كان 2025 .. المغرب يرسخ دولة الاستقرار ويفكك السرديات الجزائرية المضللة    روسيا تنمع استيراد جزء من الطماطم المغربية بعد رصد فيروسين نباتيين    الذهب والفضة عند مستويات قياسية وسط توترات جيوسياسية وتوقعات بخفض الفائدة الأمريكية    أسعار الفضة تتجاوز 75 دولاراً للمرة الأولى    الحكم على مغني الراب "بوز فلو" بالحبس ثلاثة أشهر موقوف التنفيذ وغرامة مالية    تفاصيل إحباط تهريب أطنان من المخدرات بميناء طنجة المتوسط    وفق دراسة جديدة.. اضطراب الساعة البيولوجية قد يسرّع تطور مرض الزهايمر    طقس ممطر وبارد في توقعات اليوم الجمعة بالمغرب    المنتخب يحمس مطاعم ومقاهي طنجة    لاعبو المغرب يؤكدون الجاهزية للفوز    مقاييس التساقطات الثلجية خلال ال 24 ساعة الماضية    الدوزي يكشف أسباب الانسحاب من "أغنية الكان" .. ويأمل تتويج أسود الأطلس    تقرير: النيابات العامة تمكنت من تصفية أزيد من 497 ألف شكاية سنة 2024، بما يفوق عدد الشكايات المسجلة خلال نفس السنة    حادثة سير تخلف إصابة سبعيني بممر للراجلين وسط الحسيمة    كأس إفريقيا.. أنغولا وزيمبابوي في مواجهة مصيرية ضمن المجموعة الثانية        زخات رعدية محليا قوية وتساقطات ثلجية ورياح قوية وطقس بارد من الخميس إلى الأحد بعدد من مناطق المملكة (نشرة إنذارية)    ارتفاع تداولات بورصة الدار البيضاء    ساعف: السياق السياسي بالمغرب يعرف انحدارا كبيرا    الفنان الروسي بيوتر إكولوف يحيي حفلا موسيقيا ببيت الصحافة بطنجة    عقد اتحاد طنجة لجمعه العام العادي رغم طلب العصبة تأجيله يثير جدلًا    مدرب مالي يناشد جماهير الرجاء لدعم نسور مالي أمام المغرب    جمعية تكافل للاطفال مرضى الصرع والإعاقة تقدم البرنامج التحسيسي الخاص بمرض الصرع    نبأ الجميلي تناقش أطروحة دكتوراة عن أدب سناء الشعلان في جامعة تركيّة    جائزة الملك فيصل بالتعاون مع الرابطة المحمدية للعلماء تنظمان محاضرة علمية بعنوان: "أعلام الفقه المالكي والذاكرة المكانية من خلال علم الأطالس"    "أسود الأطلس" في اختبار قوي أمام "نسور" مالي لحسم التأهل مبكرا إلى ثمن نهائي "الكان"    حين تفتح سانت بطرسبورغ أبوابها ويخرج المغرب من الضوء    وزارة العدل وجمعية هيئات المحامين تتدارسان جدل القانون المنظم للمهنة    "الكاف" يعاقب الجيش الملكي بحرمان جماهيره من حضور مباراتين في دوري الأبطال    مطار محمد الخامس يكسر حاجز 11 مليون مسافر بفضل كأس إفريقيا    معهد الجيوفيزياء يوضح تفاصيل هزّتَي مكناس وأسباب عودة النشاط الزلزالي    نتائج الجولة الأولى من دور المجموعات        الجزائر تُقرّ قانوناً يجرّم الاستعمار الفرنسي ويطالب باعتذار وتعويضات.. وباريس تندد وتصف الخطوة ب«العدائية»    2025 عام دامٍ للصحافة: غزة تسجل أعلى حصيلة مع 43% من الصحفيين القتلى حول العالم    وزارة العدل الأمريكية تحصل على مليون وثيقة يُحتمل ارتباطها بقضية إبستين    إحراق سيارة تحمل لافتة لمناسبة عيد حانوكا اليهودي في ملبورن الأسترالية    تهنئة مثيرة لترامب تشمل "حثالة اليسار"    "الجمعية" تحمّل السلطات مسؤولية تدهور صحة معطلين مضربين عن الطعام في تادلة وتطالب بفتح الحوار معهما    14 دولة تندد بإقرار إسرائيل إنشاء مستوطنات في الضفة الغربية المحتلة    إطلاق خط سككي جديد فائق السرعة يربط مدينتين تاريخيتين في الصين    الصين تكتشف حقلا نفطيا جديدا في بحر بوهاي    بالإجماع.. المستشارين يصادق على مشروع قانون إعادة تنظيم مجلس الصحافة    معارض إفريقية متنوعة للصناعة التقليدية بأكادير ضمن فعاليات كأس إفريقيا للأمم 2025    فيدرالية اليسار الديمقراطي تحذر من حالة الشلّل الذي تعيشه جماعة المحمدية    أجواء ممطرة وباردة في توقعات اليوم الخميس بالمغرب        بالملايين.. لائحة الأفلام المغربية المستفيدة من الدعم الحكومي    ندوة علمية بكلية الآداب بن مسيك تناقش فقه السيرة النبوية ورهانات الواقع المعاصر    كيف يمكنني تسلية طفلي في الإجازة بدون أعباء مالية إضافية؟    ملتقى العيون للصحافة يعالج دور الإعلام في الدفاع عن الصحراء المغربية    ‬ال»كان‮«: ‬السياسة والاستيتيقا والمجتمع‮    رباط النغم بين موسكو والرباط.. أكثر من 5 قارات تعزف على وتر واحد ختام يليق بمدينة تتنفس فنا    رهبة الكون تسحق غرور البشر    بلاغ بحمّى الكلام    فجيج في عيون وثائقها    دراسة: ضوء النهار الطبيعي يساعد في ضبط مستويات الغلوكوز في الدم لدى مرضى السكري    دراسة صينية: تناول الجبن والقشدة يقلل من خطر الإصابة بالخرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر والمترجم جمال خيري ل «الملحق» .. لاوجود لترجمة وفية لأن الوفاء للأصل خانق

لا يُترجِم إلا مَا يقدِّم له جَرعَةً كافيَةً منَ المُتعَة. ولا يرَى إلى النَّص الأدَبي بوَصفهِ لغةً بمُسْتوياتها التركيبيَّة والنَّحوية والصَّوتية وحَسب، بل باعتبارهِ نصّاً بمَحمول اجتمَاعي وتاريخِي وَجغرافي...إلخ، أي باعتبَارهِ بنيَة ثقافيةً شامِلة؛ وهو مَا يُوجب على أيِّ مُترجم الإلمَام بالسِّياق الثقافِي للغتيْن اللتين يتحرَّك بينهُما. يَخلصُ الشاعرُ والمُترجم جَمال خيري، في هَذا المُقتطف مِن الحِوارِ، إلى أنَّ الترجَمة إعادَة كتابَة تمنحُ النصَّ أفقاً جديداً. كمَا يَتفاعل معَ أسْئِلة همَّت تحوُّلاتِ النَّص وَهوَ يعبُر منْ لغةٍ إلى أخرَى، مثلمَا همَّت مَوضُوعَ ارْتباطِ «الخِيانة» و»الوَفاء» بالتَّرجَمة وتفاصِيل أخرَى ضِمنهَا ترْجَمتُه لثلاثَةٍ منْ دَواوِين الشَّاعر عَبد اللطِيف الَّلعبِي...
n يبدو أنك صرت في السنوات الأخيرة مأخوذا، أكثر من أي وقت مضى، بترجمة الأدب الفرنسي. ونصوصك المترجمة التي تسنى لي أن أتابعها في عدد من المواقع، كانت على درجة عالية من العمق... أحب أن أسألك: على أي أساس تنتقي نصوصك، ثم ما هي درجة الوعي لديك بحاجة القارئ العربي إلى ما تقدمه له من ترجمات؟
pp النصوص التي أنتقيها، الشعرية منها على الخصوص، وأشتغل على ترجمتها، أو بالأحرى التجارب الشعرية التي أتقدم بها إلى القارئ العربي، تربطني بها علاقة عشق ومتعة. فالانتقاء، طبعا، يتم وسط ركام من التجارب/الدواوين، التي أتناولها بعد التنقيب عنها أو اكتشافها بلا توقع، بالدرس والاستفسار عبر القراءة، وبالعودة إلى قراءتها مرات أخرى مشدودا بما تركته فيَ من أثر مثير وسؤال ملحاح أو قلق.
وأظن أنني عبر تجربتي البسيطة في قراءة وكتابة الشعر، العربي منه والفرنسي، تمكنت من اكتساب وتطوير بعض الأدوات النقدية الانتقائية، وبعض المراس الحدسي الناتج عما أتمكنه من متابعة للحركة الشعرية، يجعلاني قد أتوفق (وهذا ما أرجوه) في اختيار ما يمكنه أن يساهم في سد حاجة القارئ العربي، أو على الأقل فتح شهيته، إلى معرفة تجارب شعرية متميزة وممتازة قد تبقى عنه بعيدة المنال بحكم الحاجز اللغوي واعتبارات أخرى غير لغوية. وكل هذا لا يتم بيسر في غياب ظروف مثالية للنشر.
ولا ننسى أنني قارئ عربي قبل أن أكون شاعرا أو مترجما. وموقعي ها هنا بفرنسا، وفي باريس بخاصة، يجعلني كما داخل مكتبة أنقب بين الكتب، فيما يبدو لي القارئ العربي خلف الزجاج يتفرج على ما يزين الواجهة.
n أتيت على ذكر عوائق النشر، وهذا الموضوع له شجونه، كما تعلم؛ دعنا نؤجل الحديث في هذا الموضوع، واسمح لي بسؤال إضافي بشأن الترجمة أصوغه كما يلي: هل تكفي المعرفة الجيدة باللغة لتحقيق ترجمة جيدة لنص ما؟ أم هل هناك متطلبات أخرى يقتضيها فعل الترجمة؟
pp إتقان اللغة (لغتين على الأقل) شرط محتَّم للقيام بترجمة نص ما. ومن نافلة القول إن الكتابة لا تتم إلا باللغة، وإن الترجمة في تعريف بسيط هي تحويل من لغة إلى لغة. نسمي الأولى اللغة الأصل، أي لغة النص الأصلي المطلوب ترجمته. والثانية، نسميها اللغة الهدف، بمعنى أنها لغة النص الذي نرمي إليه. ولهذا ننعته بالنص الهدف. ولكن المعرفة الجيدة باللغة، أو بالأحرى باللغتين لا تفيد في تحقيق ترجمة جيدة لنص ما. فالنص، وحديثي ها هنا عن النص الأدبي، ليس اللغة فقط؛ اللغة بمستوياتها التركيبي والصرفي والقاموسي (ولا نغفل كذلك المستوى الصوتي الذي لا يهتم به المترجمون إلا نادرا)، بل النص الأدبي يتجاوز ذلك إلى نطاق الدلالي/التداولي، الاجتماعي/الجغرافي، التاريخي/الحضاري، الفني/الجمالي. أي أن النص بنية ثقافية ولتحقيق ترجمته يلزم على المترجم أن يكون ملما بثقافة اللغتين. فالترجمة ليست تحويل نص ما من لغة إلى لغة، بل من ثقافة إلى ثقافة. إنها إعادة كتابة تمنح النص أفقا جديدا عبر وفي ثقافة أخرى. إنها إبداع ولا تكون جيِّدة إلا حين يبدو النص الهدف مبتكرا لدى المتلقي.
n صحيح، فالنص الهدف كما سميته، وللاعتبارات التي ذكرتها، يصير نصا بروح جديدة كما لو أنه كائن بذاته وليس مسنودا إلى نص آخر. لكن هناك من قد يستفسر عن مصير روح النص الأصلي. ما الذي تقوله بهذا الصدد؟
pp رغم أن هذا الاستفسار يكتسب مصداقيته من واقع الترجمة، فأنا لا أظن أنها تمنح لنص ما روحا جديدة. إنما هي تنفخ في روحه حيوية طريفة وتمنح لمادته نشاطا وتجدد دينامية أسلوبه. فروح النص هي الذات الكاتبة أسلوبها وتجربتها وعوالمها التي تُنبضُها لغته في ثقافة معينة. وهذا ما يلزم على المترجم ألا يغيبه عن ذهنه، فهو لا يترجم متواليات وتراكيب لغوية خارج ما تحتويه من سياقات تداولية وإحالات معرفية، اجتماعية وسياسية وتاريخية وما ترج به من إيحاءات وخلفيات بل يترجم كل هذه الحمولة، أي التجربة اللغوية الثقافية للنص وللذات الكاتبة. فهو إذن ملزم بمعرفة ما يقع خارج اللغتين من سياقات تداولية وإحالات معرفية وغيرها، وملزم كذلك باعتبار خصوصيات وخلفيات وتقنيات الذات الكاتبة وكلتا اللغتين.
فلنمثل للمسألة ببساطة: النص الأصل في لغته بين دفتي كتاب، يظل نصا مجمَّدا بالنسبة للقارئ الذي يجهل هذه اللغة. ودور المترجم هو أن يقدم لهذا القارئ في لغته تقريبا النص نفسه متحركا متدفقا. وأود ألا يُفهم من كلامي هذا أنني أقصد أن الترجمة نسخة طبق الأصل، ليس إلا.
إذن، وهذا غالب ظني، فلن يستفسر عن مصير روح النص الأصلي إلا الذي قدم له المترجم جسمانا هامدا لا بدنا متوهجا بالحياة. فالترجمة الجيدة هي التي تنسينا أن النص الهدف نسخة لا مشروعية لها إلا من خلال الأصل.
n عطفا على ما تفضلت به، أريد الإشارة إلى ارتباط مفردة «الخيانة» لدى الكثيرين بالترجمة، بل منهم من يراها «خيانة إجبارية» للنص طالما أن المترجم يكون أمام نظامين لغويين مختلفين مثلما ذهب إلى ذلك الكاتب الجزائري واسيني الأعرج؛ كيف تستقبل الكلام عن موضوع «الخيانة» التي يربطها أدونيس، خلافا لهؤلاء، ب»قاموس «الأمن» - النقيض المطلق للشعر» كما يقول؟
pp لفظة ترجمة تختلف معانيها من لغة إلى أخرى وتحيل على خلفيات شتى، حتى أنه يقال عنها إنها اللفظة التي لا تُترجم، أو التي لا تعد ترجماتها ولا تحصى. ولا ننسى أنها تحيل في اللغة العربية إلى السيرة وإلى التفسير إلى الإبانة والنقل... إلخ. ومقولة «الترجمة خيانة»، وهي لعبة لغوية، واردة في كل الثقافات، وما يزال البعض يبحث عن أصلها إن كان فعلا إيطاليا أم فرنسيا، لكن المتفق عليه أنها أتت من مقولة كَنَسِية لا علاقة لها بالترجمة فحواها «المرتد خائن» نعتا للمسيحيين الذين ارتدوا عن دينهم ودخلوا الوثنية خوفا من التعذيب في عهد الإمبراطور الروماني ديوكلتيانوس.
والذي يقوله السيدان واسيني الأعرج وأدونيس، يقوله غالب المترجمين في كل اللغات. وهو دفاع عن الترجمة عموما وعن ترجماتهم ونظرياتهم بخاصة، ثم هو دفاع عن النفس بحيث إن كلمة «خيانة» وفي كل اللغات كلمة انتقاصية قدحية جعلت كل المترجمين يسقطون في مأزق رد الفعل وإبعاد التهمة بغية الدفاع عن النفس وهذا أمر لا يفيد في معالجة الأسئلة الذي تطرحها الترجمة أو تُطرح عليها.
فلنعالج الأمر ببساطة: حين نترجم نصا من اللغة الفرنسية مثلا إلى اللغة العربية، فنحن نقلبه كتابيا. ننقله من كتابة تبدأ من يسار الورقة إلى كتابة تنطلق من اليمين. وننقله خطيا من حروف لغة أشكالها لا تشبه أشكال اللغة الأخرى بتاتا، وبصوائت وصوامت مختلفة. فنحن منذ البداية نغير في النص. هذه الاختلافات دليل على أن النص في لغته الأصل يدخل سلسلة من التحولات ليصبح النص نفسه غيرا لنفسه في آن عبر اللغة الهدف.
فهل يعقل أن نتحدث ها هنا عن الخيانة؟ ثم إن الخيانة لا تكون إلا بنقيضها، فلا يمكن أن نتحدث عن الخيانة بغض النظر عن الوفاء. فهل مقولة «الترجمة خيانة» تعني أن «عدم الترجمة وفاء»؟ النص المترجم مهما بلغت به درجات «الوفاء» في العلياء يبقى نصا آخر، كتابة جديدة وإبداعا جديدا. ويكفي أن نتناول أوفى وأصدق وأخلص وأنزه نص مترجم، أن نتناوله بالترجمة المضادة، يعني أن نعيد ترجمته إلى لغته الأصل وسنرى أنه سيصبح نصا مغايرا عن أصل أصله، نصا جديدا آخر. فالنص، أي نص، ليس لصيقا بلغة ما، بل هو محمول بها وهي مشحونة به.
في نظري ليس هناك ترجمة وفية وترجمة خائنة، وقد أجبت يوما عما يشبه هذا (في حوار أجراه معي الأخ محمد جليد عن صحيفة «أخبار اليوم» حول ترجمتي للشاعر عبد اللطيف اللعبي) قائلا إنني لا أظن أن ثمة ترجمة وفية، لأن الوفاء يقتضي منها أن تكون طبق الأصل، وهذا ليس بالإمكان، وليس المطلوب من الترجمة، بتاتا. الترجمة إعادة كتابة قد تفلح وقد تخيب. ولهذا فإن كان لا مناص من الحديث عن الخيانة، خيانة النص، فهي تكمن في الجهل بلغتيه وخلفياتهما السوسيوثقافية، الأمر الذي يولد الرداءة والركاكة والتزييف وتضع بين أيدينا نصوصا لا تنتمي إلى هذه اللغة أو تلك، لا أصل ولا هدف لها.
n عدم إمكان حصول ترجمة طبق الأصل، كما قلت، هذا ما يعتبره آخرون «خيانة»، لأن النص الأصلي وقد تحول إلى لغة أخرى يظهر بأبعاد أخرى جديدة، وقد ينزاح ويقول ما لم يقله النص الأصل...
pp بالفعل، فحين نقول إن الترجمة تفتح أفقا جديدا لنص ما، فهذا بعض مما نعنيه. أي أنها تقدمه في أبعاد لغوية أخرى بخلفيات ثقافية جديدة. الوقوف عند حرفية النص والتعلق بتلابيبه يخنقه ويجمده وهو خائنه الأول.
فالترجمة عموما مستويات ثلاث: الأول، ترجمة ظاهرية تلتصق بسطح النص وتطفو على حرفيته طلبا في محاكاته، وتظن نفسها أمينة بهذه المحاذاة لما هو مباشر شكلا ومضمونا في النص. فهي مثلا (مثلا بسيطا) لا حصرا، قد تترجم جملة «Ils sont revenus sur leurs pas» ب: «رجعوا على خطواتهم»، فهل فعلا هذه الترجمة الظاهرية أفلحت في توصيل الجملة الفرنسية بعربية سليمة إلى المتلقي العربي؟ هل نعتبرها ترجمة وفية لا لشيء إلا لأنها لزقت بحرفية النص؟ لا أظن. إنها كتابة بالعربية على نحو فرنسي.
المستوى الثاني في الترجمة، هو المستوى التوليدي، أي أنه نابع من قراءة متأنية متأملة للنص الأصل لغة دلالة وتداولا، ومتأمل كذلك في اللغة التي يترْجِم بها إليها على نفس الشاكلة أي لغة دلالة وتداولا. إنه مستوى الترجمة التي تريد نفسها عارفة، فهي تحاور النص وتتوقف على حيثياته وتتجاوز ظاهره إلى ما قد يخفيه كي تولِّدُه في اللغة الهدف باحثة فيها عما يضمن لها الجودة داخل اللغة والثقافة المترجَمِ بها وإليها. فمثلا هي قد تترجم نفس الجملة السابقة ب «رجعوا على أعقابهم»، وهذا تعبير عربي يفي بالمهمة.
ثم هناك المستوى الثالث وهو نوع من الترجمة التأويلية التي تأخذ كامل الحرية في التصرف بالنص، وتمضي أبعد من المطلوب أحيانا، أي أنها تضيف إلى النص ولعلها تشطب منه وتلغي، وأحيانا أخرى قد تحمله ما لا يتحمل. وقد تترجم نفس الجملة مثلا ب: عادوا خائبين»، وإنما هذه الترجمة، حسب ما يبدو لي، لضرب من المغالاة.
الترجمة تمر بمراحل معينة من الاشتغال تبدأ بقراءة النص الأصل مرارا لضبطه وسبر أغواره. وتنتهي بالعمل على النص الهدف بالتصحيح والتنقيح. وترجمة المحاذاة، أي الحرفية، ليست سوى بعض من مرحلة الاشتغال الأولى. إنها تشبه المسودة، إنها التصور المبدئي للنص، كتابة أولية، ما علمونا أن نسميه «وسخا» في المدرسة الابتدائية، ليس إلا.
n بعيدا عن الجانب النظري، اسمح لي بالوقوف عند إحدى تجاربك العملية الأخيرة، أقصد ترجمتك ل»الفصل المفقود، يليه حب-جكرندا» وهو أحد الدواوين الثلاثة الصادرة لعبد اللطيف اللعبي ضمن منشورات بيت الشعر المغربي لسنة 2015 في كتاب تحت عنوان «بستاني الروح»، ما تقييمك لما قمت به وأنت تترجم اللعبي؟ هل كنت أمام نصوص فرنسية شكلا ومحمولا ثقافيا أم أمام عمل أدبي فرنسي اللغة مغربي الروح؟
pp مَعْذِرَة لابد لي قبل أي رد من توضيح مسألة «الجانب النظري» فيما يخص الترجمة؛ فأنا لا أعتبر نظرية معينة بكلامي السابق، بل أعبِّر عن ممارستي للترجمة حسب تجربتي البسيطة في ميدانها، فعلا وقراءة. لقد زاولت الترجمة سابقا من حين لحين إما مضطرا حين كنت طالبا جامعيا وكانت جل المصادر والمراجع باللغة الفرنسية. أو طلبا في بعض المتعة حين كنت أقوم بتحويل بعض النصوص الشعرية لازدرادها باللغة العربية. لأنني كنت وها ما أزال أعتبر الترجمة لعبة ممتعة بحق. والممارسات الفتية التي قمت بها قبلا، أفادتني أولا في إعادة كتابة بعض قصائدي من كتاب «وكأني أحلتني حدود بلادي»، وإصدار ديواني «باتري-سيد» بالفرنسية. ثم، ومع الزمن والمراس أفادتني في تنميق طريقتي الخاصة في الترجمة، وهي عبارة عن مجموعة من الإجراءات تبدأ بقراءة النص الأصل مرارا وتسجيل ملاحظات عما يمكن تحميله وما لابد من تحويله، وتمر بمراحل أخرى منها البحث المعجمي والتحقيق التداولي وغيرهما إلى أن تنتهي بالاشتغال على لغة النص الهدف وجماليته. النظرية لا تصنع المترجم، إنما المراس المراس (والتشديد مني).
وبهذه الطريقة اشتغلت على ترجمة دواوين الشاعر عبد اللطيف اللعبي، ومن بينها الديوانين اللذين ذكرتهما، وقبلهما ديوان «منطقة الاضطرابات» عند صدوره (أي قبلهما) وهو منشور كاملا على صفحات المجلة الإليكترونية «قاب قوسين». وشعر عبد اللطيف اللعبي يتطلب الحذر والتأني، لأن لغته، التي تبدو بسيطة سهلة المنال، تخفي تصوره العميق للعالم والإنسان والأشياء. إنها لغة إيحائية وليست تصريحية، وكأنها (وفعلا أحيانا) تعتمد أساليب الحكمة والطرفة، وتجعل ترجمته ضربا من السهل الممتنع.
في الدواوين التي تناولتها بالترجمة، انطلقت مبدئيا من اعتبار شعر اللعبي شعرا فرنسيا فهو مكتوب باللغة الفرنسية ولا يمكن في نظري أن نفرغ لغة ما من خلفياتها، فاللغة ليست شكلا فقط وكلماتها ليست جوفاء بل مشحونة بحمولات سوسيو-ثقافية. والكتابة بالفرنسية ليست موجهة إلى القارئ العربي (المغربي على وجه الخصوص) بل إلى قارئ يمتلك نفس اللغة أينما كان، وكيفما كان فرنسيا أو غير فرنسي. وقد ترجمت شعر اللعبي وعيا مني أنه لا يصل إلى القارئ المغربي والعربي عموما. نعم هناك أسماء بعض الأمكنة المغربية تتخلل دواوينه من حين لحين، وبعض الإحالات إلى ما هو ثقافي مغربي، ولكن هل هذا وحده يضمن للنص مغربيته؟ أم أن هوية الشاعر المغربية هي الكفيلة بذلك؟
ومن جهتي كقارئ لشعر عبد اللطيف اللعبي، أرى أنه (أي شعره) يتجاوز هوية الانتماء الوطني أو الثقافي أو اللغوي إلى ما هو أبعد وأعمق. إنه شعر إنساني بامتياز. شعر الإنسان أينما وكيفما كان لا يضيق نَفَسَه بالمحليات أو الفولكلوريات، بل يسع الأرض وما ومن عليها وفي أجوائها وأعماقها. وهذا، أظنه آت من سيرة الشاعر نفسه، عبد اللطيف اللعبي شاعر قضايا الإنسان (الحرية، الكرامة؛ المساواة...إلخ) والذي عانى السجن والمنفى دفاعا عنها (...).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.