تعرف بلادنا دورة احتجاجية، تنتقل من مناطق المغرب، ولاسيما منها المدن المتوسطة والصغيرة، وبعض القرى والمداشر، في حركة شبه دائرية تكاد تكون حتمية. وتترك هذه الاحتقانات رضوضا كبرى وتصاحبها حالات عنف غير مسبوقة أحيانا، وتجاور رهان القوة أحيانا أخرى. ولا يمكن أن نقتصر في مقاربة هذه الرجات المغربية الخالصة، على الأولوية الأمنية والحكامة واستعادة الدولة لهيبتها فقط، بل لابد من وضعها في سياقها المتعلق بالتحولات التي تعرفها بلادنا، من حيث مشكلاتها الديموغرافية والاجتماعية، وارتباطها بعوامل محفزة وتزيد من شرعية الاحتجاجات، بفعل الإعلام وبفعل قضايا الشباب المطروحة حاليا، وكذا حالات الأفق المفتوح والمتحرر الذي خلقه الربيع العربي. لقد تبين من تاريخ الرجات المغربية في المدن الصغرى والمتوسطةأنها دائما تحيل على شيء ما بنيوي وعميق، ولا تقف عند التعبير عن الاختلالات العابرة، كما أنها لا تبقى رهينة انطلاقتها، بحيث تتسع الى فئات أخرى ، ومع ذلك يبقى البحث العميق مطروحا ، كواجب سياسي وأخلاقي وكضرورة مجتمعية من أجل رصد استشرافي لما يقع اليوم. ماذا تحمل كل هذه الاحتجاجات من احتمالات ممكنة، سلبا وإيجابا؟ وما مدى معرفتنا بالتركيبة المجتمعية للمغرب؟ وكيف تساهم السياسات والاستراتيجيات السياسية، الانتخابية والتفاعلية لكل الفرقاء السياسيين في هذا الوضع؟ وما هو قطر الدائرة التي ستنتقل إليها العدوى في البلاد؟ لقد تبين أيضا أن المدن التي تتحرك ،هي في الغالب مدن بدون إمكانيات تنموية، وأن التدبير الترابي فيها والادراي يحتكم الى منطق لا علاقة له بتدبير بؤر للتوتر، بقدر ما يكون جزءا من هذا التوتر أو من تكوينه وبنائه. هناك معادلة واضحة ولا شك، سيكون من المفيد للمغرب أن يستحضرها الجميع وهي معادلة العجز مقابل الاحتجاج. وهو احتجاج اتخذ أشكالا غير مسبوقة في تاريخ بلادنا. وقد بدأ هذا التشكل الجديد للاحتجاج يعطي بالفعل أنماطا حادة وقوية، منها، بالأساس، الإحراق الذاتي، محاولة توقيف الثروة الوطنية (اسفي واليوسفية وخريبكة) والانتقام الواضح من رموز وأفضية الدولة (إحراق مقرات الأمن والمقاطعات ) توقيف حركة السير والقطارات.. وهي أشكال مرعبة تطرح السؤال جارحا بخصوص ما يحدث في البلاد. وقد كان الأمل كبيرا في أن يكون جواب 25 نونبر، كجواب سياسي شامل وتطبيقي للدستور الذي حصل عليه الإجماع الوطني تقريبا، كافيا لإعطاء المجتمع والمسؤولين هدنة كافية ومتفائلة للسير نحو تطبيع الوضعية. الواضح أن الاحتجاج لم يتوقف ولا خفض من درجة حرارته بالرغم من الجواب السياسي الذي أفرزته صناديق الاقتراع، وبالرغم من نسبة المشاركة. وهو ما يضعنا أمام معادلة ثانية هي انفراج السياسي مقابل انحسار الاجتماعي وتوتره. ويتميز التعامل الحالي مع هذه الوضعية بنوع من التجزيئية، سياسيا وأمنيا. فقد تم تحميل المسؤولية السياسية لفصائل سياسية هنا ( بدون اعتقال أي واحد من أفرادها؟!!) ولفصائل أخرى هناك (بدون اعتقال أفرادها أيضا ؟!!!)، وأدرج الملف كله تحت يافطة حزم الدولة في مواجهة ما يحدث. هناك مؤشر لا يمكن أن نغفله عند معالجة الأمر، وهو نوع من التضامن بين المعنيين بكل ملف، سواد كان شغلا أو بناء أو فواتير أو غيرها، وهو يقدم نموذجا لا يمكن القفز عليه في تفسير ما يحدث. إن المعادلة التي أفرزتها هذه المقاربة وهي المعادلة الثالثة، تربط بين حدود العنف وحدود الهيبة المطلوبة، وقد سبق أن كان موقفنا هو الموقف المسؤول الذي لا يقبل العنف الذي تواجه به التظاهرات السلمية، ولا يقبل أيضا بإلغاء «هيبة» الدولة وإسقاط مسؤوليتها في تطبيق القانون ، هذا الأخير الذي يعتبر إعماله ضمانة لهذه الهيبة، وحصانة لها. وقد سبق للمغرب أن عالج أمورا خطيرة، من قبل في عملية أركانة بمراكش بتقوية القانون والسلاسة الأمنية. ومن المسؤولية أيضا أن نشدد على أن هيبة الدولة ليست مسألة أمنية فحسب، إنها مسألة سياسية كذلك ، يقاس على ضوئها مدى الالتزام الجماعي بالأجندة الإصلاحية وتفعيل الشعارات السياسية والتدبيرية على أرض واقع يغلي ويسائلنا جميعا.