صدر مؤخرا كتاب جديد لفليب لوجون " الكتابة عن الحياة الشخصية ، من الميثاق إلى التراث السيرذاتي"()، وهو يختلف عن مؤلفاته السابقة() في جوانب كثيرة لعل أهمها اهتمامه بكتابة أناس عاديين عوض التركيز على الأسماء المتألقة كما يفعل من قبل (أندريه جيد، جون بول سارتر، ميشيل ليريس، هنري بال ستندال، جورج بريك) ، ونزوعه أكثر إلى التحدث عن تجربته في تأصيل الجنس السيرذاتي ودمقْرطته، ونضاله من أجل الحفاظ على "الذاكرة الشخصية أو الجماعية" حتى تستفيد منها الأجيال اللاحقة. ويتضمن الكتاب-علاوة عن المحكيات الذاتية التي تهم المسار العلمي والثقافي لفليب لوجون- حوارا أجرته معه برجيت دياز Brigitte Diazعن اليوميات الشخصية وألبوم الصور والوثائق التي تشهد عن مختلف الأنشطة التي شارك فيها. الحوافز: . تقدم طالب نحو فليب لوجون ، في إحدى الندوات عن السيرة الذاتية بستراسبورغ عام 2014 ، معبرا له عن حيرته وضجره من قراءة الكم الهائل من مؤلفاته، ومتأسفا عن عدم وجود مؤلف تركيبي في متناول شريحة عريضة من القراء. كان هذا الحدث من بين البواعث التي حفزت فليب لوجون على إصدار كتاب تركيبي عن حياته الثقافية والعلمية، وإبراز الحدود التي تتداخل فيها حياته الشخصية واختياراته النظرية كان فليب لوجون ، في ميْعة الشباب، يطمح أن يكون شاعرا. ومن بين الكتب التي اقتناها، وقتئذ، رواية " بحثا عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست بهدف الاستمتاع بلغتها الشعرية. احتفظ بها في مكتبته للعودة إليها عندما يصلب عوده وتنضج موهبته. مهدت له مؤلفات ميشيل ليريسMichel Leiris الولوج إلى الفضاء السيرذاتي الرحب. كان- في هذه الفترة- عاجزا عن كتابة ولو سطر واحد في مجال التخييل. لاحظ عام 1968 أن السيرة الذاتية، في فرنسا، تمثل أرضا رحبة غير مكتشفة. كانت محتقرة ومهمشة من الدراسات الأدبية والمحافل النقدية بدعوى سطحيتها وضحالتها. كان النقاد منساقين مع القولة الشهيرة لألبير تيبودي Albert Thibaudet"السيرة الذاتية فن خاص بغير الفنانين، والرواية فن خاص بغير الروائيين". ومازالت الصحافة تدعم هذا الانطباع مروجة افتقار السيرة الذاتية للمؤهلات الفنية، وعنايتها أكثر بالنرجسية والابتذال. وهذا ما يبعث ،عموما، على امتعاض المتلقي من المحكي الذاتي. " لم تحكي لي قصة حياتك؟". وما حفز فليب لوجون على اكتشاف هذا العالم الجديد بفرنسا، هو تلقيه دعوة للمشاركة في " موسوعة" عن السيرة الذاتية. ومن ثم، تبين له أن الألمان كانوا سباقين للتعريف بهذا الجنس الأدبي الذي أضحى، بالنسبة إليهم مع مر الوقت، موضوعا كلاسيكيا. في حين مازال يتطلب من الفرنسيين، ومن هم على غرارهم، جهودا مضاعفة للتعريف بما حققته السيرة الذاتية من تراكمات هائلة عبر مر الزمن. الميثاق السيرذاتي: اقتضى التعريف بالسيرة الذاتية من فليب لوجون جمع متن مناسب، والانطلاق من نموذج محدد (جان جاك روسو)، والاستئناس بالمعجم. وما أثاره في – هذا الصدد- أن السيرة الذاتية لا يمكن أن تُعرف بالنظر فقط إلى الشكل(سرد) والمحتوى(الحياة)، وإنما باعتبارها عملا يتمثل في تعهد شخص واقعي بالتحدث عن نفسه بصدق .ما اصطُلح عليه بالميثاق السيرذاتي، ويقابله الميثاق التخييلي، وبينهما توجد فضاءات ملتبسة ومضطربة تتحدد منازلها ومواقعها بالنظر إلى الحديْن المتناقضين والمتجاذبين. أضحى فليب لوجون، مع انفجار الثورة الإعلامية، مطالبا بإبراز مدى انطباق الميثاق السيرذاتي على دعامات سمعية بصرية (الحوارات المتلفزة، الفيديو، المدونات، المواقع)، ومواكبة التغيرات التي مست المحفل التلفظي إثر الانتقال من الكتابة إلى الشاشة. وهو الموضوع الذي فصله في كتابه " عزيزتي الشاشة، اليوميات والحاسوب والانترنيت". اعتمد فيه على متن المدونات مبرزا المنزلة الافتراضية للذات، والخلط بين الاتصال والتواصل، والمزج بين الحميمي والعمومي، وتوسع الهوة بين اللحظي والدائم. انتبه، مع مر الزمن، إلى استثناء المرأة من تحليلاته، وهو ما حضه على تخصيص كتاب عن الكتابة السيرذاتية النسائية. "أنا الآنسات، بحث في يومية فتاة ". اعتمد على متن مكون من 115 يومية لفتيات يافعات كتبن، بالتدريج، عما وقع لهن في المجتمع خلال القرن التاسع عشر. أراد أن يبين أن الكتابة عن الذات ممارسة مشاعة على قدم وساق بين الجنسين. ويؤشر الكتاب على تحول فليب لوجون من الاهتمام بالكتابة المهنية إلى الاهتمام بالكتابة العادية . ونظرا لما خلفه الكتاب من ردود فعل بسبب " الانحياز العاطفي" للفتيات، فقد وعد فليب لوجون بإصدار كتاب عن يوميات الفتيان في الفترة الزمنية نفسها. النزول من البرج العاجي: لم يقتصر عمله على التنظير، بل تورط في الكتابة عن الذات ، ودأب على إعطائها المكانة المستحقة في الأدب والحياة على حد سواء. وفي هذا الصدد، ارتأى أن ينزل من برجه الجامعي إلى الواقع للتعرف أكثر على الممارسات السيرذاتية التي يكتبها أحيانا أناس عاديون لأغراض مختلفة، ويحتفظون بها لعل وعسى تأتي فرصة مناسبة لإخراجها إلى الوجود. أسس فليب لوجون جمعية (جمعية من أجل السيرة الذاتية والتراث السيرذاتي) تعنى بتأصيل هذا الجنس داخل المجتمع، ودمقرطته لتوسيع قاعدته وإشراك أكبر عدد من المواطنين في الشأن الأدبي. ومن بين المبادرات التي قام بها رئيس الجمعية فليب لوجون، في هذا المنحى، توجيه دعوة عمومية لحفز الناس على إيداع ما يحتفظون به من مخطوطات سيرذاتية في المكتبة الوسائطية " لاكرونيت() La grenette بأمبيريو Ambérieu (مدينة السيرة الذاتية). فاقت الاستجابة كل التوقعات، وحققت كثيرا من أهدافها. توصلت الجمعية ب 3500 مخطوطا في مختلف أنواع الكتابة عن الذات(75 % محكيات، 20% يوميات، 5% مراسلات)، وهو ما دفع أعضاء الجمعية إلى قراءتها وتصنيفها وتبويبها، وتنظيم معارض للتعريف بها. وجدت عينة منها طريقها إلى النشر لتوفرها على المعايير الفنية المنشودة أو استجابتها لتوقعات معينة. وأضحت هذه " الذاكرة الذاتية" تجلب عينة من الباحثين ذوي اختصاصات مختلفة لتحليل الذهنية الفرنسية واستكشاف خباياها، ومعرفة المواضيع التي تستأثر باهتمام شرائح اجتماعية معينة (العنف، الشذوذ الجنسي، زنا المحارم، الجريمة). لم يكن هدف الجمعية اكتشاف الروائع، وإنما إنقاذ كثير من المخطوطات الشخصية والعائلية من الضياع والتلف والنسيان، وإبراز الطريقة التي اعتمدها شخص ما للتعبير عن ذاته والاحتفاء بها. " ليس هدف الجمعية اكتشاف الروائع (وإن كنا نغتبط بالعثور على حالة منها)، بل تبيُّن كيف استطاع الفرد أن يعتني بحياته" ص53. كل عضو من أعضاء الجمعية له طريقته الخاصة في قراءة المخطوط وتقويمه. لكنهم يتفقون جميعا في عدم اعتماد معايير فنية وأخلاقية صارمة. لا يكترثون لمستواها الفني وأدائها اللغوي، بل ما يشغل بالهم، في المقام الأول، هو مدى انضباط أصحابها للميثاق السيرذاتي. من التسويد إلى التنقيح: ألقى فليب لوجون- على هامش ندوة بسترسبورغ عام 2014- عرضا يهم تكون نص " نحن أيضا في فوكوا 1918 Vauquois" لأندري بيزارAndré Pézard ، وهو عبارة عن شهادات حية عن الحرب العالمية لأولى. لم يكن قصد فليب لوجون تقديم دراسة أكاديمية وإنما سرد الكواليس والحيثيات التي صاحبت إعداد هذا الكتاب من تسويده إلى تنقيحه وطبعه ونشره. كانت مفاجأته عظيمة لما وجد نسخة من الكتاب في مكتبته. لم يسبق له أن قرأه فيما قبل رغم التقدير الذي يكنه لصاحبها الذي تربطه به قرابة عائلية من جهة الأم. دعاه الفضول إلى الإجابة عن سؤالين شغلا باله بإلحاح: أ مازالت المذكرات الأصلية موجودة؟ كيف انتقل صاحبها من تسويد المذكرات إلى جمعها في كتاب ؟ اضطر فليب لوجون إلى ارتياد "الأرشيف الوطني" بباريس الذي أودعت فيه أسرة أندريه بيزار مخطوطاته بعد موته. وساعدته القيمة على إيجاد ضالته، ووفرت له الأجواء المناسبة لإنجاز مهمته. اطلع، عن كثب، على المذكرات التي كتبها بيزار بين عامي 194 و1914. سبعةٌ منها عبارة عن يوميات حميمية، وسبعةٌ أخرى تتضمن هواجس وخواطر متفرقة. ويتضح، من خلالها، أنه كان يتهيأ نفسيا للحرب. وما يبين أنه كان واعيا بالمشروع السيرذاتي اقتناؤه لكراسات وأقلام لتسجيل كل ما يخطر بباله، أو ما يحدث له في ساحة الوغى.. كانت المذكرات- في مجملها- عبارة عن رؤوس الأقلام وملفوظات مقتضبة ، مما يبين أن هم أندريه بيزار كان مركزا، بالدرجة الأولى، على جمع المعلومات والتقاط الشوارد في إبانها حتى تحافظ على نضارتها وشحنتها العاطفية، وتسعفه ،فيما بعد، على إعادة ترميم الذاكرة وملء ثقوبها. وكان كلما أرسل بطاقة أو رسالة إلى والديه المعلمين ببارس وأخته هلين، يضع لها رقما في يومياته. رجع إلى هذه الوثائق عام 1917 ، فنهض بتنقيحها، والتوسع فيها، و إخراجها إلى الوجود عام 1918. اعتمد فليب لوجون على فصل من الكتاب لبيان المنطق الذي تحكم في سرده. قارنه بالمذكرات الأصلية فتأكد أن المؤلف اضطر إلى الحذف والإضافة حرصا على ملء فرجات الماضي الشخصي، وإعادة صياغته وتنقيحه. وإن لم يحتفظ بالنص الأصلي كما هو، فقد ظل وفيا إلى المنطق السردي الذي تحكم فيه. وهو ما جعل فليب لوجون يشبه طريقة أندريه بيزار في الكتابة بمقطوعة موسيقية بالنظر إلى كثرة الحذف والانقطاع و الانشطار. كما يتضمن الكتاب أيضا مشاهد الحوار، وأوصاف المناظر الطبيعية، والدفقات الشعورية، والمجازات الشعرية.. توثيق الذاكرة: أدرج فليب لوجون- في الكتاب -حوارا أجرته معه الباحثة برجيت دياز حول اليوميات الشخصية . ما يهمنا هو الجانب المتعلق بالتوثيق لانعدام هذا التقليد في العالم العربي. ما يهم الباحث بالدرجة الأولى هو الحصول على الوثائق التي يستحسن أن تكون مخزنة بطرق حديثة ومتطورة، وتفقُّد المؤسسات المجهزة التي توفر له الخدمات المطلوبة دون عناء يذكر، على نحو " الفهرس الجماعي لفرنسا"، و" قسم المخطوطات بالمكتبة الوطنية"، و" الربائد الخاصة"، والربائد الوطنية"، و" قواعد بيانات جماعات البحث". وفي هذا الصدد نوه فليب لوجون ب" مكتبة جنيف" لتوفر ها على الوثائق الشخصية وعنايتها بها على نحو لا مثيل له بفرنسا. يتطلب البحث في الربائد جهودا مضاعفة وتحملا كبيرا. قد يخيب أمل الباحث في الاهتداء إلى ضالته، وقد يجد أشياء مبهرة لم يتوقعها، فيعمل ما في وسعه على إخراجها إلى الوجود حتى تطلع عليها فئة عريضة من القراء. وإن كانت الطباعة تسهم في ترويج هذه المخطوطات حتى لا تبقى حبيسة الجدران ، فهي- بالمقابل - تفسد أبهتها ورونقها وسحرها، ما يصطلح عليه ب" حميمية الدعامة" التي تتجلى أساسا في طريقة الكتابة والخط،وإثبات الهوامش والمُناصّات، وثني الصفحات وإخراجها، والاضطرار إلى الحذف والإضافة والتشطيب. ومن الأمور الطريفة التي سردها فليب لوجون في هذا الحوار عثوره على يوميات فتاة ماري لويز دوفنوي Marie-Louis Duvenoy (1905-1908)عند بائع التحف القديمة. تحكي فيه تطلعها إلى فارس أحلامها وهيامها به. اعتقدت أنها ظفرت به لكنه خيب أملها باختفائه من حياتها. أراد فليب لوجون أن يبين أن هذه اليوميات لا تتوقف عند نهاية القصة، وإنما تمتد ، مع مر السنين – إلى مختلف مناحي الحياة. وهذا ما دفعه إلى البحث عن تطورات قصة الفتاة في الواقع حتى يتعرف أكثر على مصيرها. تزوجت ورزقت بنتا، وبعد وفاة هذه البنت عام 2010، عرض المنزل على المزاد العلني بما فيه اليوميات دون أن يعلم أحد بقيمتها. لما تعرف فليب لوجون على عائلة ماري لويز دوفناي أخبرهم أنهم فرطوا في اليوميات. ولما انتبهوا إلى أهميتها وشأنها اقترحوا عليه شراءها من جديد. أهداها لهم شريطة الترخيص له بوضع نسخة منها بمقر الجمعية حتى تكون في متناول الجميع. ومن الأمور التي أثارت انتباهه تكريس تقليد كتابة اليوميات في بعض العائلات لتوارثها أبا عن جد. دوَّن كوكبير دو مونبري Coquebert de Monbert وزوجته يومياتهما (1784-1799) لتتبع تربية انتبهما سيسيل. ولما كبرت البنت كتبت يومياتها للتحدث عن التجربة التي تقاسمتها مع ألكسندر برونيار Alexandre Brongniart في مرحلتيْ الخطوبة والزواج. ثم إنقاذ يوميات ألكسندر من الضياع بعد العثور عليها وعرضها على المزاد العلني. وهو ما حفز فليب لوجون على إقناع " المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي" باقتنائها بسعر يناهز 20 ألف أورو. وفيها يتحدث ألكسندر عن مغامراتها الغرامية مع أمرة مستهترة إلى أن التقى بسيسيل . تتشابك هذه السير الذاتية في شكل "عناقيد" تطلعا إلى توارث اليوميات بين أفراد العائلة وتداولها عبر مر الزمن، وترميم الذاكرة الجماعية، وتدارك الأحداث المغيبة والمهملة، والاضطلاع بمهمة " الشاهد" لمعاينة ما يقع في المجتمع من أحداث جسام. ختاما، نستخلص ما يعلل جدوى الكتاب وملاءمته في الوقت الراهن: نقدر الجهود التي يبذلها فليب لوجون لمد الجسور بين الجامعة والحياة العامة، وتسخير خبرته الأكاديمية لصون " الذاكرة الذاتية والجماعية" والحفاظ عليها، وحفز فئات عريضة من المجتمع إلى الولوج إلى الثقافة والمعرفة الأدبية، حتى لا تظل حكرا على فئات بعينها. لم يكتف فليب لوجون في مسيرته العلمية والثقافية بالتنظير للجنس السيرذاتي، وإنما أضحى فاعلا جمعويا يسهم، صحبة ثلة من الزملاء المتطوعين، في تشجيع الناس على إيداع مخطوطاتهم الشخصية أو العائلية بمقر الجمعية، وحثهم على الكتابة عن ذواتهم، وتنظيم معارض للفت انتباه الرأي العام إلى أهمية الكتابة عن الذات في الحياة. استطاع فليب لوجون تنظيرا ونضالا أن يبوء السيرة الذاتية المكانة اللائقة بها، ويحفز الباحثين على معالجتها وفق تخصصاتهم ومشاربهم المختلفة. وإن وجد فليب لوجون مصاعب في جمع شتات السيِّر الذاتية، فهو قد وجد الأرض متوفرة بحكم التقاليد السائدة بفرنسا وغيرها من الدول الغربية. وتتمثل، عموما، في التوفر على البنيات التحتية لتخزين المخطوطات الشخصية، والموارد البشرية المؤهلة التي تضطلع بقراءتها وتصنيفها وتبويبها. كما أن الناس يؤثرون إيداع ما يتوفرون عليه من " ربائد عائلية" بالمكتبات والمؤسسات العامة لتلافي ضياعها والسعي إلى استفادة الآخرين منها. أين نحن- العرب- من هذه التقاليد العريقة؟ وكيف يمكن لنا البحث في الذاكرتين الشخصية والجماعية لتعرض كثير من الدعامات والمخطوطات الشخصية للضياع والتلف والإهمال.
