في كتابه «الأصفار تدور دائريّا»، الصادر في بداية ستينيات القرْن الماضي بباريس، قال مالك حداد مقولته الشهيرة? إني في حالة منفى داخل اللغة الفرنسية»، بتعبير أدق، اللغة الفرنسية هي منفاي «وقبله، كتب الكاتب الكبير إدريس الشرايبي ما معناه» منذ عشر سنوات ودماغي العربيّ، الذي يفكر بالعربية يطحن مفاهيم أوربية على طريقة بالغة العبث، بحيث يحوّلها إلى مرارة فيعتلّ بها. هذان نموذجان لقوّة الجدال والنقاش اللذين عرفهما موضوع الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية منذ فترة ما بعد الاستقلال. موضوع فرض نفسه خاصة أنه يتعلق بالإنسان المستعمَر الذي يكتب بلغة المستعمِر، وبعد ذلك استمر الجدال حول علاقة موازين القوى، وظهرت عبارات جديدة من قبيل «حقّ المواطنة الأدبية الفرنسية»، «تمديد بطاقة الإقامة الأدبية بفرنسا» أو «عرب الخدمة»، و ما إلى ذلك من العبارات التي تمحورت بين الاستفزاز والاستفزاز المضادّ. وكان أدباء مغاربة قد أبدوا رأيهمْ حين طرحنا عليهم سؤال: بماذا توحي لهم عبارة «الأدب المغربي المكتوب الفرنسي». وقد وجاءت الأجوبة على الشكل التالي: إن هذا الأدب هو «و جدان لاجئ»، يقول الكاتب أحمد بوزفور، أما الأديب والمؤرخ عبد الله العروي، فيجيب قائلا: «إنّ الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية هو أدب فرنسي بأقلام مغاربة» و بالنسبة للشاعر رشيد المومني، فإنّ هذا الأدب «سؤال أبدعته الصدفة»، في الوقت الذي يجيب فيه الرّوائي والناقد محمد برادة بأن «هذا الأدب هو جزء من أدبنا لكنه لا يجد نفسه فيه». «إنه طربوش باريس»، هكذا تحدث إدريس الخوري، «إنه وسيلة تعبير لا أقلّ ولا أكثر»، يقول إدمون عمران المليح، ونفس الجواب يقدمه الكاتب عبد الحق سرحان. أما الروائي الشاعر حسن نجمي فيعتبر هذا الأدب «من مكوّنات أدبنا الحديث، يكتبه رهائن»، الكاتبة الروائية خناتة بنونة ترى في هذا الأدب «وجها من وجوه أدبنا، مع تحفّظ». وبكامل البساطة، يقول الراحل محمد زفزاف «إن الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية هو أدب مغربي مكتوب بالفرنسية، وْسَدّاتْ مَدامْ» الكاتب والمفكر المهدي المنجرة يربط العبارة بالفرنكفونية قائلا: «إنّ هذه الأخيرة عملية سياسية من الدرجة الثالثة أو الرابعة بدون علاقة ولا ارتباط بعظمة الحضارة الفرنسية الحقيقية. واذا كان الروائي الطاهر بن جلون يعتبر هذا الموضوع نقاشا مغلوطا، فالمبدع الكبير محمد خير الدين ينفعل حين يُطرح السؤال أمامه، ويصيح: «ليس من كتب بالفرنسية فهو بالضرورة أديب، ونفس الشيء يقال عمّن يكتب بلغة الضّاد? وفي أواخر الثمانينيات، كتب الشاعر عبد اللطيف اللعبي في «الرهان الثقافي» قائلا: «إنّ هذا الأدب وليد الصّدمة الاستعمارية التي هزّت أرْكان المجتمع المستعمَر، وخلقت واقعا جديدا تحكمه تناقضات جديدة وقانون صراع جديد. في الحقيقة تحتاج هذه الرّدود وهذه الأجوبة إلى دراسة متكاملة من حيث ارتباطها أيْضا بمسألة الهوية والكيْنونة والوجدان والأصل. وهل يمكن أن نتبنى لغة الخارج للحديث عن واقع الداخل؟ وهل يمكن الحديث عن أدب فرنسي مكتوب بالعربية? وهل اللغة هي بالفعل مالكة الهوية ووعاؤها الطبيعي؟ وهل أولئك الذين يستعملون لغة موليير للتعبير هم في الآن نفسه يخدمون الفرنكفونية كنظام ثقافي، وسياسة محددة الاختيارات والرؤى، وهل يمكن للإنسان، كما صرح الطاهر بن جلون، أن يكون قلبه عربيا ولغته فرنسية. وهل الهروب إلى اللغة الفرنسية، هو هروب من اللغة العربية التي هي لغة الرقابة والرقابة الذاتية «لغة بعيدة عن حرّيّة الخيال والتعبير الشخصي» وهل اللغة العربية هي لغة المهزومين، كما صرح فؤاد العروي في برنامج حقوق المؤلف بالقناة الفرنسية الخامسة ذات يوم «وهل اللغة وطن»، كما جاء في كلام ألبير كامو «اللغة الفرنسية هي وطني». كل هذه التساؤلات وأخرى نجدها مفصّلة في كتاب الأستاذ بنسالم حميش تحت عنوان «الفرنكفونية ومأساة أدبنا الفرنسي». كتاب يسلط الأضواء على مكامن الخلل في الطرح، ومن ضمن ما جاء في الكتاب حول الموضوع: «أما حين يؤم روائيون شطر الكتابة الرّوائية الاجتماعية، فإنهم كثيرا ما يجنحون إلى تقديم صور عن بلدانهم وكأنها عواصم الفساد المطلق والشرّ العميم، فيلوكون السواد في عرضها، ويغمسون لذلك أقلامهم في مداد واحد، مداد التقزز والهجو والتهجين، يشجعهم على ذلك استغلاظهم بلغة المتغلب، واستعدادهم الفطري أو المكتسب لاتخاذ شتى ضروب التنصل الوطني والتبرّج الاعلامي، مما يعرض بعضهم لاضطرابات السلوك والموقف، (عبد الحق سرحان، فؤاد العروي، الخ)، ص 81. ويضيف حميش في سياق آخر: «إن نصوص أدبنا المكتوب بالفرنسية تتميز في معظمها بغلبة جنس الأتوبيوغرافيا. وهذا الجنس ركن في الكتابة ركين، لابد من معرفته وارتياده، خصوصا إنْ كان يتيح عبر طريق «الاعترافات» الغوِْص في معرفة النفس الإنسانيّة وأحوالها( ...).إلا أنّ الملاحظ في ممارسة أصْحابنا لذلك الجنس هو أن كتاباتهم إجْمالاً إنما تفرز سيرا ذاتية، جلية أو مقنّعة، هي في معظمها سير الوساوس واللّهج بالأنا و الانكباب على السيرة للتأمل في ما حولها وما تحتويه، أيْ أنّها كثيرا ما تستحيلُ إلى نرجسيّات متمحورة حول الذات كمهْماز جوهريّ وقاعدة ذهاب وإيّاب ودوران، الخ». ص 78