بعد إلغاء موريتانيا الزيادة في رسومها الجمركية.. أسعار الخضر والفواكه مرشحة للارتفاع            برقية تهنئة من جلالة الملك إلى رئيس جمهورية بولندا بمناسبة العيد الوطني لبلاده    جنازة الحقوقي عبد العزيز النويضي عصر اليوم في مقبرة بجماعة واد الشراط    حرية الصحافة.. المغرب يحقق تقدما كبيرا في التصنيف العالمي والصحافة المستقلة باتت مهددة بالانقراض بالجزائر    مندوبية التخطيط: ارتفاع معدل البطالة إلى 13,7 بالمائة خلال الفصل الأول من 2024    أسعار الذهب تتجه للانخفاض للأسبوع الثاني تواليا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    "فاو": ارتفاع أسعار الغذاء عالميا للشهر الثاني على التوالي    حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الاسلامي يعلن ترشح رئيسه للانتخابات الرئاسية في موريتانيا    تركيا توقف التبادل التجاري مع إسرائيل بسبب "المأساة الإنسانية" في غزة    مراسلون بلا حدود عن 2024.. ضغوط سياسية على الاعلام والشرق الأوسط "الأخطر"    بركة يعلن عن خارطة طريق للبنيات التحتية استعدادًا لكأس العالم 2030    جدول مواعيد مباريات المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    لقجع يعلن انطلاق مشاريع مونديال 2030    ملف "اليملاحي".. "جرائم الأموال" بالرباط تقضي بعدم الاختصاص وتعيده إلى ابتدائية تطوان    بنموسى : إصلاح المنظومة التربوية الوطنية ورش استراتيجي يتطلب تعاون جماعي    انطلاق خدمات 14 مركزا للرعاية الصحية الأولية بجهة فاس مكناس    رسميا.. النادي القنيطري يتعاقد مع عبد الرحيم شكيليط خلفا للمدرب الساخي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    في الذكرى 42 لتأسيسها.. الإيسيسكو تواصل النهوض برسالتها الحضارية وتلبية تطلعات دولها الأعضاء بمجالات اختصاصها    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    احتجاجات أمام القنصلية الأمريكية بالدار البيضاء تضامنا مع طلاب الجامعات الداعمين لغزة    توقف أشغال طريق بين مكناس وبودربالة يثير غضب السكان بالمنطقة    عدلي يشيد بتألق "ليفركوزن" في روما    المكتب المركزي للأبحاث القضائية يعلن تفكيك خلية إرهابية من 5 عناصر    الكعبي يسجل "هاتريك" ويقود أولمبياكوس للفوز أمام أستون فيلا في دوري المؤتمر الأوروبي    اختتام الدورة الثانية لملتقى المعتمد الدولي للشعر    موزمبيق.. انسحاب قوات مجموعة تنمية افريقيا الجنوبية يفتح الطريق أمام حالة من عدم اليقين    حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة    غامبيا.. بوريطة يتباحث مع نظيره الغابوني    شمس الضحى أطاع الله الفني والإنساني في مسارها التشكيلي    إيقاعات الجاز تصدح بطنجة بحضور مشاهير العازفين من العالم    بنك المغرب…66 في المائة من أرباب المقاولات الصناعية المغاربة يعتبرون الولوج إلى التمويل "عاديا"    أوريد: العالم لن يعود كما كان قبل "طوفان الأقصى"    الفرقة الجهوية دالجندارم طيحات ريزو ديال الفراقشية فمدينة سطات    ريم فكري تفاجئ الجمهور بأغنية "تنتقد" عائلة زوجها "المغدور"    تكريم حار للفنان نعمان لحلو في وزان    "تقدم إيجابي" فمفاوضات الهدنة.. محادثات غزة غتستمر وحماس راجعة للقاهرة    انهيار طريق سريع جنوب الصين: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48 شخصا    الدوري الأوربي: ليفركوزن يعود بالفوز من ميدان روما وتعادل مرسيليا واتالانتا    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    بلاغ هام من وزارة الداخلية بخصوص الشباب المدعوين للخدمة العسكرية    رسالة هامة من وليد الركراكي ل"أسود" الدوريات الخليجية    مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    "دراسة": زيادة لياقة القلب تقلل خطر الوفاة بنحو 20 في المائة    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيميائيات الأهواء
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 07 - 2011

شغلت الأهواء(1) الفلاسفة وعلماء الأخلاق والأدباء بما لها دور في إثارة المباهج أو الأحزان، وحدوث أزمات أو تفاديها، و شحذ إرادة الإنسان أو تعطيلها. ومن خلال المسار التاريخي للنظرية السيميائية يتضح أن السيميائيين، بدورهم وإن من منظور مختلف، اهتموا بدور الإحساس في تحقيق البرامج الحكائية، والانتقال من حال إلى آخر، وتوطيد تفاعل الإنسان ، أكان إيجابيا أم سلبيا، مع محيطه. يعد الهوى، بحكم تشبث السيميائيين ب» النظرة الجامعة والمتسقة»عنصرا أساسيا في إحداث الفعل ( على نحو حفز اللاعبين على الانتصار في المباراة) أو استرجاع تفاصيله (الندامة على الهزيمة)، ومده بالطاقة الانفعالية اللازمة حتى يكون في مستوى الآمال المعلقة عليه ( ما يرتبط بما سيحدث ) أو يخضع للتقويم الأخلاقي لتبين نقائصه ( ما يتعلق بما حدث). ويؤدي الجسد، في الحالات الانفعالية جميعها، دورا كبيرا في تحقق المعنى (جسد يحس بما يكتنفه ويدركه)، وتجسيد ما هو مؤلم للذات أو ما هو سار لها. إن حرص ألجيرداس كريماص وجاك فونتاني، في كتابهما المشترك(2)، على صياغة مشروع سيميائية الهوى أو الإحساس على نحو مستقل بذاته ( أي يتوفر على عدة مفاهية خاصة به ومنسجمة تقر- أساسا- باستقلالية البعد لانفعالي للخطاب، وبالتشييد النسقي للتدلال الاستهوائي la sémiosis du phorique، وبإنجاز نحو يفضي إلى الخطاطة الاستهوائية المعيارية)(3) ، لم يحل دون تأكيد مدى تفاعله وتكامله مع النظرية السيميائية للعمل في إطار ما يصطلحان عليه ب» الوجود السيميائي المتجامس». لقد كانت نظرية الأهواء، عموما، ثمرة سنين من العمل المتواصل اضطلعت به الجماعة السميائية-اللسانية ( المعروفة بمدرسة باريس) لمراجعة النظرية السميائية « المعيارية» بالتركيز على ثلاث مجالات تستأثر بالاهتمام أكثر، وهي: الابستمولوجية والنظرية والتطبيق.
1-وساطة الجسد في الدخول
إلى عالم المعنى:
كانت الأهواء، باستمرار، محط اهتمام النقاد والأدباء والفلاسفة لكونها تمس جانبا معقدا في دواخل الإنسان وفي علاقته مع العالم والأشياء. ولم يخرج السيميائيون عن هذا الركب سعيا إلى فهم الحالة النفسية بعدة مفاهيمية ملائمة ( ما يهم عوالم الكينونة). وإن كرسوا معظم جهدهم النظري والتطبيقي لإرساء الأهلية الجهية للذات السردية وضمنها جهة الفعل لما لهما من دور في تحريك البرامج الحكائية وتغيير العالم بهدف تحقيق غايات وأهداف محددة. وإن لم تتبلور سيميائيات الأهواء إلا في العقود الأخيرة، فبوادرها الأولية كانت تطفو، بين الفينة والأخرى، في المسار السيميائي. ويمكن أن نمثل ، على وجه الخصوص، بدراسة كريماص ل» هوى» الغضب(5) وبدراسة تخص « التكوين الجهي للكينونة»(6).
يعيد السيميائيون النظر في تنظيم المسار التوليدي الذي يمثل حالة افتراضية ونشاطا قيد الانجاز. ويعملون، بهذا الصنيع، على تصحيح مكامن الخلل وتعزيز مواطن القوة، حتى تغدو النظرية خطابا منسجما وشاملا. إن المنطقة الأكثر فاعلية في المسار التوليدي هي الفضاء الوسطي الذي يتموضع بين البنيتين السطحية(المكون الابستمولوجي) والعميقة (المكون الخطابي)، ويهم أساسا النمذجة السردية وتنظيمها العاملي أي ما يميز العامل بفعله وحده (وليس برواسبه النفسية)، وهو الشرط الأساس لتطوير سيميائية العمل.
يؤدي الجسد محفلا توسطيا بين الإحساسيْن الداخلي والخارجي، ويضمن تفاعل الإنسان مع محيطه، ويجسد حركيا مجموع الأهواء التي تنتاب الإنسان أكانت مفرحة أم محزنة « جسد حاس، مدرك فاعل؛ جسد يعبئ كل الأدوار المتفرقة للذات، في تصلب وقفزة ونقل. جسد باعتباره سدا وتوقفا يقود إلى تجسيد مؤلم أو سعيد للذات» ص368. وتتشخص حركة الجسد خطابيا في شكل آثار تلفظية (ما تجسده التجليات الثقافية وإيحاءاتها إن على المستوى الجماعي (اللغة الجماعية) أو الفردي (اللغة الشخصية)( يمكن أن تخضع لتقويم أخلاقي لتثمينها ( هوى الشجاعة) أو بخسها ( هو البخل). تخص الأهواء كينونة الذات لا فعلها. وحتى عندما تعمل الذات الهوية ( أي عندما تنتقل من ذات الحالة إلى ذات فاعلة)، فهي تكون موجهة وفق جهة الكينونة. ولما يضطلع الجسد بالتوسط بين الحالتين(حالة الأشياء وحالة النفس)، فهو يسهم في إحداث نوع من الانسجام بينهما.
2 -الكتلة الاستهوائية
( الأريج المبهم):
إن عطر الأهواء ينبعث من تنظيم خطابي للبنيات الجهية. وهي، في هذا الصدد، لا تخص الذوات وحدها، وإنما تسم الخطاب برمته. ويمكن أن تسقط ( بوصفها آثارا سيميائية) سواء على الذوات أو على الموضوعات. تعيش الذات أفقا توتريا قبل أن إدراك مرادها أو عدم الحصول عليه. فقبل أن يتوله الأمير ( في رواية أميرة كليف) بالآنسة دوشارتر، إبان لقائهما عند بائع المجوهرات) لم يكف عن التعبير عن مدى اندهاشه بما يحيط بها، أي أنه كان يعاني من حالة متوترة مستشرفا إمكانات حبه لها. إن ما يحدد قيمة المضامين الدلالية هو، دوما، من طبيعة أخرى ( قيمة القيمة أو ظلها: عدد الذرات المضافة إلى تركيبة جسم آخر)، ويحتمل أن ينقل إلى ذات أخرى. ويتجسد هذا التكافؤ كما لو كان ظلا للقيمة أو انطباعا عنها. تقدم رواية « السقوط لألبير كامو» صورة عن عالم دون قيم ( عالم تنعدم فيه الثقة). إن القاضي/ الثائب ، كما صوره ألبير كامو، هو عامل توليفي يمارس، على الطريقة الكلبية القديمة، التحقير المنظم والاستفزاز التهكمي. إن المكافئ ( الذي يشكل مجموعة الاستيثاق) يمنح عالم الأشياء صلابته. وبدون هذه الصلابة لن تكون للأشياء أية قيمة. إن الشخص نفسه يصادف في طريقه امرأة يائسة تلقي بنفسها في نهر السين، ولم يبادر بإنقاذها. يوحي هذا المشهد بانهيار عالم القيم الذي يعد صورة محتملة ومقلوبة للحادثة التي قوضت دعامات ضرورة الوجود الراهن، و يجسد ، في المرحة الأولى، التكافؤ أما في المرحلة الثاني فيشخص القيمة.
3 -الهوى والفعل:
الهوى شعور يدفع أو ينزع إلى الفعل. ويعد بمثابة أهلية تمكن من الفعل أي ما يسعف على الانتقال من إرادة الفعل إلى القدرة على الفعل. وهكذا يعتبر الكون الاستهوائي امتدادا للكون الجهي. وفي هذا الصدد يبدو من الضروري الاستعانة بتنظيم جهي للكينونة. وإن كان مستقلا عن الفعل المحتمل فهو يعتبر عدة جهية محددة للهوى بصفته أثرا معنويا. فهوى الاندفاع يعتبر طريقة في الفعل، ويشمل على « فائض جهي» (يجمع بين إرادة الفعل والقدرة على الفعل) يمكن من توقع الإرادة والقدرة والمرور إلى الفعل. يعد العناد « حالة استعداد للفعل» دون الخوف من المعوقات. وفي هذه الحالة تكون الذات منفصلة عن موضوعها (جهة : معرفة عدم الكينونة)، ومتشككة من النجاح في مهمتها( القدرة على عدم الكينونة) ومصرة، في الآن نفسه، على إدراك مبتغاها(إرادة الكينونة). ورغم غياب إرادة الفعل بسبب المعوقات فإن العنيد لا يتخلى عن برنامجه ( مشروع الفعل المحتمل). إن الأمر يتعلق إذن بفائض جهي هو الضامن لمواصلة الإنجاز. « وحضور هذا الفائض هو ما يفرض علينا صياغة عدة هووية من خلال حدود « تنظيم جهي للكينونة» لا من خلال حدود « أهلية في أفق الفعل» ص115.
من خلال هذا المثال تتضح بعض المفارقات: تخرج « إرادة الفعل» عن « عدم القدرة على الفعل»، وتزداد قوة داخل تنظيم جهي للكينونة. وهو ما يقتضي الافتراض بوجود تركيبين يهم أحدهما التركيب الجهي للفعل، ويخص ثانيهما التركيب الجهي الهووي. وفي حال هوى « العناد» تكون « أهلية الفعل» مجرد صورة افتراضية أو تصاورا « إن العنيد يريد أن يكون، داخل ما سميناه التصاور الهووي للعناد، « ذاك الذي يفعل»، وهو ما لا يعادل «يريد أن يفعل» ص116.
إن رغبة العنيد في أن ينتصر ( إرادة الكينونة) تقتضي منه معرفة الكينونة من الناحية التركيبية. وهو، في هذه الحال، يدخل في صراع من الآخرين. في حال هوى اليأس يتعذر حل الصراع، في حين أنه في حال العناد يُحل من خلال انتصار الذات. وما يميز بين الهويين أن « مقاومة الحاضر» ، في العناد، تعمل لصالح انتشار المآل، في حين تكون غير حاضرة في هوى اليأس.
4-الهوى بين الاستعمالين الفردي والجماعي:
إن الكون الهووي للفرد يعبر عن خصوصيته، ويجلي « أسطورته الشخصية» ( وفق شارل موران) فيما يخص تثمين أهواء أو بخسها. تعلم كي دي موباصان من مدرسة شوبنهاور أن الإرادة هي أساس مأساة الإنسان. فعندما تكون الرغبة غير مشبعة ينتج عنها الضجر والازدراء، فيتولد الإحباط والعذاب. وهكذا فعادة ما ترتبط الإرادة عند موباصان باللامعنى والعبث والتناحر.يستفيد موابصان من شوبنهاور، وينضاف إلى جيل من الكتاب الذين تأثروا به. ويطبق لويس أراغون على اليأس نسقا فكريا أكثر عمومية . فهو يأس تاريخي ورمزي وسياسي يفضي إلى تذمر اليائسين من الحكام، وإن ظلوا أوفياء للتعاقد الذي يربطهم بالقيم الملكية.. ونعاين ، من المثال الأول، أن صنافة فردية ( نسق فسلفي) تتحول إلى صنافة اجتماعية محايثة. ونلاحظ من خلال المثال الثاني أن صنافة اجتماعية ( وهي إيديولوجية تيار فكري بأكمله) تتحول إلى صنافة اجتماعية محايثة. « إن هذه التغييرات في المواقع تقتضي منهجا ممكنا لدراسة العلاقات بين النص والنص المحيط والسياق: فعندما تتم عملية تحديد الثوابت والمعايير التي تشتغل بها الصنافات الإيحائية، وبعد أن يتم تمييز مختلف الفصائل ومختلف المستويات التي تتحرك ضمنها، سيكون بإمكاننا، من هذه الزاوية، تصور الدراسة « التكوينية» للنصوص من خلال التحولات بين مختلف الصنافات» ص149.
5 -مدونة الغيرة:
درس كريماص وفونتاني الفصل الثاني من الكتاب نفسه «البخل» باعتباره هوى/ موضوعا (علاقة البخيل بما يملكه)، وأكّبا ، في الفصل الثالث، على دراسة الغيرة بصفتها هوى بيِْذاتيا( تنفاس الغيور والغريم على المحبوبة). نستعرض مدونة الغيرة لبيان، على نحو مجمل وشامل، الغاية من دراسته سيميائيا.
أ-التمظهر المعجمي:
لما يكون الغيور في علاقة مع المحبوبة يتوطد هوى الخشية ( مراقبة الغريم والسعي إلى إبعاده). وفي حال حدوت الأزمة الاستهوائية بينهما تتنامى لديه مشاعر الانتقام من خصمه. يفيد المعجم أن الغيور متعلق كثيرا بموضوعه القيمي ويكد من أجل الحفاظ عليه. وهكذا تقترن الغيرة لديه بالرغبة والحماس والحسد. إن وجود الغيور في فرجة أو مواجهة يوحي بأنه يتألم وهو يرى غيره يستمتع بالموضوع أو أنه يخاف ويرتاب من فقدانه. وتهم الفرجة الرباط الذي يلحم الغريم أو الذات بالموضوع المتنازع عليه. إن استمتع به أحدهما أضاعه الآخر.
ومن أجل تكوين فكرة عن «الغيرة» ينبغي أن نضعها في حضن جملة من التمظهرات التي تبين مختلف العلائق والأبعاد الدلالية الاستهوائية التي تحتملها العدة العاملية المشخصة في الثالوث ( الغيور والغريم و المحبوبة). ومن ضمن هذه التمظهرات الغرام الذي يشمل الغُرم والتنافس والتباري،ثم تمظهر التعلق الذي يستوعب أهواء من قبيل التعلق الشديد والحماس والامتلاك والحصر. ومن خلال السمات التوليدية للغيرة في القاموس يتبين ما يعتري الغيور من أهواء (على نحو الريبة والقلق والخشية) تحدث تشويشا استيثاقيا ( ما يهم الثقة المتبادلة بين الحبيبين). وهذا ما ينعكس سلبا على المعطيات الأصلية للتعلق. إن التعلق يفترض الثقة التي تعطي معنى للحياة. ولما تتصدع هذه الثقة يفقد الغيور السيطرة على الموضوع والاستمتاع به، ويخفق في خوض المعارك مع غريمه.
ب-البناء التركيبي للغيرة:
يعد القلق مكونا من المكونات التركيبية للغيرة. ويُعبر عنه، وفق ما يشغله من مواقع تركيبية، إما بالريبة لما يظهر الغريم على حلبة المنافسة، وإما من خلال الخشية عندما يكون الحدث المؤلم متوقعا. إن القلق ليس انفعالا عابرا وإنما هو حالة مترددة. وقد يفضي إلى أزمة استهوائية عندما يقترن بالشك. و لا تنتمي الغيرة إلى نسق مصغر(7) قابل لاستيعابها في كليتها وشموليتها، وإنما تنتسب إلى عدة تمظهرات بسبب تنظيمها المعقد.» هناك نسق التعلق ونسق الحصر ونسق البنيات السجالية التعاقدية ونسق الأهواء الاستثاقية وغيرها. فالغيرة ليس بالهوى المعزول فحسب، ذلك أنها تنتمي إلى أنساق مصغرة حيث لا تشكل سوى موقع من بين مواقع أخرى» ص267. وهذا يبين أنه ينبغي تجنب دراسة الأهواء على نحو منعزل، وبالتالي يجب أن يتعامل مها بوصفها « منظومة استهوائة». استعان صاحبا الكتاب بخطاب الأخلاقيين من أجل استكشاف معاني الغيرة، وبيان تصاور المحبوبة ( مختلف المواقع المفترضة التي تشغلها من خلال الصراع المحتدم بين التنافسين)، والانتقال من الجمال ( ما يتوفر عليه النص من سمات جمالية وتخيلات) إلى الأخلاق ( إصدار أحكام أخلاقية واجتماعية حول الأهواء). ويمكن أن نمثل بملفوظ مقتطف من كتاب لابرويير « ألأمزجة» : « الغيرة اعتراف مكره بالاستحقاق». يحصل الانهيار الاستيثقاقي (فقدان الثقة) لما يدخل المنافس إلى حلبة المنافسة والصراع للظفر بالموضوع. ومن خلال موقع الغيرة في الملفوظ يتضح أن الغريم يتكافأ مع الغيور في قدرته على استحقاق الموضوع المتنازع عليه وامتلاكه. وبقدر ما يخشى الغيور استيلاء الآخر على ما يعتبره في عداد ملكيته بقدر ما يعتقد أن منافسه يستحق الموضوع.
« يضع « الخوف من الفقد» إرسالية صريحة، و» البوح بالاستحقاق» إرسالية ضمنية مفترضة. ولكن البوح مفروض، بمعنى آخر، لأنه يسير في الاتجاه المضاد لمصالح الغيور: فالاعتراف بأحقية الغريم معناه مضاعفة حظوظ الآخر بالاعتراف له بالحق في موضوع القيمة» ص 277. وبموازاة مع ذلك يفيد البوح اعتراف الغيور بوجود خلل ما في علاقته بالمحبوبة، ويفترض الإقرار بدونيته في آخر المطاف.
ج- التقويم الأخلاقي:
نعاين آثار الضغط الاجتماعي على الموقع الذي يشغله الغيور. يمكن أن نتصور حكما إيجابيا يبين مدى استعداد الغيور على الدفاع عن تعلقه بالمحبوبة رغم أنف خصمه. وبالمقابل ينصب الحكم السلبي على تراجع الغيور عن المنافسة وعدم قدرته على ركوب غواربها. وفي هذا الحالة يحتمي الغيور بالأزمة الاستهوائية أو الاستيثاقية ( الشك). وهكذا يتضح أن شفرات أخلاقية تتقاطع فيما بينها داخل تمظهر الغيرة، ومن ضمنها نذكر:
- تُحشر أخلاق الاستحقاق في شؤون العشاق ، وهذا يقتضي البرهنة على وجود نسق قيمي يضبط الصدامات بينهم ، ويسعفهم على حسن استعمال السجال. ويفترض، في هذا الصدد، أن يتصوروا « الشرف» الذي يتيح لهم تسوية خلافاتهم بشكل نهائي.
- ينجم الوفاء عن حصرية التعلق التي تستجيب لمقتضيات أخلاقية، وهو ما يعزز لدى الغيور معيار الملكية الحصرية.
- ينبغي للعلاقة الغرامية ، في الأخلاق الكلاسيكية، أن تظل سرية. وفي حال افتضاح خيوطها تصبح علامة على الخجل والفضيحة و مثار إدانة ( الحكم الأخلاقي).
د-التخطيب:
لقد أسعفت دراسة الهوى المضمن في الخطاب على بيان عملية استحضاره الفردي والجماعي سواء على مستوى التحسيس أو التقويم الأخلاقي. وفي هذا المضمار يستند مؤلفا الكتاب على نماذج وترسيمات معيارية ( ومن ضمنها أساسا المقطع المكبر الذي يستوعب ما يهم الأزمة الاستهوائية في عدة انفعالية) لبيان مدى انضباط هوى ما لها أو انزياحها عنها ( الاشتقاقات الممكنة المترتبة على متغيرات افتراضية) تبعا للأنماط الثلاثية الكبرى التي تُعنى ببناء الأهواء الإيحائية ( التكون، ثم التحسيس، ثم التقويم الأخلاقي). تكمن معيارية المقطع المكبر في مدى اشتغال الافتراضات على الوجه المطلوب. إن انتفى افتراض فإن المقطع الاستهوائي يتوقف مفضيا إلى أهواء لا تنتسب إلى تمظهر « الغيرة». ويمكن أن نستدل على هذا الانحراف الاستهوائي بمثال من أمثلة كثيرة يحفل بها مسرح راسين . « إن أنتيوشوس عاشق منهك، وتعلقه أحادي ( وفق نمط « هبة الإيمان»)، وبما أنه لم يحصل أبدا على الحق في الأمل، فإنه لا يمكن أن يكون غيورا» ص327.
وتتحول خشية الغيور ( الخوف الاستباقي من فقدان المحبوبة)، عند بروست، إلى أمل. وبالمقابل يصبح البغض ( الأسى الاسترجاعي من فقد المحبوبة) أمانا وراحة.
لقد سعيت، من خلال هذه المداخلة المقتضبة، أن أبين مدى ملاءمة الكتاب المترجم إلى اللغة العربية، وتفاديت الدخول في تفاصيل محتوياته وفرضياته، وأرجأت إبداء ملاحظات على بعض مفاصله سعيا إلى تقديم جملة من المفاتيح المسعفة على فهمه واستيعابه. حاول كريماص وفونتاني، في هذا الكتاب، إبراز دور الجسد ( التجسيد) في تفاعل الإنسان مع محيطه إيجابا ( السعادة) أو سلبا(الألم)، والانتقال من الهوى إلى فعل سابق ( ما نجم عنه الندم) إو إلى فعل لاحق ( ما يترتب على التهييج والتحميس )، والتدرج من الشروط القبلية ( القوى المتماسكة في الكون التوتري) إلى مستوى الخطاب (يصبح النص- عند نهاية المسار التوليدي- متغيرا وتجليا للسطح. لا شيء أكثر عمقا من النص (فرنسوا راستيي). وهذا ما عبر عنه أحد علماء الأخلاق بهذه العبارة الموحية: لا شيء، في الإنسان ، أكثر عمقا من البشرة).
اعتمد صاحبا الكتاب على المدونة الثقافية الفرنسية التي تقدم تصورا خاصا للعالم الاستهوائي، وترسم حدودا فاصلة بين اللغتين الفردية والجماعية. وسعيا إلى بيان مدى انضباط التجليات الاستهوائية إلى نماذج معيارية ( الثوابت الثقافية) أو تمردها عليها (المتغيرات المحتملة). ويحتاج الكتاب المترجم إلى تشخيص تجارب مماثلة لإبراز خصوصيات بعض الأهواء في الثقافة العربية، وتقويمها من المنظور الأخلاقي(8). وفي المرحلة الموالية، يستحسن أن تستخلص طبيعة العلاقة التي تجمع مدونة ثقافية وظنية مع مثليتها التي تحظى بميسم كوني.
1 - نص المداخلة التي ألقيتها في « عيد الكتاب» بتطوان، يوم الثلاثاء 7 يونيو 2011.
2 - Algirdas J.Greimas & Jacques Fontanille , Sémiotique des passions : Des états de chose aux états dâme, Seuil 1991
3 - انظر في هذا الصدد:
Cécilia Wiktorowicz : » Algirdas J.Greimas et Jaques Fontanille,Sémiotique des passions . : Des états de chose aux états dâme, Etudes littéraires, vol25, n3,1993 ;p153 p155.
4 - كريماص وفونتاني ، سيميائية الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ط1، 2010.
5 - A. J. Greimas , » De la colère « in Du sens II, Seuil,1983 pp245-255.
6 -- A. J. Greimas ; » De la modalisation de lêtre «, Du Sens II op.cit pp93-102.
7 - يعتبر المقطعان المكبر (شكل من أشكال المنظومة الانفعالية) والمصغر(يهم ، في المقام الأول، التسلسلات الجهية الخاصة بالأزمة الهووية) بمثابة خطاطتين معياريتين. وتنضاف إليهما الأنماط الثلاثية الكبرى لبناء العوالم الهووية الإيحائية ( التكوين ثم التحسيس ثم التقويم الأخلاقي). يحتكم إلى تداخل المقطعين المصغر والمكبر ( انظر الخطاطة ص 316) لبيان ما إن انضبط هوى « الغيرة» لما هو معياري ( اللغة الاجتماعية) أو انزاح عنه في شكل متغيرات افتراضية (اللغة الفردية).
8 - ما حاولنا إبرازه في تحليل هوى « الحب» في رواية « الحي الخلفي» لمحمد زفزاف ثم هوى « الغيرة» في روية « الضوء الهارب» لمحمد برادة. انظر: محمد الداهي، سيميائية السرد بحث في الوجود السيميائي المتجانس، منشورات رؤيا، القاهرة، ط1، 2009.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.