فإن الحق في المعلومة ..هو في الأصل حق مؤسس لقدسية البشرية… وهذا هو دليلي: في البدء كانت المعلومة… هي التي رفعت الإنسان.. فوق الملائكة، مرتبةً والمعلومة هي التي جعلت الملائكة تسجد لسلالة الطين! لما قرر لله سبحانه خلق آدم أخبر ( أي أعطى المعلومة التي قدَّرها وحده في علم الغيب، إلى الملائكة)..وقال سأجعل في الأرض خليفة، استنكرت الملائكة بلا جحود: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها؟" أجاب لله سبحانه و:"قال إني أعلم ما لا تعلمون..". وبعد ذلك، وضع شروط التحدي الذي ستواجهه الملائكة: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا" ( أي منح خليفته، أبونا، المعلومة حول الأسماء التي ستملأ كونه) ولكن لم يعلم بها الملائكة، وكان بذلك قد وضع فرقا في المعلومة .. ثُمَّ كان أن لله سبحانه: "عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ". فماذا كان جواب الملائكة في هذا الحوار السماوي؟ "قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا". فكان أن لله: "قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ..فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ". كل ما في الآيات من 30 إلى 37 في سورة البقرة يقوم على المعلومة، والتمكين من المعلومة أو العلم بها… ولعل القاموس كله هو ما نستعمله اليوم في ما يخص التواصل (علم. أنبئوني..). ولما تحصَّل عجز الملائكة عن العلم، حصل الاستئناف البياني للتقرير الدال عليه وهو الأمر بالسجود لآدم: "قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا"… هو تقديم يفوق الميعاد السياسي في تقدير الحق في المعلومة، إذ يرفعها من الحق الديموقراطي إلى واجب التقديس، والتمييز بين المخلوقات السماوية. هو الله يعطي المعلومة للإنسان في حين يترفع هذا الأخير عن واجب الإدلاء بها، بسلطان السياسة (تغول الأغلبية)، أو سلطان المال الواقع في تخوم المسؤولية أو بغير ذلك من تكتم لا ضرورة له في حماية الإنسان ورسالته. لماذا هذا الحديث أو التأصيل؟ السياق الذي نتحدث فيه يكشف بأننا لم ننجح في امتحان المعلومة، على الأقل في ما يخص تجربتنا في مؤسسات ودعائم الديموقراطية.. وحرماننا من المعلومة هو حرمان الديموقراطية من قداستها! فالإعلام نفسه، باعتباره الاشتقاق الآخر للمعلومة، كان موضوع الامتحان: هو في الأصل طالبها، لكنه سرعان ما أصبح نفسه موضوعا لها. لم يكن سخيا مع نفسه فصار موضوعا تحت طائلة المساءلة. لا يهمنا هنا من هو المخطئ ومن الذي وقف في وجه الحصول على المعلومة: كان الاعلام سيرفع الخبر إلى مرتبة القدسية لو أنه مثلا دافع عن المشاعة الإعلامية الأولى.. أي المعلومة عند المعنيين كلهم: كان يجب أن تتوفر المعلومة بشكل طوعي وأكثر جرأة ما دامت فصيلتنا تطالب بالحصول عليها.. ومن ثمة أرى مستقبلا أن تعمل مؤسسات فصيلتنا الدستورية من أجل أن تكون مداولات الإعلام كلها مسجلة وتنشر بعد إغلاق المداولات، أو تزيد في الجرأة بأن تبُثَّ المداولات مباشرة لمن يرغب في ذلك عبر تطبيق في متناول الجميع يتم الإعلان عنه… ركيزة أخرى في الديموقراطية التي تحترم نفسها: البرلمان وهو نفسه يعاني من النقص في الحصول على المعلومة، ويصر الوزراء على الغياب عن تقديم المعلومة والإصرار على تعطيل الوصول إليها عبر تعطيل البرلمان.. كل سبل تقصي المعلومة تم تعطيلها بالعدد أو تعطيلها بالأغلبية ثم تعطيل سبل الحصول على المعلومات التي تثير تساؤلات ذات علاقة بالمادة 10 من اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد. وقد عشنا تغييب المعلومة كستار حديدي لحماية الفساد في نظام "الفراقشوقراطية"، الذي اشتغل بقوة في قضية اللحوم والأدوية والوقود والغذاء … إلخ إلخ إلخ.. لقد أصَّل المغرب تشريعه في مجال الحق في المعلومة بناء على هاته المادة، حيث الحق في الولوج إلى المعلومات يعد أحد الحقوق الأساسية التي تكفلها المادة 27 من الدستور المغربي، وتؤطرها مقتضيات القانون… وقد مضت قرابة 14 سنة على دسترة هذا الحق( الفصل 27) وما يقارب 7 سنوات منذ صدور القانون المنظم له (القانون رقم 13-31 المعتمد في 22 فبراير 2018 والمنشور في 12 مارس 2018 في الجريدة الرسمية)، وما زال مجيء الوزراء إلى الإعلام يعتبر مسألة إشكالية تخضع لضغوطات الأزمة والاختناق، كما وقع في وقت تظاهرات جيل "زيدZ" أو تخضع، عكس ذلك، للمزاج الحكومي ولمن يملك القرار. الحق في المعلومة ليس منحة بل واجبا إجباريا في كل ديموقراطية. لما يحرم منه الإعلام، ركيزة الديموقراطية، تضمر هاته الأخيرة، ولما يحرم منه البرلمان مركزية الديموقراطية الأخرى، يزداد ضمورها، ولما نسمع أو نقرأ خبر انضمام القضاء باعتباره مؤسسة دستورية رفيعة وحتمية في بناء المواطنة من قبيل المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة إلى البوابة الوطنية للحق في الحصول على المعلومات، كقناعة مؤسساتية جوهرية في بناء دولة الحق والقانون، نقول بأننا نضع بعض الشروط الضرورية للسير في اتجاه القدسية اللازمة للديموقراطية .. ثم نرفع سقف الانتظار!