أنا سعيدة ومتهيبة لالتزامي بتقديم شهادة عن الأستاذة والقاصة لطيفة لبصير. وها أنا أجدني بعد محاولات كثيرة لأستجمع خيوط معرفتي وعلاقتي فكريا وإنسانيا (وقصصيا !) بلطيفة لبصير، أعتز بأن يكون لهذه العلاقة عنوان بارز وجميل يتحدد في الصداقة وبالمشترك الفكري. طبعا الأستاذة لطيفة لبصير اسم راسخ في الساحة القصصية المغربية. وهي كاتبة رسخت حضورها عبر أربعة مجاميع قصصية، صدرت أولاها «رغبة فقط» في 2003، ثم تلتها مجموعة «ضفائر» في 2006، ومجموعة «أخاف من» في 2010، وأخيرا «عناق» في 2012. كما أصدرت عملا أجده في غاية الأهمية وهو «سيرهن الذاتية، الجنس الملتبس» الذي تسلط فيه الضوء على الكتابة النسائية في علاقتها بالكتابة عن الذات وبكتابة السيرة الذاتية. وفي إطار السيرة ولكن بصيغة مختلفة، انتقلت لطيفة لبصير في كتابها «محكيات نسائية لها طعم النارنج» الصادر منذ سنتين، لتروي حكايات من الواقع. ولكن قبل كل هذا اسمحوا لي أن أبدأ من البداية. يمكنني أن أعد عدد المرات التي التقيت فيها لطيفة لبصير. بداية من ذاك المساء الربيعي في أحد مقاهي الرباط - رفقة أصدقاء آخرين لها- حيث امتد بنا الحديث لساعات، إلى آخر تحية سريعة في معرض الكتاب السنة الماضية. لا نلتقي إلا نادرا أنا ولطيفة. ولكن هناك صداقات تمتلئ حتى بالفراغات الزمنية. تتقوى تحديدا بها. ولأننا كلما التقينا يتجدد بيننا المشترك كأننا افترقنا في المساء السابق. فنحن أكيدتان من كون يد الآخرى ممتدة دائما، مثل صديقة، ومثل قارئة، ومثل أفق إنساني رحب وشاسع. عرفت ذة لطيفة لبصير قبل كل هذا، كاتبة متميزة. أقرأ لها بإعجاب كبير ومتعة لا متناهية. لطيفة القادرة دوما على الغوص في التفاصيل والتقاط الأحداث الصغيرة لتصنع منها قصصا عميقة. هي القادرة على المشي بمهارة في منطقة الخوف والهشاشة والضعف والهامش وغيرها من المناطق التي تعري كائناتها السردية. لذا أُعجبت دائما بقدرتها على التطرق إلى مواضيع تحاكي الواقع بكثير من فصاحة الرأي وجرأة الطرح والقدرة على الحياد. أقصد أن الكاتبة تترك لنا كقراء هامشا فسيحا لنطلع ونميز ونقرر. إذ إن لطيفة غير معنية بلم كوكبة من المريدين حول ما تكتبه، بقدر ما هي معنية –هذا ما يتبدى لي على الأقل- بالمساهمة في التقاط أحداث اجتماعية وتحويلها إلى نصوص قصصية، لا ينقصها التخييل ولا الخيال، وحمّالة رؤية جمالية أولا، وفكرية واجتماعية ثانيا. لكن الكتابة لدى الصديقة لطيفة لبصير ليست فقط رسالة، بل هي بالأساس حاجة ماسة إلى فسحة تعبير، وفسحة حرية. لذا نجد الكاتبة تكتب من داخل بؤرة قلق داخلي عميق. قلق يتبدى في عملية الكتابة في حد ذاتها، كما يتبدى في أسئلة تلقي القارئ للنص، ولكن أيضا يتجلى هذا القلق في محاولة التجاوز للذات الكاتبة، وفي محاولة التجديد في المواضيع وفي الشكل والأسلوب. غير أني لن أستفيض في الحديث عن الجانب الإبداعي للطيفة، لأن هناك جلسة مخصصة لتناول منجزها الإبداعي. أحب أن أتشارك معكم أيضا جوانب من الشخصية الكاتبة ذاتها. لقد تحدثت قبل قليل عن القلق وتلك الهشاشة النافذة إلى النصوص نفسها أحيانا. وهما من شيم الكتاب الذين تربطهم بالكتابة علاقة متوترة تتسم بنوع من الدهشة والخوف. أعتقد أن الكتابة بالنسبة للطيفة هي حاجة حيوية، أساسية في علاقتها مع محيطها ومع المجتمع ومع الكون ككل. وربما السؤال الذي يمكن أن أطرحه معكم لصديقتي هو: كيف وجدت هذه الرغبة- رغبة الكتابة - بداخلك ولماذا؟ لطيفة لبصير وهي تضفر ضفائر القصص، هي أم أيضا. امرأة لها مقاربة للأمومة تشبه تلك التي أتت بها إلى الأدب. فيها حب ورغبة وقلق وخوف. لعل من أجمل محادثاتنا في الهاتف تلك التي يصلني فيها صوتها حانيا ودافئا وقلقا أحيانا، وهي تحدثني عن علاقتها بولديها وعن مراحل الحمل والولادة وما يتبعهما من تعب لذيذ للأمومة الواعية. فهي تدرك تماما حجم التضحية لأجل بناء هذه العلاقة الخاصة جدا التي تسمى أمومة مع طفليها وحولهما. ربما من داخل هذا الوعي تحديدا، نستشعر معها وفيها ذاك الخوف من الآتي ومن تقلبات المجتمع ومن متطلبات الحياة المتعددة ومن الموت أيضا طبعا... تخاف لطيفة مما لا تستطيع معرفته لتجاوزه ومعالجته وتفاديه. هي التي إن كانت ظاهريا لا تهتم بالسياسة ولا بالانتماءات الإيديولوجية الكبرى، فإنها تكتب من داخل وعي متيقظ ومفعم بالإنسانية وبالأسئلة الوجودية الأساسية في أي فكر حر ومستقل. ومقابل الاتهامات والعنف والصخب، نجد أنها في كتاباتها وفي حياتها مسالمة حد الانسحاب من المواجهة. وبقدر ما هو تكريس لمبدأ الحياد، فهو انتصار للفرد الحر المستقل القادر على إثبات وجوده إنسانيا وفكريا وحضاريا دونما حاجة لإبراز ذلك من خلال صراعات واهية ومفتعلة. لذا تنتصر لطيفة لبصير للعناق وللحب في ما يشبه دعوة المتصوفة إلى عالم هادئ ومسالم ومفعم بقيم التشارك والتسامح. وتنجح في نقل هذه الدعوة إلينا حتى عندما تكتب عن أشخاص مشوهين ومتعبين ومنكسرين. إنها فقط تقول لنا إن رمق الحياة صغير وعابر، لنعشه بخفة وبحب وهدوء. تنجح لطيفة لبصير في أن تعيش في وئام ووفاق مع قلقها الداخلي. ويتسع أفقها الإنساني والفكري ليحتضن التجارب الإبداعية الجديدة برحابة صدر، وبقدرة لافتة على الحوار والنقاش الفكري والأدبي بعيدا عن أي تراتبية وأي إنكار لحضور الآخر مهما كان جديدا ومهما كان صغيرا. تستحق لطيفة لبصير هذا الحب لشخصها وهذا التكريم لمنجزها الأدبي. هنيئا صديقتي. هنيئا زاكورة.