الجديدة.. انطلاق الدورة السادسة لأيام الأبواب المفتوحة للأمن الوطني    القمة العربية ببغداد تجدد دعمها لرئاسة الملك محمد السادس للجنة القدس    أخنوش يشيد ب"مسار الإنجازات" في العيون ويُعدد المشاريع التنموية بعاصمة الصحراء    المغرب يقرر إعادة فتح سفارته في دمشق    إسبانيا.. توقيف عنصر موالي ل "داعش" بالتعاون مع المخابرات المغربية    الهاكا تضرب بيد القانون.. القناة الأولى تتلقى إنذارا بسبب ترويج تجاري مقنع    طنجة تحتضن أول ملتقى وطني للهيئات المهنية لدعم المقاولات الصغرى بالمغرب    شركة "نيسان" تعتزم غلق مصانع بالمكسيك واليابان    ابن كيران: أخنوش انتهى سياسيا لا تخافون منه... وغير مستبعد إسقاطه لملتمس الرقابة بالأموال    بسبب الأوضاع المتوترة.. وزارة الخارجية توجه نداء للجالية المغربية المتواجدة بليبيا    جلالة الملك يدعو إلى الوقف الفوري للعمليات العسكرية بالضفة الغربية وقطاع غزة والعودة إلى طاولة المفاوضات    وهبي قبل النهائي: فخورون بما أنجزناه.. وهذا الجيل يستحق التتويج بلقب الكان ودخول سجل التاريخ الكروي المغربي    الأمن الوطني يطور سيارة ذكية بكاميرات متطورة تنافس النماذج العالمية    إشبيلية الإسباني يعلن مواجهة فريق مغربي في مباراة ودية    الدورية الذكية "أمان".. منظومة ذكاء اصطناعي في خدمة أمن الوطن والمواطنين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    توقيف ثلاثة أشخاص متورطين في ترويج الكوكايين والسرقات بإمزورن    شاب يضع حدًا لحياته شنقًا ب "طنجة البالية"    "استئنافية طنجة" تؤيد إدانة رئيس جماعة تازروت في قضية اقتحام وتوقيف شعيرة دينية    مزبار: المثقف الحقيقي هو من يُعلم الفكر النقدي ويتحمل مخاطرة المواجهة الفكرية    وزارة الصحة تنبه لتزايد نسبة انتشار ارتفاع ضغط الدم وسط المغاربة    فيلم بين الجرأة والاعتبارات الأخلاقية يعرض بمشرع بلقصيري    مجموعة مدارس إحسان بالجديدة تنظم مهرجانا ثقافيا تحت شعار: ''تراث الأجداد بيد الأحفاد'    الأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب: الأجهزة الأمنية المغربية قطعت شوطا كبيرا في تناغم تام مع مسارات التنمية المتسارعة للمملكة    بوحمرون يربك إسبانيا.. والمغرب في دائرة الاتهام    عباس في قمة بغداد: ندعو إلى إلزام حماس بتسليم السلاح للسلطة    الناخبون البرتغاليون يدلون بأصواتهم غدا لانتخاب ممثليهم بالجمعية الوطنية    وكالات روسية: بوتين يستضيف أول قمة روسية عربية في أكتوبر المقبل    نهضة بركان أمام فرصة ذهبية للاقتراب من المجد القاري ضد سيمبا التنزاني    الأميرة للا حسناء تترأس حفل افتتاح الدورة ال28 لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة    إفران تعتمد على الذكاء الاصطناعي للوقاية من حرائق الغابات ومكافحتها    الوداد يواجه بورتو البرتغالي وديا في ثاني مبارياته التحضيرية لمونديال الأندية    تحت شعار "فخورون بخدمة أمة عريقة وعرش مجيد".. انطلاق النسخة ال6 لأيام الأبواب المفتوحة للأمن الوطني بمدينة الجديدة (صور)    الفيفا تكشف توقعاتها لمداخيل كأس العالم 2030.. إيرادات غير مسبوقة    مغرب الحضارة: أولائك لعنهم الله لأنهم سرطان خبيث الدولة تبني وهم يخربون.. ويخونون    محمد صلاح مهاجم ليفربول يحدد موعد اعتزاله    "السينتينليون".. قبيلة معزولة تواجه خطر الانقراض بسبب تطفل الغرباء    عملية سرقة بمؤسسة "روض الأزهار" بالعرائش: الجاني انتحل صفة ولي أمر واستغل لحظة غفلة    ورشة تكوينية حول التحول الرقمي والتوقيع الإلكتروني بكلية العرائش    سميرة فرجي تنثر أزهار شعرها في رحاب جامعة محمد الأول بوجدة    افتتاح المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي عند الدخول الجامعي 2025-2026    صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تترأس حفل افتتاح الدورة ال28 لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة    رحيل الرجولة في زمنٍ قد يكون لها معنى    معاناة المعشرين الأفارقة في ميناء طنجة المتوسطي من سياسة الجمارك المغربية وتحديات العبور…    الزيارة لكنوز العرب زائرة 2من3    أقصبي: استوردنا أسئلة لا تخصنا وفقدنا السيادة البحثية.. وتقديس الرياضيات في الاقتصاد قادنا إلى نتائج عبثية    الدرهم يرتفع بنسبة 0,4 في الماي ة مقابل اليورو خلال الفترة من 08 إلى 14 ماي(بنك المغرب)    منظمة: حصيلة الحصبة ثقيلة.. وعفيف: المغرب يخرج من الحالة الوبائية    اليماني: تحرير أسعار المحروقات خدم مصالح الشركات.. وأرباحها تتجاوز 80 مليار درهم    أبرز تعديلات النظام الأساسي ل"الباطرونا"    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بارتفاع    تغازوت تحتضن مؤتمر شركات السفر الفرنسية لتعزيز التعاون السياحي المغربي الفرنسي    بمناسبة سفر أول فوج منهم إلى الديار المقدسة ..أمير المؤمنين يدعو الحجاج المغاربة إلى التحلي بقيم الإسلام المثلى    فتوى تحرم استهلاك لحم الدجاج الصيني في موريتانيا    دراسة: الاحترار المناخي يهدد أوروبا بانتشار وبائي لحمى الضنك وشيكونغونيا    دراسة: الإفراط في الأغذية المُعالجة قد يضاعف خطر الإصابة بأعراض مبكرة لمرض باركنسون    أمير المؤمنين يوجه رسالة سامية إلى الحجاج المغاربة برسم موسم الحج لسنة 1446 ه    رفع كسوة الكعبة استعدادا لموسم الحج    









مُمْكِناتُ القراءة والتأويل في 'هوامش لذاكرة العين' لبوجمعة العوفي
نشر في تازا سيتي يوم 20 - 03 - 2014


سعيدة الرغيوي *

* إضاءة :
"إن الكتابة في نظرنا لا ينبغي أن تنطلق من فراغ، والكتابة التي لا تؤثثها ذاكرة واعية يضل صاحبها يبصم حروفه في فراغ ". وإذا كان الأمر كذلك، فلنسافر قليلا مع الشاعر والناقد الفني "بوجمعة العوفي" في كتابه "هوامش لذاكرة العين" **، ما دام الإبداع الفني المتكامل يفرض علينا التيه والإبحار في مساحاته الممتدة، امتداد العين المُستكشفة لخباياه وعوالمه التي قد نوفق أو نخيب في الوقوف عند معانيها البعيدة.
إن الفن الراقي هو الذي يجعل المبدع يطل على المتلقي / المشاهد بلوحات مستوحاة من الواقع، هذا الواقع الذي يتوزع بين الوجوه والأمكنة والأزمنة التي تؤثث حيوات الإنسان، فتبدو أحيانا بمثابة زفرات صعبة تحرض الفنان على الغوص في أعماقها ليستشف حقيقتها / حقائقها. إن ذات الفنان/ المبدع تتماهى هنا مع العمل الفني وتتوحد معه. وحين تكون الحواس هي البوابة التي من خلالها نستكشف الأشياء والموجودات، فإن العين تظل نافذتنا على العالم والمحيط. ومن ثم، فهي تجتزئ أهم اللحظات والموضوعات لتنقلها إلينا هذه المرة في شكل كتاب فني يرصد جوانب من هوامش ذاكرة هذه الأخيرة.
بغلاف أنيق بالأبيض والأسود، يرحل بنا "بوجمعة العوفي"، في كتابه الفني الذي اجترح له الشاعر عنوان : "هوامش لذاكرة العين "، إلى عالم إبداعي خاص، يُزاوج فيه بين ما هو لغوي" الكلمة " وما هو بصري " الصورة الفوتوغرافية ". إذ يضع المؤلف عتبة أو تصديرا لعمله الفني ( الشعري / التشكيلي ) موسوما ب " بالأبيض والأسود "، والذي يكشف من خلاله لأول وهلة عن طبيعة هذا الكتاب الذي تؤثث فضاءاته العين والصورة الفوتوغرافية، التي هي أثر ناجم عن ذاكرة البصر اللاقطة للصور، ويؤشر في تقديمه للكتاب على أنه يعول على المرتحل في مسارحه وفضاءاته، رغبة منه في كشف طبيعتها وكُنْهها. ويعقب هذا التصدير الخاص بالمؤلف، قراءة نقدية أو تقديما للفنان والناقد التشكيلي " بنيونس عميروش " موسومة ب : الصورة .. وكرامة اللغة ".
إن قدرة العين الفنية على التقاط الصور المُعبرة تجعلك تؤرخ للحظات متباينة، لاسيما إذا كان الإبداع يُراوح بين الكلمة / المعجمي والصورة / الأيقوني، حيث التزاوج والعناق الثنائي بين الخطابين / الأثرين ينم عن إيحاءات عديدة. فبفعل تدفق وتناسل الصور المعبرة في عصرنا الراهن وحضورها الجارف، تسعى إلى تشكيل عالم بصري. إنه الحضور الاجتماعي الذي تنم عنه بلاغة الصورة، ولا شك أنها العين الرومانتيكية التي تقتحم الذوات لترسم لنا بعضا من معالمها ؟ وبما أن حاسة البصر هي نافذتنا على العالم، يكون انتقاء مؤلف الكتاب لعنوان " هوامش لذاكرة العين " سوى تنصيص على أهمية حاسة البصر، باعتبارها تشبه إلى حد كبير آلة تصوير. فالعين تجرؤ على التقاط العديد من الصور والأشكال والأبعاد، وهي في تقاطعاتها تؤرخ لمراحل معينة من حياة الأفراد والجماعات. ثم إن الصورة بوصفها منطلقا للإبداع الشعري تتحدث، تمارس لعبة الانكشاف أمام الذات الشاعرة. هناك تفاعل قوي جدا بين الصورة والذات الشاعرة، فبتوسل الشاعر فعل الكتابة : فإنه يعمل على بعث الحياة في الصور الملتقطة، يجعلها تُراوِحُ سكونها وثباتها من مجرد صورة / أيقونة، ويبعث فيها الحياة. وعلى وقع صورة فوتوغرافية لرجل ممسك بفنجان قهوة بقرب نافدة زجاجية يتطلع إلى الخارج، تنسج مخيلتنا صور أخرى و تتهاطل التأويلات تلو التأويلات.

بعد قراءة – تقديم الناقد الفني "بنيونس عميروش" للكتاب، يستوقفنا عنوان دال آخر : " بياض أول "، والذي يَشِي بالكثير من المعاني والإحالات. فالبياض يعني الصفاء، الحاجة إلى الملء والامتلاء، إلى سفر حر في المتاهات، إلى روح متجددة، تمارس فعلها في هذا البياض اللامتناهي، إلى انكتاب الأشياء الدفينة التي تختزلها الذاكرة .. وأسفل هذا العنوان تنكتب عبارة : " الجمال كما المكان، قد ينتهي بمجرد ما تصل العين إليه ". وهذا ينم على أن لعبة اكتشاف الأشياء والأماكن قد تقتل الجمال. يليها عنوان آخر : " ذاكرة الأمكنة "، فللمكان سحره الخاص وجماليته. إذ ترتبط به ذكريات كثيرة تترسخ في الذات وتُصاحبها وتسْكن إليها، وذلك لأن الفضاء يسكن وجداننا، يغازلنا، ينحت تفاصيله في أرواحنا.

ثم إن أول إطلالة في هذا الكتاب موسومة ب " عتبة السؤال "، وهو سؤال يستنطق الصورة الفوتوغرافية، ويلج إلى عوالمها الخفية. فخلف الباب الخشبي أشياء وأشياء لا تعي كُنهها سوى ذاكرة الشاعر العابثة بأوراق زمن انصرم، بيد أنها لا زالت قابعة في زوايا الذاكرة. وتتوارى أيضا خلف هذا الباب الكثير من الحقائق التي لازالت تُغازِل ذاكرة الكاتب، وتشي بلغة خاصة. إنها عين على الداخل، على بوابة أسئلة عدة مباغتة : فالعتبةseuil ، هي مدخل لسراديب المسكوت عنه / المجهول والغامض في نفس الوقت. بحيث يكون السؤال هو المُنْطلق إلى إجابات غامضة، وهو المَعْبَر إلى حقيقة ذواتنا.. تتدفق الأسئلة، أسئلة الشاعر المباغتة بسؤال آخر : " مَنْ شَيَّد للطين رائحتَه " ؟ : سؤال مؤرق، ومُضْن لمدينة يعشقها الشاعر ويحاول الولوج إليها عبر مسارب عِدَّة.

" مَنْ يعْبُر مَنْ ؟ " : هي صورة المدينة التي تسكن روح الشاعر، وهي العابرة بقوامها الغجري وروحه المدغدغة، بصمات غائرة في نفسه، لوحات تستبد بأفضيتها دروبه المتاهية والمتشابكة. أما " نافذة الشوق"، ( كعنوان لقصيدة أخرى في الكتاب ) فهي نافدة شعرية تُراقِصُ عفويته من خلال استثمار مخزون الذاكرة. ثم إن التعبير هنا " بالأبيض والأسود " يؤشر على الحياد، يترك مساحة حرة للقارئ / المتلقي كي يقوم بتأويل المتن، ويَعْبُر من خلاله إلى المسكوت عنه وإلى المُتَخَفِّي أو الخفي.
* دلالة اللونين الأسود والأبيض في الكتاب :
إن حضور اللونين (الأسود والأبيض) وتجاورهما في هذا الكتاب الفني يوحي بحضور وتجاور النقيضين، ويفضي بنا إلى مجموعة من السمات والرؤى التي يمكن رصدها في بعض دلالات هاذين اللونين لدى الشاعر من خلال قصائده في الكتاب. ففيما يشير اللون الأسود إلى : المجهول والأسرار والغموض والهيبة والخوف والقلق .. يشير اللون الأبيض إلى : النقاء والطمأنينة والصفاء والوضوح والسلام والنصاعة ..
وما دمنا نحيا في عصر تؤثثه الصورة وتهيمن عليه، والتي تبث بطبيعة الحال مجموعة من الإشارات، التي هي رسائل بصرية، ونظرا لكون الصورة في الآن ذاته علامة بصرية وخطاب سيميائي، نجد الشاعر يرسم صورا شعرية، انطلاقا من مسح للذاكرة، فيتوسل لغة الضوء واللون لتقريب إبداعه من أخْيِلَتِنا، الشيء الذي يجعلنا بدورنا مُجْبَرين على التفاعل مع عالمه، فنتورط معه في إعادة بناء نصه وصُورِه من خلال مُشاركتنا له في مسألة القراءة والتأويل، والبحث بالتالي عن دلالات ممكنة لحضور هاته العناصر كلها في الكتاب.
يسحبنا الشاعر معه إلى عناق أنيق بين الكلمة والصورة البصرية. وبتبنيه للون الأسود والأبيض يُشْرِكُنا في تجربته النفسية التي تُزاوج بين الأسرار والغموض، وبين الوضوح والتجلي.. إنه استثمار دلالي وإثارة بصرية. وكما ألمعنا إلى ذلك سابقا، فاللون الأبيض ينم عن الحب والنقاء والسلام الداخلي، في حين يكون حضور الأسود مؤشرا على الصراع الداخلي الذي تعيشه الذات المُبْدِعة. إن اللونين معا يَضُجَّان بإيحاءات عديدة ومتنوعة.
* شعرية الوجوه والأمكنة :
وهي شعرية تتأسس على التقاط سكنات تم نحتها في ذاكرة الشاعر بالكثير من العمق، فتدفقتْ شعرا عذبا، من خلال بعض عناوين القصائد التي نصادفها في الكتاب :
" منْ يَعْبُرُ منْ ؟ " ( ص 22 ) : عنوان يطل بشكل بهي في صيغته السؤالية على مدينة " تازة " أو " تازا " الممتدة والمترامية الأطراف.. الضاربة في عمق التاريخ .." تازا " البوابة، المَعْبر للروح المُزركشة بأسطورة مغارة " افريواطو ". إنه استدعاء لتاريخ المدينة التَّليد.. متاهات تمتد في الأزقة الضيقة للمدينة العتيقة في تناغم شعري بديع.
" نافدة الشوق " ( ص 24 ) : هو شوق العين إلى الخارج، شوق إلى معانقة الحرية، إنه شوق طفولي لأشياء وأشياء. عيون طفولة ترنو إلى عوالم لا تعي كنهها إلا هي. ومِنْ ثَمَّ، تكون ذاكرة العين هاته المرة قد حاولتْ رسم معالم مدينة أخرى : " فاس " الباذخة بألوانها وكيمياءاتها ومذاقاتها الجارفة، وطيف الإنسان أو الكائن النازح إليها، التوَّاقِ إلى قسط من الراحة بعدما ألهبته شمسها الحارقة. هنا يستحضر الشاعر شمس النهار في مدينة " فاس " في عز الليل ( شمس منتصف الليل ) بشكل استعاري ومجازي مخالف تماما، والشمس هنا جاءت لتبدد ظلام النهار في هاته المدينة .. هي شمس الحرية تراقص ليل فاس في غنج. يقول الشاعر : " فاس المنقولة سهوا / خارج وقتها / جَسد للرعشة والحريق .. / منذورة شمسُها لشهوة الليل .. ". ( ص 26 )
تلك إذن، شعرية استنطاق موغلة في خفايا الصورة الفوتوغرافية. أما في قصيدة " كيمياءات تتذكرها الحواس "، فينتقل بنا الشاعر إلى مرحلة أخرى من التدليل، فيعكس هذا
المزيج والتداخل الإنساني في " تازا " المدينة والمكان، هي التي ظلت تشكل فضاء للاختلاف والتباين.. إذ تستدعي الحواس وترصد كيمياءات مُتجاورة، بقيتْ منحوتة كالوشم في ذاكرة صامدة.. تصور وتغازل صبا الشاعر الذي تؤثثه روائح وألوان الأمكنة التي مر بها يوما مَّا ؟ ثمة نسج وتناسل لصور ترسختْ بذاكرته. أما اللوحة أو الصورة الشعرية التي اجترحها الشاعر في قصيدة " حوار"، والتي تنفتح على صورة فوتوغرافية لرجل مسن، يتسول قرب جدار من الزليج بأحد أضرحة فاس العتيقة، إذ يوحي الجدار نفسه بالمتاهة، كما جاء على لسان الشاعر .
" الجدار متاهة .. / والرأس مُعمَّمَة بقُرابة ألف عام من الشمس / أو يزيد .. / ظِل ينحني لبلاغته / والتراب وحْدَه : سيِّد الإقامة .. ". ( ص 30 )
ثمة أيضا نافدة شعرية أخرى تباغتنا في الكتاب، وُسمتْ ب : " خُلوة الملكات " ( ص 32 ). إذ يستحضر الشاعر في هذه الخلوة عبق الشرق الجميل ( الحضارة المصرية القديمة ) من خلال الوجه أو الصورة الباذخة للملكة الفرعونية " كليوباترا "، ثم يسافر بنا إلى أمكنة أخرى تُضْمر الكثير من الحنين ومن الشجن، فيوظف الأسطورة ليضفي على نصه سحرا خاصا.. هو ترحال نوسطالجي إذا في جسد الأمكنة والفضاءات التي حُفرت في خلجات الشاعر حفرا بريئا ومراوغا في نفس الوقت. يتناول الشاعر من خلال الصور الفوتوغرافية المبثوثة في هذا الكتاب الفني موضوعات عدة. إذ ينتقل بنا من ذاكرة الأمكنة إلى ذاكرة الوجوه والشخوص، ليقف بشكل مأساوي أحيانا عند إحساس الناس بالغربة حتى داخل أوطانهم، وذلك من خلال نص شعري معنون ب : " مَهْجريون في الوطن وفي القلب "، بإهداء خاص إلى الروائية الجزائرية " أحلام مستغانمي " : " ليست باريس / أو لندن / أو مدريد.. / أو كل المدن الطَّاعنة في الظلم / هي ما تعني المَهْجَرِ بالنسبة لي .. / الغربةُ في الداخل / والمَهاجر هاهنا : في صنعاء، في دمشق، أو في بغداد .. / أَعْنَفُ مما ينسجه الوجع .. / فحين يُراقص ذاك الأشقر خِصْرَ عشيقته / في باحة قصر الإليزيه .. / أُدرِكُ أن الوطن بعيد عني .. / أننا مَهْجَرِيُّونَ في المكان وفي القلب .. ". ( ص 38 )

من هنا نستشف بأن المواضيع التي يطرقها الشاعر، سواء في هذه القصيدة، أو في باقي القصائد التي يحتويها الكتاب متنوعة ومختلفة : فقد جاء تناوله لتيمة أو موضوعة الهجرة في قالب شعري جميل في قصيدة " مهجريون في الوطن والقلب "، ثم يُعَرِّج أو ينتقل بنا من خلال صورة فوتوغرافية أخرى للفنان " نور الدين الغماري " إلى وصف " باب الريح " بمدينة " تازة ".. هذا المكان الذي يسحرك بسموقه وأبراجه الشاهدة على أصالة هذه المدينة الضاربة في عمق التاريخ. أما في النافدة الشعرية الأخرى المعنونة ب " مِنْ أين تأتي الطفولة ؟ "، فينفتح الشاعر على شره الطفولة وأحلامها ووساوسها في سفر جميل، تنتعش معه طفولته أيضا. دون أن يغفل فَحْصَه وتوقفاته عند وجوه أخرى تُعَبِّر عن أحاسيس مختلفة، فلكل وجه سيرته، تعبيراته، قلقه الوجودي، انطلاقا من " الضحك " وصولا إلى " البكاء " وحالات الشجن.


إن " العوفي " هنا ومن خلال كتابه الفني ( هوامش لذاكرة العين ) يرتحل بنا في متاهات الصور الفوتوغرافية، وانطلاقا من عمليات استرجاع تتقصَّاها أو تمارسها العين الثاقبة المستكشفة، تتحول إلى قصائد شعرية حُبلى بالصور والإيحاءات والجمالات، فتغدو كائنات حية تُعَبِّر عن منعرجات الحياة ومتاهاتها ودروبها، عن شموسها وظلالها، عن حزنها وفرحها الداخلي، عن سفرها الطويل في الجسد الإنساني من خلال وجوه وأزمنة وأمكنة متعددة. وصفوة القول أن هذا الكتاب هو عين على الطفولة / الطفولات، من خلال الحفر في أزمنتها ووجوهها التي تختزل الكثير من الأسئلة الوجودية القلقة في أمكنة متباينة، رصدتها عين الفنان الذي يجرؤ من خلال ملكات الإبداع على جعله قريبة منا. إذ هو الأقدر هنا على تصوير أدق سكناتها / خطواتها، تفاصيل دورتها الحياتية.. إذ تبقى " هوامش لذاكرة العين " بمثابة قراءة فنية وشعرية في زمن يتكئ على الصورة في شتى أبعادها ولا سيما الصورة الفوتوغرافية. فالشاعر أيضا يعمل من خلال كتابه الفني هذا على بعث الأمكنة والوجوه والأزمنة في اللغة كما هي حاضرة وحية في الصورة الفوتوغرافية. إنه مسكون بحمى الأمكنة، ومن ثم، عمد إلى خلق أبعاد جمالية لهاته الأمكنة، حيث اختار تحرير خلجات نفسه والتعبير عنها بنبض شعري، استشعرنا من خلاله قدرته على التصوير الدقيق بعين ذواقة وشغوفة. إنه انتقال مرن عبدت طرقاته ومسالكه عوالم الصورة والضوء، فتحول إلى رؤى شعرية مجسدة لتفاصيل الواقع وامتداداته اللانهائية. إنه الشغف ولا شك بلغة الضاد، والتمرس بالعلامات والأيقونات التي تكشف عن موضوعات متباينة، ورسائل وخطابات عدة، يختلف تأويلها من قارئ إلى آخر. وربما تكون القراءات والتأويلات متعددة لمتلق واحد، لأن الصورة الفوتوغرافية شأنها شأن اللوحة التشكيلية حمَّالة أوجه ودلالات كثيرة ومتنوعة.
* ما يشبه الخلاصة :
بهذا الكتاب الفني أو العمل الشعري – التشكيلي، يكون الشاعر " بوجمعة العوفي " قد جعلنا نعيش لحظات بين لغة الخيال والرمز ( الشعر ) ولغة الواقع والعلامة ( الصورة الفوتوغرافية )، وإن كانت الصورة هنا ليست هي الواقع، كما جعل الصورة تنتقل من الهامش إلى المركز لتكشف عن محمولاتها الدلالية ورسائلها في آخر المطاف. وبهذا يجوز لنا القول بأنها عين الشاعر التي ترصد الواقع في تناقضاته، في تآلفاته وسكونه وثباته .. كما في رتابته وحركيته كذلك. وما " هوامش لذاكرة العين " سوى اقتناص لقسمات الوجوه الإنسانية، لحيوات الإنسان في أفضية متباينة …هي عدسة العين الشغوفة بتفاصيل الحياة اجتمعت مع يراع شاعر تستهويه حياة الآخرين، ليقتسم معنا كقُرَّاء أحاسيسها وأحاسيسه في نفس الوقت .

إذ تكون الذاكرة هاته المرة بصرية، ثاقبة وفاحصة لجغرافية الإنسان في متاهاته الحياتية. حيث اتكأ الشاعر على لغة وتعبيرات موازية لفنانين فوتوغرافيين وتشكيليين ( نور الدين لغماري محمد خلوف خالد المتوكل بنيونس عميروش )، أبحروا بدورهم من خلال الصورة الفوتوغرافية في جغرافية الإنسان ولاسيما " قسمات الوجه "، هذا الأخير الذي يختزل الألم والفرح، الحب والقسوة .. هو ذا إذن الإنسان في تناقضاته المتعددة. والهوامش هذه المرة، هي أيضا حقائق متوارية خلف السطور وما بينها، منكشفة في الصور للمتلقي المشاكس الذي يجرؤ على الغوص في خباياها وتضاعيفها.

يسافر بنا " العوفي " الشاعر والقارئ والناقد في هذا الكتاب من خلال قصائده الشعرية المُدوَّنة على هامش صور فوتوغرافية التقطتها أو، بالأحرى، اقتنصَتْها بالكثير من الفنية والاحترافية عدسات وعيون فنانين مغاربة إلى جزر الإنسان وأرخبيلاته المتنوعة. وكما استهل الشاعر كتابه ب " بياض أول "، ينهيه ب " بياض في الحُنجرة ". وهو بياض ينفتح على صورة فوتوغرافية معبرة للفنان : نور الدين الغماري " : صورة تذكرنا بإطلالة لطفلة صغيرة تتكئ على قفة، وترنو بنظرتها إلى وجهة غير محددة، فيما يشبه ذلك الشرود الذي ينقلها إلى عوالم خاصة بها، تؤثثها ذاكرتها الطفولية البريئة والحالمة .
هوامش :
* كاتبة مغربية.
** بوجمعة العوفي، هوامش لذاكرة العين " (كتاب فني / الشعر والفوتوغرافيا) منشورات " اتحاد كتاب المغرب " الطبعة الأولى / 2013.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.