يعتبر الكاتب والمبدع الراحل عبد المجيد الحناوي (مواليد 1951 بزا?ورة، توفي سنة 2006 بالرباط) من الأسماء الحركية التي غادرتنا بدون استأذان رغم حضوره المكثف على مستوى المتابعة النقدية (كان ناقدا متعاونا مع جريدة «ليبيراسيون»)، والنشر الفني (كان رائدا في إدارة أول مجلة متخصصة في الفنون الجميلة » Matrice des arts « التي ترأس تحريرها الزميل والصديق عبد الرحمان بنحمزة) إلى جانب معارضه الفنية الجماعية والفردية، إذ ما زلت أتذكر معرضه الفردي الذي أقامه برواق «لوشوفالي» بالدار البيضاء، والذي خصصت مداخيله لدعم العدد الأول من المجلة المذكورة بمبادرة من صاحب الرواق السيد محمد الشرايبي. انسجاما مع الأبحاث الفنية التي ارتضاها الفنانون العصاميون بالمغرب أمثال محمد القاسمي و ميلود الأبيض، دأب عبد المجيد الحناوي على مدى مسيرته الإبداعية و النقدية على خوض غمار التنقيب في السجلات شبه التشخيصية بكل مداراتها السردية، و تداعياتها التعبيرية ، مركزا على الأبعاد الدرامية للبناءات المشهدية التي أجاد في استنباتها و تحيينها في ضوء أسئلة الحاضر و همومه الوجودية الكبرى. كانت ملاحمه الحقيقية بعيدة عن الرموز التاريخية المشتركة التي استلهم مفرداتها البصرية كل من الفنانين كاظم حيدر و ضياء العزاوي. فقد انشغل بتحرير المشاهد التعبيرية، و تجريدها من كل سياق مرجعي معلوم، إذ تظل لعبة الفراغ و الامتلاء هي سيدة الحضرة البصرية ذات العنف التخييلي و الانسجام اللوني. لوحات عبد المجيد الحناوي مفعمة بالاستيهامات الوجدانية التي تسكن ميثاقه السيرذاتي باللون و الشكل معا. لقد أكد لي مرارا في معرض محاوراتنا المستمرة بأن كائنات لوحاته لا علاقة لها بالشخوص الواقعية ذات الوظائف السردية، بل هي مجرد رموز بالمعنى العام للكلمة. صرح لي في هذا الصدد : «إن أعمالي بإحالاتها الدلالية صياغة جديدة لتصوري الخاص بالفن و الإبداع. فأنا أرسم كل القرائن الرمزية للحرية ، فهي الخلفية العامة و القيمة المطلقة. لقد أهلني تواصلي الكبير مع الفنانين المعاصرين لخوض مغامرة جمالية مغايرة شكلا و مضمونا و رؤية. فأنا من الذين تأثروا كثيرا بتجارب شاغال ، و بابلو بيكاسو، و مودغلياني . فعبرهم أدركت أسرار التعامل الفني مع شخوص اللوحات و عناصرها السياقية.». إن ملحمة الحرية التي صاغها ، تشكيليا، الفنان عبد المجيد الحناوي لا علاقة لها، دلاليا، بملحمة الحرية التي جادت بها قريحة الفنان العراقي جواد سليم على مستوى النحت، فهو يقوم بإعادة تأويل الشخوص من خلال تشكيل المناخ العام للعمل ، و الاهتمام بتصميمه الداخلي، و كأنه يمارس رؤية مخرج مسرحي متشبع بالثقافة التشكيلية. كثيرا ما أوضح لي عبد المجيد الحناوي بأنه بصدد كتابة تشكيلية مستقلة تمثل خطا موازيا مع كتاباته النقدية العاشقة التي سبر في تضاعيفها أغوار عدد وازن من الفنانين المعاصرين بمختلف جنسياتهم، و مراقيهم الإبداعية (كل محتويات أعداد مجلة » Matrice des arts « دالة على ذلك بشكل حجاجي بليغ). في داخل مساكن لوحاته الفنية، نقف عند عتبات الفعل الاختزالي للأشكال، و بلاغة تمثل المستويات و الإطارات المتجاورة، و سحر التعبيرية الحالمة. فالفنان عبد المجيد الحناوي من الفنانين القلائل بالمغرب الذين زاوجوا بين الكتابة النقدية و التشكيل إلى جانب التجربتين النموذجيتين لكل من الحيسن ابراهيم و بنيونس عميروش. أضفت هذه الازدواجية الإبداعية عمقا واضحا على العناصر البانية لعمل الحناوي. فقد نوع مفردات اللوحة ، و أتقن هندسة الوحدات، و منح لأشكاله رؤية جديدة مماثلة للأجواء التعبيرية السحرية خارج كل معالجة تشخيصية، أو احتفالية كرنفالية. قال لي في هذا السياق :»ما أرسمه عبارة عن معادل جديد بين الشكل و المحتوى. فكل لوحة بمثابة منعطف بصري! إنني أرسم شعرية الجسد بكل تلويناته و درجاته المتباينة. فالجسد عندي دائم الحضور، و لا يحيل بتاتا على قيم العدم و العبث و الغواية.». هكذا، يشكل الجسد المؤول المركز البصري الأكثر شفافية في لوحات عبد المجيد الحناوي، حيث يمنح الأجواء التعبيرية صيغة ذهنية بليغة خارج كل التحديات البيولوجية ، و المقاسات الوضعية. إنه يصوغ فلسفة للفرح بالحياة كلازمة لا مندوحة عنها لتلقي منجزه البصري، و إدراك عوالمه المرئية و اللامرئية التي تنهض على ثنائية الحضور و الغياب في ضوء تراسل دلالي أكثر زخما و كثافة. غالبا ما تطفح اللوحات بالظلال المجازية التي أدرك الفنان كيف يدبر مساراتها المتشعبة بحس العارفين المنشغلين بجوهر الحقيقة و رسائلها المتعددة (لا أدري لماذا أستحضر ساعي البريد ، بطل رواية بابلو نيرودا ). فخارج «فلسفة الألم» ينسج الفنان محكياته الذاتية عبر لوحات أحادية اللون أحيانا ، و متعددة الألوان أحيانا أخرى. كل لوحة تنم عن حنين إلى مشاعر المحبة بكل إشراقاتها و كشوفاتها. حنين محكوم بوعي نقدي مزدوج في عالم مادي عنوانه البارز هو : الاغتراب الوجودي. فبدل واقع التألم ، نجد الفنان يعمق فينا حقيقة التأمل الذي لا يراهن على الماورائيات بقدر ما يحاول استيعاب حقيقة ذاته كعاشق لقدره بلغة أبيقور الذي أكد في شذرة له :»لا يعرف الإنسان الحكيم إلا أن يتفلسف ، و أن يضحك، و أن يهتم ببيته». هذا ما ينطبق ، حرفيا، على حياة عبد المجيد الحناوي، فقد مارس التفلسف بطريقته الخاصة كتابة و تشكيلا، كما لازمه الضحك لزوم ظله ، جاعلا منه تلك الشخصية الانبساطية التي لا أثر للكراهة و العنف في مسارها الوجودي. فقد ظل مخلصا لمواقفه المبدئية التي لا تميز في الإبداع الجمالي بين المرأة و الرجل، و العصامي و الدارس، و الشاب و الرائد، و المبتدئ و الراسخ في التجربة. انتصر مبكرا في كتاباته النقدية و عبر صفحات مجلته الفنية الرصينة (قبل مجلات «زونار» و «ديبتيك» و «ماروك بريميوم») لأصوات الصمت الذين شكلوا سدى و لحمة هذا المؤلف النقدي. كان عبد المجيد الحناوي يردد على مسامعي دائما : «في الفن تغيب الحدود الجنسية و الجغرافية. فهذا المجال الإبداعي ليس حكرا على أي كان. لقد علمنا تاريخ الفن بأن عددا كبيرا من العصاميين و من شباب الفنانين حققوا ما لم يحققه غيرهم من مدعي الريادة التاريخية، و التكوين الأكاديمي. لا سلطة إلا سلطة الإبداع التي تفوق كل السلطات الرمزية و المادية معا.». للإشارة، كان الراحل عضوا بالاتحاد المغربي للفنانين التشكيليين منذ 1991 ، و قد أقام أول معرض فردي له بالرباط سنة 1982.