في معرضه المضارع المقام حالياً برواق باب الرواح، يختار الفنان الحبيب لمسفر وهو تشكيلي وشاعر لهذا المعرض عنواناً عريضاً هو "الطبيعة، أبدية اللحظة« " يضمنه العديد من الأعمال التي تحتفي بالمناظر الطبيعية، حيث الأرض أرض، والبحر بحر، والسماء سماء. ومثلما يحدث مع الصورة الفوتوغرافية حينما تلتقطها خلف عدسة الكاميرا عين المصور الفوتوغرافي، فإن المنظر الطبيعي الذي تلتقطه ريشة الفنان الحبيب لمسفر، يسعى إلى تجميد أو تأبيد نفسه في الزمن، ومن هنا يأتي عنوان »أبدية اللحظة« كمحاولة لتخليد المشهد الطبيعي، وكأن اللوحات عبارة عن وصف، وليست حكياً، باعتبار الوصف كالصورة، هو توقيف للزمن أيضاً. وكما يحدث مع الصورة الفوتوغرافية التي تلتقط المشاهد الطبيعية، تأتي توزيعات فضاء اللوحات عند الفنان الحبيب لمسفر مطابقة تماماً للواقع، وناسخة لتوزيع الصورة الفوتوغرافية الكلاسيكية، حيث يتم التقاط الأرض والبحر والسماء، بحيث تكون الأرض هي قاعدة اللوحة الموزعة إلى ثلاثة فضاءات أفقية، يليها البحر، ثم تأتي السماء أخيراً، وإن كانت أغلب لوحات الفنان لمسفر يطغى عليها التقسيم الثنائي، أي أن المنظر الطبيعي لا يتشكل إلا من الأرض والسماء، مع ملاحظة أن ثمة لوحات أخرى لا تحتفي إلاّ بالسماء وغيومها فقط، ليكون فضاؤها واحداً لا توزيع فيه. ولأن الفنان لمسفر هو تشكيلي وشاعر، فإن الشاعرية هي ما تشي به لوحاته التي توحي ولا تقول، وإن كانت وصفاً صريحاً، لأن تمة أعمال قليلة جداً تنحو منحى التجريد، وهي شاعرية لا تأتي فقط من كون صاحب هذه اللوحات هو شاعر، ولكنها تنبع أساساً من حقيقة ساطعة لا غبار عليها وهي أن الفنان لمسفر هو واحد من المُلَوِّنين الكبار، إذ استطاع بحق أن يصبغ ويلون السماء بكل الألوان، وأن يسبغ عليها لمسات من الشاعرية الساحرة والأخاذة، ويبث عبرها نفحات صوفية أحايين أخرى. ثمة سماء زرقاء، خضراء، حمراء، صفراء، ثمة قطعان سحب تسعى أو أكوام غيم تلتهب أو نور ينفجر، ثمة أسراب طيور بيض تكسِّر زرقة السماء مثل غيوم مجردة. وثمة هذا السكون الناعم وهذا الاضطراب، الاضطرام، حيث الحركة تنبجس من تحت الأكوام. ثمة سكينة وديعة، خفيفة شفيفة، تتنزَّلُ من أعلى جل اللوحات، جارة تلابيب الروح إلى مواطن الشاعرية، وفاتحة منافذ الحلم على آفاق تفتح شهية السفر نحو اللانهائي الممتد أبداً. إن أعلى اللوحة لدى الفنان لمسفر هو وليمة فنية حقيقية للرائي، يتنعم ويتمتع بها، وهي استراحة ودعوة له للسفر في الآن عينه. وجمال تلاوين السماء لا يغبط جمال تلاوين الأرض. حقه، عند الفنان، لأنه الأدرى بتضاريسها وأحجارها وأشجارها وألوانها. إن الرومانسية الحالمة التي تشي بها أعمال الفنان لمسفر نفسها، لا تنبعث من المناظر الطبيعية ذاتها، بل من الألوان التي تشكلها، وما يخيم عليها من أجواء محركة للأهواء. ابتهاج آخر تهديه لنا أعمال الفنان لمسفر هو هذا الإتقان الزاخر لعملية الإضاءة والتعتيم، أو الضوء والظل، إذ يضيء ما يضيء، ويعتم ما يعتم، في اللون الواحد، وفي الألوان المتعددة، وفي الألوان الفاتحة والألوان الغامقة، وهو يحاول القبض على الضوء في المشهد، وكأنه يُطارد مَشَاهِدَهُ على مدار اليوم والشهر والفصول ليمسك باللحظة المضاءة أو المعتمة ليخلدها في الزمن. إن الفنان الحبيب لمسفر لا يرسم المناظر الطبيعية التي نعرفها، ولكنه يرسم مناظر طبيعية مركزة ومقطرة، يضفي عليها من عطور تلاوينه أجواء حالمة، لتخرج في أزهى حللها متأنقة ومتألقة ومتلألئة ولتمارس غوايتها وتشد المشاهد إليها، بعد أن تكون قد أصابته في الصميم، وجعلته يدور في فلك جاذبيتها. لذلك أستطيع أن أجزم أن الفنان لمسفر يستطيع أن يرسم السماء بلون الأرض، وأن يرسم الأرض بلون السماء في اللوحة ذاتها، دون أن يفسد ذلك للوحة جمالية أو جاذبية.