توطئة من أجل الاحتراس، فقط! حتى لا أُضْطَرَّ للاعتذار مرة أخرى، لأن كلامي لا يفهمه سوى أهل الكهف مثلي، بادرت دون ترخيص، في استعمال خوارزميات "رقابة" تمحص ما أكتبه وتصححه من كل شوائب الغموض، في حدود "ذكائها" الطبيعي أو الاصطناعي، المهم أن يفهم القراء المحتملون ما أكتبه. لكنني مع ذلك، أصر أنني سأبقى رهن إشارة السائلين الذين يريدون التأكد من مفرداتي أو التعبير عن خلافهم مع ما سأذكر به من مفاهيم وعتاد مرحلة، قد يعتبرها البعض بائدةً وأرى خلافه، والنقاش في هذه الحالة مُرَحَّبٌ به أكثر. الدولة: البنت البديهية لكل مجتمع منقسمٍ إلى طبقاتٍ لعا مصالح متناقضة ذكَّرْتُ في المقال السابق على القدرة الكبيرة لأغلبية أصحاب الرأي المتخصصين في التعليق على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بطلب أو بدونه، على نسيان حقائق علمية مثل انقسام المجتمع إلى طبقات لها مصالح مختلفة ومتخالفة، وعلى الحول الذي يمنعهم من الملاحظة أنَّ الدّولةَ، تُحْسِنُ تعميم الفوائدِ على الفئات المستفيدة وتعميم الفقرِ وضعف الرعاية على الفئات الفقيرة والوسطى، وفتح الآفاق الواعدة على الفئات الاجتماعية المحظوظة والمحظية وإغلاق أبواب الأمل في مستقبل كريم لشبان الفئات المهمشة والمتوسطة، أيضاً، عملاً، بمأثرة "إفقار الفقير وإغناء الغني". أشرتُ كذلك، إلى فئة أو أكثر من النخبة المناضلة، التي تخلت عن سلاح النقد، وتضعف أمام هجوم "الإيديولوجية" الكاذبة التي ترفع "الدولة" فوق المجتمع، لتجعل منها ذلك الكيان "الاجتماعي" و"الراعي" و"الحكم" الأمين على "التوازنات" الكبرى والمتوسطة والصغرى. لن أرجع إلى "مفهوم الدولة" لأن مستواي الفكري والمفاهيمي غير جديرٍ باستحضار "عبد الله العروي" ولا "نيكوس بولنتزاس" أو غيرهما من المفكرين الكبار، ولكنني سأبقى في أرض المجريات والوقائع كما هي بالدارجة في الواقع، كما أشرت إليه، أي كما تفضحه المؤشرات المعروفة عن نسب النمو والقيمة المضافة وتوزيع الدخل ومستوى الخدمات العمومية والنمو الاجتماعي والتطبيب والتعليم والمواصلات ومستوى التقدم في محاربة الريع والفساد. وتلك حالنا منذ أن فتح شباب جيل الستينيات والسبعينيات عينيه على "مستقبل الشباب في الثمانينيات" والحديث هنا عن القرن العشرين! وقد أبدع الذين ساهموا في نقاشات "تقرير الخمسينية " في توضيح المفضحات وبين ثناياه حَيَّنَت الدراسات الممهِّدَةُ ل"النموذج الجديد للتنمية" المعطيات والمؤشرات، ويمكن لقراء تقارير "المجلس الأعلى للحسابات" و"المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي" أن يغنوا معلوماتهم. ولا أبدع جديداً، لأن عدداً من المحللين وكل المناضلين يعرفون هذه الوقائع والمؤشرات ويشاركون نفس التشخيص للتناقضات "الطبقية" في المجتمع ودور الدولة في خوصصة المنافع للمنتفعين وتعميم الخسائر على الخاسرين بفعل الاختيارات المعتمدة من طرف الدولة والخطاب السائد. لكنني بقيت في الكلام الاقتصادي الذي تحسنه المعارضة منذ أول برلمان حتى حراك "جيل زاي": فماذا بعد؟ سأغامر بالتصريح بأن فشل القوى السياسية المعارضة في بلادنا منذ 1956 إلى يومنا هذا ناتج وبشكل جوهري من تصورها لمسألة الدولة في المغرب، وبالتالي لتصورها واختيارها لأسلوب المعارضة من أجل الإصلاح. وأقول الإصلاح، لأنني أعتبر أن التمييز بين الإصلاح والتغيير الثوري، في بعد أساسي منه، تمييز سفسطائي. أقولها وأنا مستعد للنقد الشديد و"الفلقة"! (وإذا أصابني مكروهٌ كبيرٌ سأعود للاستشفاء والنقاهة للكهف القديم). أغامرُ أن نخبتنا، والتي كانت في جلها، مُعارِضةً حازِمةً وصارمةً للاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بالنتيجة، تعاملت مع مسألة الدولة، كما تعامل معها المعاصرون للدول الإسلامية الأولى، ينتقدونها وينصحونها ويحنون إلى عهدها الراشد ورشدها المسترجع مع "عمر بن عبد العزيز". أليس النقد والنصيحة شكل قديم "أصيلٌ" وأصلي لمهارة الترافع، لعلَّ أولي الأمر يقيمون العدل بين الناس ويرعون شؤون البلاد؟ أليس الترافع اليومَ، كما النقد والنصيحة أمسِ، شكلٌ آخر من درء الخوف التاريخي من "الفتنة"؟ أُغامرُ بقولي هذا، وأنا، أنحني إجلالا واحتراماً للثمن الباهظ الذي قدمته نخبنا المعارضة في المغرب، وأقف بإجلال وتقدير أكبر، للأجيال من الشباب الذين انتفضوا واعترضوا ورفعوا أصواتهم فبطشت بهم الدولة في مارس 965 ويونيو 1981 و1984 و1990 و2011 وتقمعهم وتوقع القتلى والجرحى في صفوفهم وتنفحهم أحكاما بالسجن سنوات طوالا. ونحن، كما الأمس نترافع من أجل الحِلمِ والعدل والشفقةِ والحوارِ الوطني الصادق الشامل ونتضرع كي نستغل قراراً لم تتضح ملامحه ولا كلفته بعد، اتخذه مجلس الأمن، عسى أن تمطر السماء علينا دولةً رحيمةً وانتصارات أكثر في المسابقات الدولية! أعرفُ أن كلامي سينعتُ، في أحسنِ الأحوال، بالقديم المتقادم، وفي أسوَئِها، بالخطاب الشعبوي، وفي أوسَطِ الحالات، بالحنين الإيديولوجي الذي انهزم، وسيكون من بين الذين سينعتونني بكل هذه الأعراض، رفاقٌ، كانوا لي أساتذة لمعرفة "العتاد النقدي العلمي" القديم الآن، لأنهم تشربوا ب"عقلانية" الواقعية "البراغماتية"، يعتبرون أن تصالح المصالح الطبقية المتعارضة ممكنٌ، في رؤية أو نموذج تنموي وطني جديد، يجمع المستفيد في خندقٍ واحدٍ مع الذي لا يستفيد، من أجل بناء الوطن الواحد والسيادة الوطنية وبناء "الذكاء المغربي الوطني" القادر على بناء الملاعب والمستشفيات الكبرى وأبطال الرياضة والتقدم. فخُّ احتكار الوطنية يعلمنا التاريخ أن الدولة وَلَدٌ طبيعيٌّ ضروريٌّ لمجتمع الطبقات المتعارضة المصالح، وأنها، أي "الدولة" سرعان ما تنفصل لتستوي، إيديولوجياً، فوق المجتمع في سماء حقيقة مطلقة لا تاريخية، وشبه مِثالية. وما زال الأمر كذلك، ما دامت المصالح الطبقية والتباينات بين الفئات السوسيو-مهنية قائمة. من أسلحتها الرئيسية لإقناع المحكومين وإسكاتهم وثنيهم عن النضال، تستعمل الدولة سلاح "الوطنية". تبدأ بتأميم تمثيل الوطن والتحدث باسمه، ثم تنتهي باتهام كل معارضة لها بمعارضة الوطن. ألم يتهموننا بجريرة "الأفكار المستوردة" "الهدامة" بالضرورة، ومحاضر المحاكمات السياسية والنقابية فصيحة في هذا المجال! قد ينسى بعض الناس، لكن التاريخ لا ينسى، أن الوطن للجميع، ليس مِنَّةً تمنحها لمواطنيه الدولة، بل يتيحه النضال الوطني والمساهمة في الدفاع عن حوزته وتحمل أعبائه وميزانياته، بما في ذلك تبعات اختيارات رسمية فاسدة. يخبرنا تاريخ البشرية، أن الانتماء والهوية قاعدة منصة انطلاق للتقدم الواثق في القدرات الذاتية، حين تعبران عن تصالح حقيقي بين المُواطِن وهويته-انتمائه الوطني في انفتاح على أبعاده وانتماءاته الأخرى للبشرية والعدل والتقارب بين الشعوب والحضارات والرأفة بالكوكب الأزرق العزيز. ويخبرنا التاريخ أيضاً، أن انهزام أجمل حلم إنساني في العصر الحديث، أي الاشتراكية والسلام والتعايش، حصل لما باعت أكبر الأحزاب الاشتراكية في أوروبا أمميتها، مقابل الحرب والاستعمار والاضطهاد والإبادة والوهم بالتفوق العرقي أو الوطني الضيق وأساطير الشعب المختار و"الحضارة" الغربية. وتخبرنا انتفاضة الشباب في كل العالم الشمالي والجنوبي والشرقي والغربي نصرة لفلسطين والكوكب، وعد بانتصار حلمِ الإنسانية.