إن التأمل في سياسة تدبير الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وطريقة تعامله مع الواقع ومستجداته، سنجده يعتمد فيها العديد من المقاربات المتسمة بالمرونة والحركية والرحابة وقوة التواصل التي تفتح آفاقا جميلة ممكن تصورها، وتوقع حدوثها بالنسبة للذين يخاطبهم مباشرة أو سيصلهم كلامه ...كما أن المتأمل لمناهج تدبير الشأن العام في جدلية السياسي والديني عند الخلفاء الراشدين، وعند العديد من الصحابة والتابعين، سيقف على إشارات قوية وضعت قواعد عامة لما يعرف بفقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه الواقع وفقه المقاصد وفقه السنن،... والتي لها أهمية خاصة في بناء ثقافة الحكمة والاعتدال والتوازن والتسامح بما يحقق مرتكزات الشرع... دون إهمال مقتضيات ومتطلبات العصر التي تتجدد باستمرار وبوتيرة قوية على جميع المستويات ... وما سنركز عليه في هذه المقالة المختصرة هو فقه المآلات والذي يسميه بعض العلماء بفقه التوقع الذي يقرب إن فهم جيدا لروح الشرع التي تسعى في الحال والمآل لصالح البشرية ومنهم الامة الاسلامية بروح استشرافية نحو المستقبل القريب والمتوسط والبعيد. إن الحديث والتقرير في الحاضر بما هو عليه وما سيؤول إليه على مستوى الاقوال والافعال والممارسات، أمر مطلوب شرعًا يجب أن يرقى الى مستوى الضرورة وهو بنفس القوة في الفكر والعمل الوضعي . كما أن مسألة المآلات تعتبر من المقاصد المهمة التي يجب مراعاتها ذلك لأن إعلان الأحكام والحديث في الشرع دون استحضار ما يعتبر تخبطا وعشوائية لا تولد إلا قرارات وأحكاما تزيد الامور غموضا وتعقيدا، وتعطل روح المقصد الشرعي في شموليته وتخلق مفاسد متعددة ... ونسوق هنا مثالا يستدل به عند الحديث عن فقه المآلات من مثل قوله تعالى:» ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم «) (الأنعام: من الآية 108)... ولقد كتب الإمام الشاطبي في مؤلفه الموافقات واقفا على أهميتها ما يلي : «النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ..، ولكنّ له مآلاً على خلاف ما قُصِدَ فيه، وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكنَّ له مآلاً على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطْلِق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة» إن الاهتمام بهذا الفقه أو الآلية المعرفية يجعلنا نمتلك رؤية مستقبلية تتجلى بها مصداقية وجدية وصحة ما سنقدم عليه من افعال أو تصرفات أو إجراءات وتأثيراتها السلبية والإيجابية على الفرد أو الجماعة أو الأمة، مما يكسبنا سلطة متعقلة تتحمل كامل المسؤولية تجاه المستقبل في علاقته بالحاضر مع اجتناب فعلي وعملي للمفسدة. كما أن من شأنه أن يضبط توجيه حركة الدولة والمجتمع، واجتهاد الفقهاء، واختيار الآراء، وترجيح الأقوال، وترشيد التخطيط الاستراتيجي، والتفكير المستقبلي بما يمثل وقاية من الجنوح إفراطًا أو تفريطا في اتجاه ضمان بناء الغد الافضل ... وقوله صلى الله عليه وسلم في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين المشهود عليهم بالكفر والذين يعرفهم حق المعرفة: «دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» -أخرجه البخاري- فترك الرسول صلى الله عليه وسلم قتل أهل النفاق المعروف كفرهم.. لما فيه من المصلحة للآتي من الايام والسنوات منها تجنب تنفير الناس من الإسلام وتخوفهم منه، كما فيه من الدروس الكثير لمن يريد الاستنباط ... يقول الامام ابن القيم رحمه الله ..» والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي يكون عليها مدار الشرع والقدر وإليها يرجع الخلق والأمر وهي إيثار أكبر المصلحتين وأعلاهما، وإن فاتت المصلحة التي هي دونها . والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منهما فتفوت مصلحة لتحصيل ما هو أكبر منها. ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها «...ذلك أن إعمال النظر في المصلحة والمفسدة قبل الاقدام على أمر ما له علاقة بالمستقبل القريب أو البعيد يتطلب فقها ومعرفة بالمآلات....إنه نظر اجتهادي يجمع بين الواقع والمتوقع أثناء تنزيل الأحكام الشرعية.. إنه يجنب المسلم التطبيق الآلي المفضي إلى سوء النتائج والعواقب. فكيف تدبر الحكومات حالها وواقع الناس ؟ وما الذي تعده لمستقبلهم ؟ وعلى أي أساس أو مقصد شرعي تخطط للمقبل من السنوات ؟ وأية مصلحة رأتها أو تراها في قراراتها المتعددة رغم أن أضرارها استشعرها وأحس بها عامة الناس ومثلهم من الخاصة ؟... إن الفرق كبير بين الحديث بمنطق سياسي دعوي سطحي بمخاطبة المؤمن الذي يسعى للاستزادة الروحية والصفاء القلبي من خير الدنيا والآخرة، وبين جوهر الدعوة الحقة التي تبني ولا تهدم وتنصف ولا تظلم وتسامح ولا تتعسف ..وبين أن يقوم المتحدثون ممن يظنون أنفسهم سيبسطون خلافتهم وإماراتهم باسم الدين بكل ما من شأنه ان يجعلهم من أهل الحل والعقد الذين يحكمون ويفرضون وصايتهم على الناس بهدف الاجهاز على الارادة العامة تحرم عليهم سلطة اتخاذ القرارات التي تخص شؤونهم .. مهيئين أنفسهم ليحلوا محل الشعب في كل اموره ويقطعوا مع كل المقاصد النبيلة التي وضعها ودافع عنها سيد الأنام، والتي لخص إحدى قواعدها بقوله « الناس عند شروطهم» وبما قاله سيدنا عمر رضي الله عنه « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» ... وكأننا بهم لا يستحضرون أن الاسلام جاء للناس كافة وأن أمور المسلمين والشعب شورى بينهم، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وأين هم من أحاديث متعددة للنبي العظيم عن مكانة الفقراء وحقوقهم وارتباطه بهم والتي منها: »ابغوني في ضعفائكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم« و »إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم«. وأين هم مما رواه أبو هريرة عن الرسول الكريم « ثلاث دعوات يستجاب لهن لاشك فيهن دعوة المظلوم « وزاد بعضهم « ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول لها الرب بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين. « إن المآلات التي يؤسسون لها أينما كانوا في مشارق الارض ومغاربها بعيدة -وفق القرائن التي يسجلونها بأيديهم وألسنتهم وقراراتهم - عن جوهر فقه الواقع والمستقبل كما يفترض ان تكون لبناء الدولة العادلة الصالحة المنتجة القدوة ... فليجب سكان العالم المغاربي والعربي والاسلامي جميعا عن سؤال بسيط :هل نحن فعلا مطمئنون لكل ما يقع وما يعلن عنه ويصدر ويطبق في واقعنا من المحيط الى الخليج بدون فقه ولا وضوح في المقصد ؟؟ نسأل الله أن يفقهنا جميعا في أمور ديننا ودنيانا .