رحلت السيدة التي علمتنا أن الحريم ، حالة عيش وتفكير وليس موقع جاه فقط، وأنه في الكثير من الحالات ينتقل بين الحضارات مثل موجات الهجرات البشرية.. ماتت السيدة التي .. ماتت المفكرة والمبدعة والعقل الحر، التي سخرت من الذين يفكرون بأعضاء كثيرة ليس منها العقل في مجتمع يعتبر البهيمية درجة راقية في الوجود الجماعي.. ماتت السيدة التي تحدثتت مع محمد الرايس، الناجي من جحيم تازمامارت ، عن تحويل مذكراته الى فيلم، وسألني فقلت له:هي لوحدها ضمانة في العالم كله السي محمد، هو الرجل الذي كان قادما من نقطة جارحة في خارطة الجنس البشري في المغرب..يحمل معه حذرا فيزيقيا ازاء الآخرين.. رحلت السيدة التي علمتنا، بالفكر والبحث الرزين أن الرجل العربي الوحيد الذي تعامل مع المرأة بدون الحاجة الي السيف.. كان هو نبي المسلمين بالتحديد محمد عليه السلام، وظل غريبا في الثقافة الجنسية لمن حوله، وهو يتحدث عن الاستدراج وعن تفاصيل اللقاء الحميم.. و ماتت السيدة التي قرأناها لنتعلم كيف نتحرر وكيف نبدع حرية من خارج المقولات الجاهزة على صفوف الطاولات والكتب الباردة. السيدة التي صاحت بكامل قوتها:ادخلوا أجسادكم و ادخلن أجسادكن أسكنوا أجسادكم و اسكن أجسادكن ولا تغادروها بسبب ايدولوجيا أو بسبب عقد فالجسد الذي يغادره أصحابه لا يتحرر! اسكنوا فيه مع طاقاتكم الحيوية وطاقاتكن الحيوية في الكريات الحمراء وفي قصص ألف ليلة وفي النخاع الشوكي وفي مزهريات الورد على شاشة القلب.. اسكنوا الجسد بحب وكلوا منه رغدا.. اسكنوه بالمعرفة وبالحرية لا تدخلوه مطأطي رؤوسكم من فرط ما أثقلتكم أفكار سابقة عنكم وعنكن.. السيدة التي فاجأتنا ذات صيحة:ياه إنكم ،أنكن تولدون وتولدن.. شيوخا من فرط الافكار التي اصفرت في الرؤوس قبل الميلاد. قبلها كنا نقف عند العتبة، تنقصنا الشجاعة لكي ندلف باب الجسد، ونخرج منه إلى تعريف السلطة:كنا نعتقد أننا متحررين منه، ما دمنا نصارع السلطة به، لكنها نبهتنا إلى أن الجسد الذي تفصل فيه اللغة والتقاليد والأعراف والسلط المنبتة ، شعيرات لا تري في كل مناحي الحياة، ليس جسدا، بل دعتنا بالقوة الكامنة في التفكير الحر إلى أن نزور الجسد من جديد، بعد أن نكون غسلناه من قرون السلط كلها. نجدها أحجيانا في البقاع التي لا نتصور أنها ترتادها، كما في كتابها الشيق، والمهني بلغة الصحافة»آيت ديبروي« ait débrouille أو قبائل التدبر والبحث الطوعي عن الحلول، في لعبة لغوية تليق بروحها المرحة|( هي التي تترك لك المجيب الهاتفي يحدثك عن المقبل الذي وضعته لك بغيابها..). أتساءل لولا مثيلاتها هل كان يمكن أن ننظر إلى المتن الميتافيزيقي - بما فيه الجسد الحمدلي ، بلغة عبد الكبير الخطيبي- بعين أنثى، وهل كان من الممكن أن نكتشف التخلف الكبير الكامن في ما أنتجه العقل الأبيسي الذكوري الممتن لنفسه؟. كانت الكتب ستكون شيئا آخر سوى علامات كيلومترية على المسافة التي قطعتها في عقل الرجل، المنتج للسلطة المتخلفة وللبهيمية المغترة؟... كانت الكتب ستكون كتبا فقط! أي ترسانة البداوة المتحكمة في صيرورة العالم، ولا شيء غير ذلك. الهواء العليل الذي يهب علينا كلما فتحنا دفة كتبها، هو الهواء الذي يأتينا من غابات الحرية المتوحشة في العقل السليم، المتوحشة بالعنفوان الذي يسبلها،وبما تفتحه من أسئلة في الوجود والمعنى واعادة ترتيب الأقانيم الثلاثة: الجمال، الحق والخير!! لم تكن تكتب من صقيع بعيد، بل كانت تنغمس في المعيش وتحفره بأصابعه الطويلة الرهيفة حتى تجد تحت طبقاته الأكفار التي تسنده، والمقولات التي تقعده ..لهذا تبدو حياتها متوثبة،مثل أفكارها التي تعثر عليها من شدة الإفراط في الحرية وتحرير العقل. معها اكتشفنا أننا لم نلقح ضد .. الحريم بالرغم من ترسبات الثقافة الحديثة، وبالرغم من بنادق الالتزام الإديولوجي وكومونات الانحياز الحر إلى التجديد والمساءلة. كانت الانبعاث الحديث للسيدة الحرة. كانت السيدة الحرة مجددا، تصنع أسورطتها أمام أعيننا وبالمعرفة التي تزلزل كيان الحضارة المطمئنة الى جمودها! مثلما تكون المعرفة حديقة أندلسية بين المقدس.. واللاوعي كانت تزرجحها بين البحث الميداني، وبين التأمل المعرفي السوسيولوجي بأدواته، وهذا ما سيكتبه الذين يعرفون علم الاجتماع وليس العبد الضعيف لربه.. فوجئت بها تحلل معطيات صندوق النقد الدولي، وتجربة اليابان في بناء الثقة، في ما بعد الحرب الثانية ولالتفاف على عقوبات الغرب المنتصر بحلفائه. وكانت العبرة واحدة:الثقة هي الكفيلة بصناعة النمو، وقد تابعتها في ترتيب الإنجازات في قبائل كتابها ONG rurales du Haut-Atlas .Les Ait-Débrouille .. لنكتشف أنها قاردة على أن تجمع تجربة اليابان وتجربة قرية تبعد عن مراكش ب100 كلم في تركيب منطقي واحد ، وبقدرة على الإقناع تفوق الاقتصاديين والنشطاد المدنيين..! هذه السيدة الحرة كانت حريتها معدية لنا. سنشكرك كلما أحسسنا بمتعة الحرية، من كل شيء ، حتى من الايديولوجيا التي قلت لنا أنها لا تُعوِّض الحياة، وعندما يحدث ذلك نصبح عبيدا لضعاف النفوس و للانتهازيين!