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان. أما الاقتصاد الأخضر، الذي يمثل فرصة واعدة لخلق مناصب شغل مستدامة، فقد تم تهميشه بالكامل، إذ لم يستفد سوى ب0.9% من الاستثمارات العمومية (وزارة الطاقة، 2023)، ما يُبرز افتقار الحكومة إلى أي استراتيجية حقيقية للاستثمار في مستقبل التشغيل وتحويل التحديات البيئية إلى فرص اقتصادية واجتماعية. هذا الإقصاء المنهجي للبدائل، يقابله تغوّل لمنطق الريع وتفويت الدولة الاجتماعية. فقد اختارت الحكومة تبني نموذج نيوليبرالي فج، تم بموجبه خوصصة المؤسسات العمومية، مع تقليص ميزانية الاستثمار الاجتماعي إلى 5.2% فقط من الناتج المحلي، مقارنة ب12% في البرازيل. والقطاع العام، الذي كان يُفترض أن يقود دينامية الإدماج، لم يعد يشغّل سوى 8% من اليد العاملة، في ظل انكماش دوره لصالح قطاع خاص غير محفّز ومجزأ. ويؤكد تقرير المنظمة المغربية لحماية المال العام (2022) أن 12 عائلة فقط تسيطر على 85% من الصفقات العمومية، فيما تذهب 72% من الاستثمارات الأجنبية إلى قطاعات غير إنتاجية كالعقار والسياحة، وهو ما يكرّس الريع ويعمّق الفوارق الطبقية والمجالية. ويكفي التذكير بأن نسبة كبيرة من مستعملي القطار السريع ينتمون إلى الطبقة المتوسطة والطبقة الميسورة، لتتضح معالم إقصاء ممنهج للطبقات الشعبية من الاستفادة من ثمار المشاريع الكبرى. وهكذا، يتحول الشغل من حق دستوري إلى مرآة لسياسات منحازة، لا تنتج إلا مزيدًا من التهميش، ومزيدًا من انعدام الثقة، ومزيدًا من الفرص الضائعة لبناء نموذج تنموي عادل ومنصف. الشارع كمختبر للبدائل: من الرقابة البرلمانية إلى المحاكمة الشعبية في مشهد سياسي تختنق فيه آليات المحاسبة، حيث تحولت الأغلبية (التي تمتلك 44.3% من المقاعد منذ انتخابات 2021) إلى جدار صد ضد الرقابة، لم يعد أمام قوى المعارضة إلا الانفتاح على الديمقراطية التشاركية. تستند مبادرة «المحاكمات الشعبية» التي أطلقها الاتحاد الاشتراكي إلى المادتين 12 و139 من الدستور، اللتين تتيحان للمواطنين والمجتمع المدني الترافع والمساءلة، وتمنحان إمكانية تقديم العرائض وحل البرلمان باستفتاء شعبي. غير أن غياب الإرادة السياسية لتفعيل القوانين التنظيمية جعل هذه الآليات مشلولة، ومنح الشرعية للاحتجاج السلمي والمبادرات الميدانية. أزمة التشغيل: سؤال وجودي في أفق 2026 إن أزمة البطالة في المغرب، التي تهدد فئات واسعة من المجتمع، لم تعد مجرد أزمة تقنية، بل صارت مسألة وجودية تهدد استقرار الدولة وثقة المواطن. التجارب الدولية تثبت أن الحلول ممكنة: كولومبيا مثلًا خفّضت البطالة من 20% إلى 11% في عشر سنوات عبر ربط التكوين المهني بحاجيات السوق وتحفيز القطاع الخاص. في المغرب، لا نزال عالقين في نموذج تشغيل هش، قائم على العقود المؤقتة والاقتصاد غير الرسمي، وهو ما يكرّس غضبًا شبابيًا متصاعدًا، ويغذي مشاعر الإقصاء والتهميش. انتخابات 2026: لحظة الاختبار وتجديد التعاقد الديمقراطي مع اقتراب الانتخابات التشريعية لسنة 2026، تتبلور لحظة مفصلية لاختيار طريق آخر. فالمحاسبة الديمقراطية ليست ترفًا، بل ضرورة لإعادة التوازن وبناء تعاقد اجتماعي جديد. لقد سبق للناخب المغربي أن عاقب من تلاعب بثقته، واليوم تقع عليه مسؤولية دعم القوى التي لا تكتفي بالتشخيص، بل تطرح البديل الواقعي، وفي طليعتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي ظل وفياً لمبادئ العدالة الاجتماعية والدولة الراعية للحقوق والخدمات. (*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات