سأضع أولا نقطتين فوق القاف، فأنا لم أكن أنتظر شيئا من برنامج «كوميديا»، ولا ينبغي لي، فالقاعدة أصلا ليست لها قاعدة، وفاقد الشيء لا يعطيه، كما تعلمون! ومع ذلك، كنت من أولئك الذين رفعوا نسبة مشاهدة هذا المنتوج الذي لا يستحق النقد، فالنقد مصطلح نبيل كما لا تجهلون! لا... لم أكن أنتظر اكتشاف موهبة فكاهية في ظل هذا التشويش على عالم الفكاهة وفن الإضحاك، ورغم ذلك وجدت نفسي مريضا بمرض عضال اسمه «حب تعذيب النفس» الله يشافي.. وأنا - بمرضي العضال الذي لم ينفع معه علاج- أتابع الحلقة الأخيرة ضحكت من نفسي الأمارة بالسوء ضحكا كالبكاء، وعادت بي الذاكرة إلى الوراء... تذكرت برنامج «مسرح بوڤار» الذي كان يعده ويقدمه مباشرة من فضلكم الصحافي المقتدر فيليب بوڤار على القناة الفرنسية الثانية خلال الثمانينيات من القرن الماضي، بحيث أن الرجل كان يفرض موضوعا على المرشحين، وما عليهم إلا أن يتعاملوا معه بقالب فكاهي ساخر، ومن هذا البرنامج الحسن الذكر، ظهرت أسماء لامعة حلقت فيما بعد في سماء الإبداع الفكاهي الجيد، وإليكم من الأسماء: موريال روبان، وماتي ميمي، واسماعين، ومجموعة المجهولين، ولاس باليس، وشوڤاليي، وميشال بيرنيي.. وآخرون اقتحموا كلهم عالم المسرح والسينما، وأضحوا اليوم وقبل اليوم، من مشاهير الحقل الفني في البلاد... وقاعات عروضهم كانت دوما قبلة للجماهير الغفيرة، وباعوا من الأشرطة ما نبيعه من السردين في شواطئ آسفي... وتذكرت، أيضا، برنامج «القسم» على القناة الفرنسية الثالثة في أواسط التسعينيات، حيث كان المنشط «فابريس» جالسا يلعب دور الأستاذ، في الوقت الذي يجلس فيه المرشحون على طاولات التلاميذ، ثلاث دقائق لكل تلميذ، عفوا، لكل مرشح لينتزع تصفيقات قاعة القسم، وهاهم أولئك الذين اكتشفهم هذا البرنامج الذي لم يدع يوما بأنه نجح في نسبة المشاهدة: بيير بالماد، آن رومانوف، جون بيكار (الذي ملأ ملعب فرنسا عن آخره)، لاكاف، ألبير دوبونتيل، الراحل إيلي كاكو، إيلي سيمون، ميشيل لاروك، لا فيس، وأكيد نسيت أسماء وازنة أخرى فرضت وجودها بقوة، وأصبحت تملأ القاعات عن آخرها ولمدة أطول من عمر برنامج «كوميديا» منذ أن تهجم علينا داخل البيوت؟! وأتذكر في الماضي القريب «نادي جمال» تحت إدارة هرم الارتجال الساخر جمال الدبوز الذي تخرج منه مجموعة من الشباب، وضع بعضهم بصمات قوية في الفن الفكاهي الفرنسي، والباقي آت لاريب فيه... ومنذ عامين، أطلق المنشط المعروف «لورون روكيي» برنامجا لخلق مواهب فكاهية جديدة أطلق عليه من الأسماء «لا نطلب إلا الضحك» وقد تخرج منه إلى حدود الآن مبدعون تتسابق عليهم قاعات باريسية كبرى... ولجنة تحكيم متكونة من أسماء لها صيتها في المجال.. والاستمرارية أكيدة كما يقول صحافيو قناة الرياضية...؟! فها نحن بعيدون كل البعد عن كل هذا.. فهم أدركوا ماهية الفكاهة، ونحن نمزج بين النكتة والكلام السوقي... إن الفكاهة ياعباد الله رسالة اجتماعية نبيلة، وليس كل من هب ودب يمكنه كتابتها؟! وهنا تحضرني مقولة الفنان الكبير، شافاه الله، أحمد الطيب لعلج: «إن الضحك أصبح نادرا في هذا الزمن الرديء، ولكن الذي يستطيع أن يوزع البسمات على القسمات، لا أجد له من التسميات غير البطل». إن الفكاهة هواء يخترق الزجاج، على حد تعبير الشاعر محمد بنيس.. بل هي ملح الأيام ومتعة وإمتاع، كما يقول بادريس الخوري.. وعد إلى بومارشي تجده يقول بصريح العبارة: «أبادر بأن أضحك على كل شيء، خشية أن أكون مضطرا للبكاء على كل شيء» فالضحك ها هنا لمواجهة البكاء، والمفارقة العجيبة أن برنامج «كوميديا» يبكينا أكثر مما يبكينا؟! إن الفكاهة هي الملاذ الوحيد حين الهروب من فذلكات هذا الزمن البذيء، وبرنامج «كوميديا» هو صورة طبق الأصل لهذا الزمن الموبوء.... الفكاهة راحة نفس، والبرنامج تشمئز منه النفوس، الفكاهة الحقيقية تتسلل إلى القلوب والوجدان، وقلوبنا تنفر من هذا البرنامج رحمه الله... اللعب بالألفاظ ليس هو فلتات اللسان، والطرائف والنوادر والحكايات والمستملحات غير المدروسة لا تبني بالضرورة جدارا فكاهيا سميكا... إن المجتمعات في حاجة ماسة إلى فكاهيين كحاجتها لأطباء نفسانيين، لعلكم تتجاهلون! دعنا فيما نحن فيه: فكيف لمنتج أخذ مكانه ضمن لجنة التحكيم - بلا أخبار المخزن - أن يحكم على طاقات شابة في مجال نبيل كهكذا نبل؟! رجل لا يقشع لا في الفن الفكاهي ولا في الفكاهة الفنية؟ قد يقشع يوما في سياقة الطائرة، لكن الإبداع الفكاهي منه برئ.. لا لشيء سوى لأن في الخمر معنى ليس في العنب، وأن الكلب يعض، وكلمة الكلب لا تعض، لعلكم تتفقهون! ونقطة الضوء الوحيدة، في اعتقادنا على الأقل، بعد أن هرمنا في زمن كثرة الانطباعات، وقليل نادر من النقد، هي اكتشاف وجه جديد، وموهبة حقيقية اسمها عبد الخالق فهيد. كم نزلنا على هذا الرجل طولا وعرضا، وعرفنا اليوم بأنه كان الضحية، وكنا الجلادين؟! أطل علينا الرجل في أعمال سخيفة، واعتبرناه سخيفا في الوقت الذي يجمع فيه الآخرون أموالا «طائرة» من جيوب المواطنين طبعا.. كان الرجل خلال البرنامج رزينا، حاضرا، متفهما قادرا على إبداع تعليقات وإدراكات فكاهية متميزة.. كان هادئا يلاحظ، يستمع، يستوعب، يستجيب، ينفعل، ثم يحكم دون أن يمس نفسية المرشحين الهشة.. كان جديا دون المبالغة في الجدية، وكان ساخرا دون أن يكون متهكما.. كان دقيقا في مواقفه، وفي وجهات نظره، كان صاحب صدر رحب، وكان يميز بين العمل الفكاهي الردئ والعمل الأقل رداءة.. بحيث أدرك منذ الوهلة الأولى بان الأفضل ليس كائنا، ولن يكون خلال هذه الدورة من البرنامج.. وكفى المؤمنين شر القتال! والآن... هنا والآن.. مَنْ المستفيد من هذه المهزلة؟ أكيد - كما يقول صحافيو الرياضية - ليس المشاهدين، وليس المرشحين، وليس التلفزة حتى، رغم التطبيل والمزمار بنسبة المشاهدين؟! إن المستفيد الوحيد، أو قل إن المكسب الأوحد هو الفنان عبد الخالق فهيد، فلقد أدرك هذا الملاكم السابق، أنه فوق الحلبة، هناك منتصر وهناك منهزم، وأن الملاكمة رياضة نبيلة رغم الطعنات.. ونتمنى صادقين أن يخرج من جعبته القديمة وأساليبه الماضية التي غالبا ما كانت تُفْرَض عليه..فلقد أثبت لنا مؤخرا، أنه قادر على تقديم أعمال فنية فكاهية ساخرة ترضي جمهوره الواسع العريض... فلقد أدرك أنه قد حان الوقت للابتعاد عن التعابير الجسدية والحركات التي لم تعد تناسب فنان من حجمه، وفي مستوي ما جادت به قريحته في البرنامج السيء الذكر... أكيد كما يقول مقدم برنامج حصيلة على الرياضية، بأن ابن الحي المحمدي صقل موهبته بالممارسة والقراءة، واستفاد من بعض الهفوات والاخطاء التي لم يكن وحيدامسؤولا عن اقترافها والفاهم يفهم... عبر الرجل بحق أنه ابن الميدان، وفي الميدان سيقول كلمته.. فنحن لا نطلب منه التنكر إلى ماض ولى، بل نطالبه بمعرفة قيمته الحقيقية دون النزول إلى حضيض رغبة «مالين الشكارة» الذين لا تجمعهم بالفن سوى كثرة السيارات.. ماعلينا. فقيمة الرجل ليست بحال بمعية منتج يقوم في الآن نفسه بدور عضو لجنة التحكيم.. يا للمهزلة!