اجتماع يُنهي أزمة فريق المغرب التطواني    من طنجة.. أطباء وخبراء يدقون ناقوس الخطر حول أوضاع مرضى السكري بالمغرب    مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري تام وكامل لإطلاق النار في غزة    الركراكي: لا أتعامل بالعاطفة والأهم هو تحقيق الانتصارات    منظمة الأمم المتحدة للطفولة تشيد بتكامل جهود السلطتين القضائية والتنفيذية لحماية الطفولة بالمغرب    المغرب يستعرض بواشنطن تجربته في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية    سيدة أعمال تعلن ترشحها لانتخابات الرئاسة الجزائرية    ارتفاع نسبة الاعتقال الاحتياطي للأحداث    "الأسود" يختتمون التحضير للقاء الكونغو    جثة إطار بنكي تستنفر السلطات بطنحة والامن يتحرى أسباب الوفاة    كأس العرش (نصف النهائي) .. تأجيل مباراة الرجاء الرياضي أمام مولودية وجدة إلى 25 يونيو الجاري    وليد الركراكي : "هدفنا هو البقاء على رأس مجموعتنا والاقتراب من التأهل"    اللجنة المؤقتة تُراضي أبرون وتنجح في مهمة معقدة    جمهورية إفريقيا الوسطى تعرب عن تشبثها بالوحدة الترابية للمملكة المغربية وتعتبر    أطعمة تخفض خطر الإصابة بقصور القلب    الصغيري يكتب: مأزق الديمقراطية الداخلية للأحزاب المغربية    مجلس الأمن يتبنى قرارا أمريكيا بوقف إطلاق النار بغزة وحماس ترحب    محطة تحلية مياه البحر للدار البيضاء .. منشأة على المستوى العالمي وأكبرها على مستوى إفريقيا    رقم قياسي لزوار معرض الاقتصاد التضامني والاجتماعي بتطوان    طقس الإثنين.. أمطار رعدية ورياح قوية بهذه المناطق    مالاوي تعلن اختفاء طائرة كانت تقل نائب رئيس الجمهورية    أخنوش: نمتلك الشجاعة لمواجهة معضلة التشغيل ولن يمنعنا أحد من التواصل مع المغاربة    المعارضة تشتكي "التضييق" عليها وتنتقد الاعتماد على برامج "ظرفية وهشة" للتشغيل    الأغلبية تحمل الحكومات السابقة مسؤولية أزمة التشغيل وتربط حل البطالة بتحفيز الاستثمار    هل تخدم الجزائر مخططات التقسيم الاستعمارية؟    السجن المحلي عين السبع 1 : 129 مترشحة ومترشحا من النزلاء يجتازون امتحانات البكالوريا    عناد نتنياهو.. هل هو ضعف أم استبعاد لنهاية المشوار السياسي؟    رسميا.. ريال مدريد يعلن المشاركة في كأس العالم للأندية    الأمثال العامية بتطوان... (621)    بعد إغلاق باب الترشيحات.. 3 أسماء تتنافس على رئاسة نادي الوداد الرياضي    الحكومة تدرس حل العصبة الوطنية لمحاربة أمراض القلب    الحصيلة العددية لانتخابات البرلمان الأوروبي تضع القارة وسط "زلزال سياسي"    الأحمر يُغلق تداولات بورصة الدار البيضاء    بوابة رقمية لتعزيز الخدمات الاجتماعية للأمن    بوانو: أخنوش قام بتخفيض رسوم الاستيراد لشركات أقربائه ورفع من نسبة تضريب المقاولات الصغرى    أطباء يستعرضون معطيات مقلقة حول مرضى السكري بطنجة    الناظور.. لقاء تشاوري حول مستقبل الأمازيغية بالمغرب    «شهادة أداء مناسك الحج» ثانية للحجاج المغاربة، وحواجز ومداهمات وعقوبات على المخالفين    وزير الخارجية اللبناني يشدد على موقف بلاده الدائم الداعم لسيادة المملكة ووحدة ترابها    مجلس الحكومة يدرس إعادة تنظيم المركز السينمائي المغربي    الوفد الرسمي المغربي للحج يحط بجدة    لارام تستعد لاقتناء 200 طائرة جديدة    الصندوق المغربي للتقاعد يعلن صرف معاشات المتقاعدين قبل عيد الأضحى    طيب حمضي ل"رسالة24″: احتمال إنتشار فيروس انفلونزا الطيور ضعيف جدا    الدورة ال 12 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة.. الفيلم الكونغولي «متى يحل عهد أفريقيا» لدافيد بيير فيلا يتوج بالجائزة الكبرى    العشرات يشاركون في كاستينغ المهرجان الوطني للمسرح والكوميديا ببنسليمان    يوسف القيدي مبادرة فردية شديدة التميز في مجال الفن التشكيلي    "الحياة حلوة" عن معاناة فلسطيني من غزة في الغربة…فيلم مشاركة في مهرجان "فيدادوك"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    موريتانيا تكشف اقتناء أسلحة متطورة    جسور التدين في المهجر.. لقاء مع الدكتور عبد النبي صبري أستاذ جامعي في العلاقات الدولية والجيوسياسية    استعمالات فلسفية معاصرة بين الهواية والاحتراف    «نقدية» الخطاب النقدي الأدبي    رابع أجزاء "باد بويز" يتصدر الإيرادات السينمائية الأميركية    أسعار النفط ترتفع بدعم من آمال زيادة الطلب على الوقود خلال الصيف    أعراض داء السكري ترفع خطر الإصابة بالكسور العظمية    أزيد من 300 حاج مغربي استفادوا من مبادرة "طريق مكة" إلى غاية 9 يونيو الجاري    بنحمزة يوضح موقف الشرع من الاشتراك في أضحية واحدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العصيان والعنف من زاوية فلسفة القانون

عندما أستعرض بعض المشاهد الدامية التي عرفتها الجامعة المغربية في السنين الأخيرة، يتولد لديّ انطباع بأن الجامعة قد تحولت في بعض الأوقات إلى حلبة حرب حقيقية. ترتسم في ذهني أنذاك صورة «مغربية»، لمفهوم حالة الطبيعة التي ساق هوبز بموجبها حرب الكلّ ضدّ الكلّ.
كانت الجامعة المغربية خلال العقود الأولى بعد تأسيسها حلقة نقاشات فكرية وعقدية، ولم تتحول إلى حلبة صراع الكل ضد الكلّ.
اليوم تحوّلت مقارعة الحجة بالحجة إلى مقارعة السواعد بالسواعد، والسيوف بالسيوف، وأصبح المرء معفى من تبرير موقفه السياسي تبريراً عقلانيا مقنعا، بعدما انتصر الحقّ لإرادة القوة، وعوّض عنف الكلّ ضدّ الكلّ فصاحة البيان وقوّة الحجّة وتسامح الإخوة الأعداء.
تحوّل الإنسان إلى عدوّ الإنسان؛ أصبح وجود الإنسان بحدّ ذاته خطرا على بقاء أخيه الإنسان. لم نعد اليوم نواجه الأوبئة والفيضان والزلازل والفقر، بل أصبحنا ملزمين بمواجهة أحكام مسبقة عن بعضنا البعض ومواجهة مشاعر العداء والتشدّد والتعصّب الفكري.
عندما تقسم السياسة العالم إلى عدو وصديق، وترفع السيوف في وجه الأفكار، تزول الفروق بين حاضرة العلم و ساحة القتال.
هل يبرّر مبدأ «حرب الكلّ ضدّ الكلّ» تحويل الحرم الجامعي إلى مشهد من مشاهد حالة الطبيعة؟ و هل يجوز أن يميل السلطان جهةً من كان أكثر بأساً و أعزّ مددا؟ هل أصبح العنف المستشري بالجامعات مفخرةً يعتزّ بها هذا الحزب أو ذاك؟ ألا تنتبه البطولات الزائفة وملاحم النصر على أعداء وهميين إلى تضاعف الضحايا وتزايد الأسر المكلومة في فلذات أكبادها؟ هل تستمدّ السياسة برامجها من التعصب والعنف المطلق والحقد والاستعداء وتهديد حياة الغير؟ هل يمكن الدفاع عن العنف اختياراً سياسياً؟ سنناقش الموضوع في إطار العصيان. لكنّنا عندما نحصر أنفسنا بالعنف داخل الجامعة، لا نعدم وجود من يدّعي أنّ الجامعة المغربية تحولت إلى ساحة «حرب الكلّ ضدّ الكلّ».
كانط و السياسة و العنف:
هذا الادّعاء غير صحيح. ذلك أن الجامعة المغربية في ذهن الطلبة والأساتذة والإداريين كانت ولاتزال مركز الإشعاع و الصراع الفكري والانفتاح على الفكر العالمي. و لحسن الحظ، فإنّ أغلب الطلبة لا يتبنّون صورة هوبز عن حالة الطبيعة؛ أوعلى الأقلّ يستكملون تلك الصورة بالاستدراك الذي قام به كانط والذي يفيد أنّ افتراض «حرب الكلّ ضدّ الكلّ» لا يعني عدم الاحتكام إلى معيار آخر غير معيار العنف. لا تعني حالة الطبيعة أننا لا نحتكم إلى معايير قانونية. فمنذ أن خرج الإنسان من حالة التوحش أقام حياته على عادات و أعراف و قيم تهدف إلى تعزيز قيم السلم والاستقرار وإلى تنظيم أنماط السلوك و الحقوق والواجبات. فضلا عن ذلك، فإنّ حالة الطبيعة ليست وضعاً أبديّاً و لاحرباً مفتوحةً على الدوام، بل هي وضعٌ مؤقّتٌ لا يمثل الوضع العادي للحياة السلمية و الآمنة.
لا يتقبل كانط الصورة المأساوية التي رسمها هوبز عن حالة الطبيعة. ينبني القانون العام على الحق الخاص؛ لكن الحق لا يصبح ملزما للغير إلا إذا ما قام على تعاقد تحترم بموجبه حرية الواحد حريةَ الآخر. تظل المرجعية القانونية حاضرةً حتّى في صلب حالة الطبيعة. يظلّ إمكان العصيان مشروعاً، لكنه يتعلق بالاعتراض على قانون محدّد أو على سياسات حكومية، و لا يجوز له أن ينتقل أبداً إلى قتل الخصوم السياسيين. ولا يجوز استغلال العلاقة المبهمة التي تجمع السياسة بالعنف، في معانيه المتعدّدة (العنف ضدّ الأصول، و العنف الزوجي وجرائم التشرميل، والعنف المعنوي). ولكن العنف الذي ينبغي معالجته فلسفيّاً هو العنف الذي بدأ يستشري داخل الحرم الجامعي. و سأكتفي بهذا الخصوص بالتذكير بأهم المواقف الفلسفية من العنف.
وعليه، فإنّ القضية الأساسية التي يجب مناقشتها هي التالية: كيف نميّز بين الحقّ في ممارسة الحقوق المدنية والسياسية وواجب احترام القانون؛ بعبارة أدقّ: من حقّ الطلبة أن يمارسوا الاحتجاج وأن يمارسوا حقّ الإضراب. بل وقد يعتقدون عن حقّ أو باطل أنه من واجبهم مقاومة السلطات والقيام بالعصيان المدني، بل و ممارسة العنف. وهنا أتوقف عند أهمّ نقطة يلجأ إليها دعاة التمرد على السلطات الجامعية و الإدارية، وهي تتعلق بالحق في العصيان. فما معنى العصيان إذن، وما صلته بالقانون وما هي الحدود الفاصلة بينه وبين العنف؟
هل العصيان المدنيّ حقّ أساسيّ؟
إن العصيان المدني يتعارض لدى فقهاء القانون مع وجوب احترام القوانين. لا أحد يتمتع بامتياز خرق القانون، سواءً بحكم نفوذه السياسي أو بعد تنصيب نفسه فوق القانون، أو نتيجة مواقف سياسية، و سواء كان مناضلا سياسيا أو مواطنا عاديا. لا يتضمن وجوب احترام القانون استثناءً داخل الدول الديمقراطية في الشرق أو في الغرب الذي يبجل القانون أكثر من تبجيل الكتاب المقدس نفسه. و لذلك، سنتساءل: هل العصيان المدني حق أساسيّ، بمعنى أنه حقّ «يضمن لنا فرادى و جماعات مشروعية انتهاك معايير المنع، بطريقة خالية من العنف لأسباب سياسية أخلاقية، إذا ما كان الاحتجاج موجّها ضدّ ظلم خطير؟»1 هناك من يعتبر أن العصيان المدني ليس حقاً أساسياً. من هذه الزاوية يعتبر Fortas أنه «لا يوجد مبرر للعصيان المدني داخل مجتمعنا [المقصود: الأمريكي و الغربي عامة] لأن المادة القانونية التي تمّ انتهاكها ليست هي موضوع المنازعات».2 كذلك، يعتبر Joseph Raz أن الدول الليبرالية ليست معنية بصورة جوهرية بالعصيان المدني، ما دام يرتبط ارتباطا مباشرا حسب رأيه بالمشاركة السياسية. ينبني الغرب على وجود مبادئ ليبرالية تفرض نفسها على المشرع، كما ينتبه إليها القانون و يدافع عنها. فالحقوق تتدخل في سن القوانين، كما تساهم القوانين في تنظيم الحقوق، من خلال المشاركة السياسية داخل المجتمعات الليبرالية. و عليه، «لا يحق للدول الليبرالية أن تمارس العصيان المدني»3 و لكن الحق في العصيان المدني يقتصر على الدول غير الليبرالية، لأن دفاع المواطن عن حقه في هذه الدول «يتطلب منه انتهاك القانون، و قد يؤدي هذا التصرف أحيانا إلى عواقب غير محمودة كان بالإمكان تجنبها لو كان قد تصرف وفق القانون.»4 يظل اعتراض فورتاس قائما، لأننا ننتهك مادّةً قانونية، و نحن نعتبرها صحيحة، بدعوى رفع مطالب أخرى. و إذا لم تكن هذه المادة نفسها هي موضوع النزاع لا يجوز انتهاكها باسم العصيان المدني. صحيحٌ أنّ المواطن داخل المجتمعات العادلة نفسها يملك حق عدم التعاون مع السلطات، إذا ما أخلت بالتزاماتها الأخلاقية، و «ليس ملزما، كما يقول Vinit Haksar، بالامتثال للقانون في كل الظروف.»5 لكنّ الغاية، حتى ولو كانت نبيلة من وراء العصيان المدني، لا تبرّر الخروج عن القانون. و لهذا، لا تتضمن الدساتير بندا صريحا يضمن الحق في العصيان المدني، لأن نص القانون سيمنحنا آنذاك حق الخروج عن نص القانون، هذا غير معقول. ما يسمح به القانون هو الاعتراض على مادة قانونية بدعوى عدم دستوريتها. فقد ينتهك المواطن معيارا قانونيا (موضوع نزاع قانوني) باسم معيار قانوني أسمى، مثلا، بالرجوع إلى تعديلات الدستور الأمريكي (الأول والخامس والرابع عشر: حرية الضمير وحرية التعبير وحرية المعتقد و عدم التمييز بين المواطنين). يمكن الطعن في نص قانوني باسم قيمة أخلاقية عليا. إذا ما انتهكنا قانونا اعترضنا عليه أخلاقيا وأنصفتنا المحكمة الدستورية، لن نكون آنذاك قد انتهكنا قانونا صحيحا.6 وهذا يؤكد كلام فورتاس في البداية، لأننا نعترض على دستورية القانون نفسه، و لا ننتهك قانونا صحيحاً لا يشك أحدٌ في دستوريته للوصول إلى أهداف أخرى. نجد مثالا رائعاً للعصيان المدني في نموذج Antigone التي تحدّت القانون الذي أصدره Creon بعد أن أراد منعها من دفن أخيها Polynices فقامت بدفنه دفاعا عن الحق و ضدا على القانون. معنى العصيان هنا هو انتهاك قانون اعتبرته أنتيغون باطلا، ويختلط العصيان في هذه الحالة مع العصيان الذي ينتهك قوانين صحيحة لأهداف أخرى أخلاقية و سياسية. ولكن الغموض يظل قائماً بين انتهاك قانون صحيح و انتهاك قانون نشك في دستوريته، لأن الفرق بين الشرعية و المشروعية لا يزال يثير مشاكل عظمى بين الفقهاء. قد نعتبر أنّ قانون الحريات العامة، الذي ينظم الاحتجاج والمسيرة، لا يطرح مشكلة قانونية، لكنه قد يتحول إلى مبرّر لقمع ممارسة حرية التعبير، ويتحوّل في ظروف معينة إلى قانون ظالم. وعليه، يظل من وجهة فورتاس و راولز و دووركين وجود القانون الظالم هو مبرّر العصيان، بينما لا يعتبر آخرون أن هذا الشرط ضروريٌّ.
خصائص العصيان المدني
في التصور الليبرالي:
فقد عُرف العصيان المدني في البداية باسم مقاومة السلطات، و عرف أشهر رموزه مع طورو وغاندي ومارتن لوثر كينغ. أطلق هنري دافيد طورو Henry David Thoreau على هذا الأسلوب من الاحتجاج على الحكومة مصطلح العصيان المدني civil disobedience. وقد ألقى Joseph Raz و Fortas نظرة سلبيةً على العصيان المدني لأنه ارتبط لدى كثير من الناشطين السياسيين بممارسة العنف ومقاومة السلطات والتمرد والثورة. وقد سعى راولز إلى اتخاذ موقف وسط: يعتبر أن العصيان المدني مشروع ويساهم في تجديد المجتمع والنخب السياسية، ولكنه يحتفظ بمميزات تتناسب مع المجتمعات الغربية الليبرالية.
ما هي خصائص العصيان المدني لدى راولز؟ يورد راولز الخصائص التالية: إننا نملك «الحق» في عصيان قانون غير عادل - نعود هنا من جديد إلى فورتاس- في دولة عادلة near just إذا ما كان عصياننا مدنيا- أي حينما يتخذ العصيان صورة احتجاج غير عنيف واحتجاج سياسي يمتثل إلى وازع الضمير conscentious، و إذا ما قمنا به علانيةً و إذا ما خاطبنا حسّ العدالة لدى الأغلبية- و شريطة أن يتبين أن الظلم unjustice واضح للعيان و يمسّ الجوهر، و بعد أن استنفدنا كل طرق الطعن القانونية المعتادة، عن حسن نية، و شريطة ألا يؤدّي العصيان إلى سقوط هيبة القانون».7
يقبل راولز العصيان المدني داخل المجتمع الليبرالي، و لكنه يقيده بشروط تقيّده بمواجهة قانون ظالم، مع تجنب العنف و التمرد والثورة. فإذا امتنع شخص عن أداء الضرائب، وإذا ما تمسكت امرأة بارتداء الحجاب داخل المدارس الفرنسية، كان «الرفض مبنياً على ضمير الشخص» conscientious refusal و لا يعتبر عصيانا مدنيا في نظر راولز، لأن أداء الضرائب مشروع ولأن رفض أداء الضريبة لا يخاطب حس العدالة الموجود لدى الأغلبية»، و هو الحسّ الذي ينبني على مبدأ التعاون الاجتماعي بين الناس الأحرار والمتساوين ويحظى بالإجماع و يشكل أسّ النظام السياسي. «. إذا ما التزمنا هذه الحدود، لن يشكّل العصيان المدنيّ خطراً على المجتمع، ما دام أن المتمرد على بنود قانونية محدّدة يقرّ بسلطة القانون و يعترف بأن الدولة عادلة».8 امتناع طورو عن أداء الضريبة لا يعتبر عصيانا مدنياً بالمعنى الذي يراه راولز. فما يبرّر مشروعية العصيان المدني لدى راولز هو أن بعض القوانين المحدودة تنتهك المبادئ العليا التي نفترض أن المجتمع العادل يتوفر عليها سلفا. و لكن هذا التصور يحصر العصيان المدني داخل الدول الغربية، ما دام أنّ موضوع العصيان هو القانون الظالم نفسه، و ما دام أن القانون المقبول من الجميع ليس مطية العصيان. بهذا المعنى الذي يأخذه العصيان لا يعتبر حسّ العدالة موجوداً بالضرورة في سائر المجتمعات؛9 و هي مجتمعات تواجه العصيان بالقمع، بدعوى غياب حسّ العدالة.10 و مع ذلك، يظل موضوع العصيان غامضا هل الموضوع هو القانون، أم هو ما ينتج عن القانون؟ و هل العنف جائز أم لا؟ استعمل José Bové العنف لتدمير محاصيل زراعية خضعت لتعديل جيني في فرنسا، و أصبح نائبا أوروبيا. انتهك بوفي مجموعةً من القوانين الصحيحة المتعلقة بالأملاك الشخصية والملك العمومي دخل على إثرها السجن. و لولا هذا العنف لما انتبه الفرنسيون إلى مشكلة الصوجا المعدّلة جينيا. ولكن Stuart Brown لا يجد مبررا لاستعمال العنف في العصيان إذا ما كانت الظروف التي تنتج عن العنف ستكون أكثر مأساوية من الظروف العادية.11 مثلا، لا نبرر العنف إلا إذا كانت مقاومة النظام السياسيّ بالعنف أهون من شر النظام السياسي ذاته. «و إذا ما عجزنا، كما يرى براون، عن تبرير مشروعية التمرد المدني، لا نستطيع تبرير استعمال القوة أو العنف.»12 لا يجيز براون استعمال العنف في الغرب، بالمقارنة مع دواعي التمرد و الثورة في الدول غير الليبرالية. غير أنّ John Morreall يعترض عليه و يعتبر أن العصيان المدني قد يلجأ إلى عنف محدود في الشرق والغرب معاً، شريطة أن نوضح معنى العنف. تستعمل الدولة العنف طيلة الوقت و نستعمله نحن أيضا للدفاع عن أنفسنا. 13
فضلا عن ذلك، افترض راولز أن المجتمع قد أجمع على تصور محدّد للعدالة، و ضيّق بذلك على ظروف القيام بالعصيان. و الحال مفهوم المجتمع العادل تصور مثالي لا يأخذ واقع المجتمعات بعين الاعتبار، كما يرى Peter Singer و لاسيما المشاكل الواقعية في الدول العربية؛ كما أن مفهوم المجتمع العادل يفضي إلى إجماع لا يترك مجالا للعصيان المدني بشأن مفهوم العدالة ذاته.14 وهكذا، يتعارض الإجماع المزعوم مع الحق في القيام بالعصيان المدني، وقد كان افتراض هذا الإجماع هو ما منع المرأة والسود قرونا طويلة من المشاركة السياسية.
العصيان المدني بين التصور الحقوقي والسياسي:
إن العصيان لا يوجه ضدّ قوانين محدودة فحسب، بل قد يُوجّه ضدّ فكر الأغلبية أو ضدّ النظام السياسي القائم أو للدفاع عن قضايا لا تهم غالبية السكان، (النظام النباتي في الأكل ومواجهة الطاقة النووية والمضاربات العقارية)15. يعتبر الهنديّ Vinit Haksar وهو يتذكر نموذج غاندي، أن العصيان المدني، على خلاف ما يدّعيه راولز وسينغر، يرفض على الأقل مهادنة النظام.16 بينما يرى راولز أن المنشق يهادن النظام ويتعاون معه، لأنه يقبل عواقب خرق القانون، إذا كان يعتبر القانون صحيحا؛ وهذا مظهر من مظاهر التعاون بين المنشق و الدولة17. وسأركز على نقطتين: على العصيان المدني السياسي، وهو الصورة الأساسية الواردة في العالم العربي والعصيان المدني الحقوقي الذي يواجه الفساد.
العصيان المدني السياسي:
لقد فرض الواقع السياسي الذي عاشه العالم العربي منظورا جديدا للعصيان المدني. فقد أصبح ممارسة تطالب بالحق في تقرير المصير الجماعي، كما انتبه إليه Celikates.18 إذا كانت المطالب تحمل طابعاً نقابياً تدافع عن مصالح عمالية ضيقة، لا تدخل في إطار العصيان المدني. «وإذا كانت طرق الاحتجاج تخضع للقانون لا تدخل في إطار العصيان المدني كذلك.»19 و هذا ما يتنافى مع فهم راولز للعصيان المدني الذي يرى أنه احتجاج سياسي وعمومي و يعترض على قانون ظالم. لكننا نجد صوراً سياسيةً جديدةً للاحتجاج تضع تصوراً جديداً للعصيان المدني. يتجاوز العصيان المدني الاعتراض على قانون نشكّ في مشروعيته. يذكر والتزر هنا «كيف أن بعض الفئات الاجتماعية ترفع مطالب شمولية. تجد هذه الفئات نفسها مجبرة على تحدّي النظام الشرعي القائم و على إسقاط حكومة و تعويضها بحكومة أخرى و على مهاجمة وجود المجتمع. 20 نُذكّر هنا بالقضية الفلسطينية التي كانت تجد من بين أنصارها من يمارس العصيان المدني نضالا من أجلها، حتّى و لو أدّى ذلك إلى خرق القوانين الوطنية. و يذكّرنا بيداو بحركات مقاومة الاستعمار و الأنظمة الفاشية، عندما كانت شبكات سرية تتولى عصيان الأوامر لحماية المقاومة.21 كانت أعمال التخريب جزءاً من المقاومة المشروعة. لانريد أن نستطرد مطوّلا في إشكالية المقاومة عن طريق العنف. كتب سارتر مقدمة مستفزة لكتاب المعذبون في الأرض لفرانس فانون.22 و لكن مفهوم العنف يحتاج للمراجعة، حتى لا نخلط بين المقاومة السلمية والمقاومة المسلحة والعصيان المدني. ولكننا نؤكد على الملاحظات الفلسفية التالية. لقد اعتبرت حنّة آرنت أنّ السلطة مضادّةٌ في جوهرها للعنف، وتعتبر أن العنف يؤدّي إلى تدمير السياسة التي تنبني على وجود عالم مشترك وعلى الحوار المتواصل بين أفرادٍ أحرارٍ ومتساوين. وقد كان الهدف الذي دفع آرنت إلى تبنّي هذا الموقف هو الاعتراض على فكرة أنّ كلّ الثورات كانت دمويّةً. فقد قامت الثورة الأمريكية، كما ذكر بيرنشتاين Bernstein ذلك، من أجل خلق السلم العام.23 فقد أبرزت أنّ الثورة الأمريكية، على خلاف الثورة الفرنسية، تبطل بالملموس الفكرة الخرافية التي تجعل كلّ الثورات قائمةً على العنف. فالتداول والاحتجاج للأفكار والمساومات والتراضي، كلّ ذلك انتهى إلى وضع الدستور وإرساء قواعد السلم المدني. و قد أبرزت كيف أنّ «أي نوع من العنف الذي يواجه العنف يواصل إلى الأبد دوّامة العنف. إنّ العنف ليس خلاقاً- إنّه مدمّرٌ فقط»24 وقد أبرزت حنّة آرنت حدود استعمال العنف، و كيف أنّ العنف بحدّ ذاته لا يقيم عضد الدولة ولا يرسي دعائم السلم. يُدمّر العنف كل الآفاق الواعدة التي تفتحها أمامنا ثقافةُ السلم.
لعصيان المدني و نداء الضمير
لن نتابع الكلام عن العصيان السياسي، وسنتوقف عند طابع العصيان الذي قد يكون فرديا وغير سياسي ويرتبط بضمير الشخص وبالقيم الأخلاقية العليا. وهو عصيان يتّخذ الصورةَ المعروفة عند فورتاس وراولز ويتبناها دووركين بدوره، حينما واجه قانونا ظالما بمبادئ الدستور (في حالة الدستور الأمريكي). يعتبر دووركين من هذه الزاوية أنّ «عصيان القانون» له مسوغ أخلاقي، حتى ولو لم يكن يملك مسوغاً قانونياً.»25 بل، يذهب مايكل والتزر26 أبعد من ذلك ويقول: «في بعض الأحيان، يجب على من يطيع الدولة أن يبرر السبب الذي دعاه إلى ذلك، لو ثبت أن الواجب كان يفرض عليه أن يتخذ موقف العصيان».
وعليه، فإنّ المنشق ليس مجرّد مجرم بسيط، ما دام يتصرف في تقديره الخاص للقانون الذي لا يتطابق مع الحق.27 وقد اقترح مايكل والتزر منذ القرن الماضي «أن تضيف الدولة إلى كل نصّ قانوني إجراء يفيد أن العصيان بموجب الضمير لا يستوجب العقاب».28 ولكن عدم تجريم العصيان المدني يتطلب اجتهادا خاصا من فقهاء القانون، لأن دعوة والتزر متقيدة بالسياق الأمريكي الذي «يجعلنا نعتبر أن قانونا ما غير صحيح إذا ثبت أنه غير دستوري».29 قد يكون القانون صحيحاً في الظاهر فقط، ومن يتجاوزه يعتبر أنه نصّ غير واضح من حيث دستوريته، كما يرى دووركين.30 لنفترض أن الدولة وضعت قانوناً سنة 2000 يفرض على الطلبة تحية العلم قبل بداية المحاضرة؛ لنفترض أن الطلبة مارسوا العصيان وامتنعوا عن تحية العلم أو تقديم السلام الوطني؛ لنفترض أن المحكمة الدستورية اعتبرت سنة 2002 أن هذا القانون غير صحيح. فهل خالف الطلبة القانون بين 2000 و2002. هنا يصبح مبدأ «لا رجعية في القانون» مبدأ غير صحيح، لأن الطلبة لم يخالفوا أي قانون بين التاريخين المذكورين. و هذا ما أكّده Greenwalt بقوله: «لو تمّ تأكيد الدعوى المرفوعة، لما كان صاحب الدعوى قد خالف قانوناً صحيحاً، لو نظرنا إلى الأمر نظرة تراجعية.»31 يساهم العصيان المدني في تحسين جودة القوانين من خلال إلغاء القوانين الظالمة وتكريس الحقوق الأساسية.
يساهم العصيان المدني، إذا ما انتفض ضدّ قانون ظالم، في تطوير المنظومة القانونية. هذا ما يدعوه بيداو العصيان المدني المباشر. لكننا نجد عصيانا مدنيا غير مباشر خلال الشعور بواجب التضامن، أي خلال الشعور بالمسؤولية غير المباشرة عن الظلم الذي يتعرض له الغير. لنفترض أنّ الدولة فرضت رسوما باهظة على استيراد اللحوم، فقام طلبة الجامعات باحتلال إدارة الجامعات و مقاطعة الدروس. من يرى أنّ القانون الجديد لا يهم الطلبة مباشرةً سيعترض عليهم ويرفض أن يمارسوا ضغطا على الدولة. تعتبر مقاطعة الامتحانات آنذاك شكلا من أشكال التمرّد، وسيصبح العصيان طريقا إلى الفوضى الاجتماعية و لن يسهم في تربية الأجيال.32 لكن التخلي الكامل عن التضامن ضدّ قانون ظالم قد يصبح ذريعةً للفصل بين السياسة والمبادئ. لنفترض أنّ الشرطة قامت بانتهاك حقوق الإنسان، تحت مسؤولية الدولة. يحق للمواطن العادي آنذاك أن يتّخذ موقفاً من هذه الانتهاكات.33
مثال، حينما أعلم أن موظفا ما يستغل موقعه أو نفوذه و أعلم أنه سيستمر في فعل ذلك لو لم أتدخل، قد يصبح من واجبي أن أمارس اعتراضا علنيا على هذا التصرف. هنا يتحدث بيداو عن مسؤولية أخلاقية، دون أن تصبح مسؤولية جنائية، و لكنها تسمح على الأقل بتطبيق المبدأ التالي: يُعتبر كل شخص مسؤولا عن أفعال ظالمة، سواءً اقترفها هو أم اقترفها غيره، و هو ملزمٌ بأن يتصرف على نحو يبرئه من الخطأ الذي ينتج عن تلك المسؤولية.»34 بطبيعة الحال، من يمارس العصيان المدني يتضامن مع من خضع للقوانين الجائرة، ويعتبر أن مبادرته مفيدةٌ في مقاومة الظلم. وعندما تنجح المقاومة وينتهي الصراع السياسي، تتمّ معاقبة أعوان النظام السابق، لكنه، وكما ينبّه والتزر إلى ذلك «لا يمكن أن نتّخذ إجراءً في حقّ الذين تخلّوا عن المشاركة في المواجهات. ولا يحسون بأي التزام للقيام بذلك.»35
يسمح العصيان المدني على الأقل بعدم التورط شخصيا في الانتهاكات الجسيمة وعدم مباركتها وعدم التحالف مع مرتكبيها. لكن المسألة ليست جنائية ولا عقابية في عمقها، بل تظل مرتبطة بمستويات التضامن مع ضحايا حقوق الإنسان. وهنا يعتبر «المخالف للقانون أحيانا أنه ملزمٌ بالعصيان بحكم انتسابه إلى ‹الجنس البشري› أو بحكم تضامنه مع المظلوم».36
خاتمة:
لاحظنا وجود تصورين للعصيان المدني: تصورا سياسيا لا يشك في مشروعية القانون، ولكنه ينتهكه لأسباب سياسية، بينما يعترض التصور المقيّد للعصيان على القانون الظالم نفسه. من يرفض قبول العصيان المدني يرفض انتهاك القانون لأسباب سياسية، انطلاقا من مبدأ أن الغاية لا تبرّر الوسيلة. كما أن الدول الديمقراطية الغربية، على خلاف غيرها من الدول، لا تحتاج إلى ثورة سياسية ولا إلى العصيان المدني في نظرها، رغم بروز حركات «احتلوا وول ستريت في أعقاب الربيع العربي، ما دام أن المشاركة السياسية مضمونة للجميع في تلك الدول. غير أن هنالك من أظهر الحاجة إلى العصيان المدني داخل الدول الغربية ذاتها، من خلال مواجهة القوانين الظالمة، ما دام يساعد على تطوير الترسانة القانونية والحياة السياسية، مؤكداً على أن الدول غير الليبرالية تعيش في مرحلة دقيقة، ما دامت لا تميز بوضوح بين العصيان والعنف والثورة. وقد حاولنا أن نبرز أهمية العصيان المدني في الشرق والغرب من جانب المسؤولية الشخصية ومحاربة الفساد. فهو مهم من جهة أولى في إعادة صياغة مفهوم القانون من زاوية مشروعيته الدستورية. وهو مهمّ من جهة ثانية في إثارة موضوع المسئولية الأخلاقية والتضامن مع ضحايا القوانين الظالمة. وانتهينا إلى وجوب التمييز بين مجرم الحق العام والمنشق عن القانون. ولا تدخل جرائم الحقّ العام في إطار الحق في ممارسة العصيان، سواء داخل الحرم الجامعي أو خارجه. وعليه، فإنّ مواجهة ثقافة العنف بالجامعة المغربية تتطلب تعزيز دور الجامعة في خلق فضاء حوار عقلاني بين كلّ المذاهب حول مفاهيم العصيان والمقاومة والاحتجاج واحترام القانون. ويهدف الحوار إلى تعزيز قيم التسامح ومناقشة هذه التصورات بعيداً عن العنف، دون اعتبار الخصوم السياسيين أعداء الله أو أعداء الطبقة المسحوقة أو أعداء الشعب. ولا يكفي لنا أن نعمل على إشاعة ثقافة التسامح داخل أسوار الجامعة، بقدر ما يجب الدخول في حوارٍ اجتماعيٍّ فعليٍّ مع كل المذاهب و الآراء الفكرية التي لا تشترك في القيم التي تحظى بالإجماع الوطني. تعتبر شريحةٌ واسعةٌ من الشباب أنها تتعرّض لعنف التهميش والإقصاء من المشاركة السياسية و الحياة الاجتماعية، لاسيما وأنها تنحدر من مناطق «المغرب غير النافع». وهي تواجه عنف التهميش بعنف مماثل، وهو عنف التطرف. ولكن الضحية واحد وهو طلبة الجامعة، سواءً كانوا غالبين أو مغلوبين، لأنهم يؤدون ثمن ذلك غاليا. ذلك أنّ الجناة و الضحايا (ضحايا العنف والتطرف) ينتمون في الغالب إلى نفس الفئات الاجتماعية غير المحظوظة. إنّ وجوب احترام القانون يتطلب إلزامية فرض احترامه، تحت طائلة العقاب. لكن المعالجة الأمنية تظل غير كافية، ما دمنا لم نفتح نقاشا أكاديمياً واسعاً حول العنف والتطرف، و حول معنى العصيان، و قانون الإضراب، من أجل دفع كل الفصائل إلى نبذ العنف و إشاعة ثقافة السلم والتسامح.
الجمعية المغربية لعلم النفس تنظم ندوة «العنف والأمن من منظور سيكولوجي»
نظمت الجمعية المغربية لعلم النفس صباح السبت الماضي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ندوة علمية في موضوع «العنف والأمن من منظور سيكولوجي» ساهم فيها نخبة من الأساتذة والسيكولوجيين والطلبة الباحثين. وقد جاءت الندوة بعد استفحال ظاهرة العنف بالمجتمع المغربي في فضاءاته المتعددة، من الشارع إلى الجامعة، مما جعل المواطن المغربي يشعر بانعدام الأمن، ويروم طرح الأسئلة عن أسباب الظاهرة، وما سر ظهورها بهذا الشكل الانفجاري المخيف.
كما أن هذه الندوة تعبر عن مدى اهتمام السيكولوجي بما يجري في المجتمع المغربي، وبدراسة المتغيرات العميقة التي تساهم في إبراز ظواهر العنف من فهمها قبل التصدي لها. وبذلك جاءت الندوة متعددة التخصصات لكن داخل تخصص واحد هو علم النفس، مما يعني تعدد الرؤى داخل علم النفس في حد ذاته، وهي رؤى كل من حقول علم النفس المعرفي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس التربوي.
وقد أبرز الأستاذ مصطفى حدّية، رئيس الجمعية المغربية لعلم النفس، أن مقاربة العنف والأمن مقاربة سيكولوجية متعددة جاءت استجابة لراهنية القضية، مما يدلّ على أن الجمعية فاعل أساسي في المجتمع المغربي وتحاول تقاسم همومه وقضاياه ومستجداته. إذ شعر كل السيكولوجيين أن من واجبهم فهم ظواهر العنف والعدوان، وما عرف مؤخرا ب»التشرميل»، والتي أرعبت الناس وأخافت المجتمع. وبما أن علم النفس حقل من حقول العلوم الإنسانية، حسب الأستاذ عبد الرحيم عمران، فإنه معني بكل ما يتعلق منالإنسان في المجتمع والنفس والعقل. فإذا كان السوسيولوجي يجيب عن سؤال: ما هو المجتمع؟ فإن السيكولوجي يجيب عن سؤال ما هو الإنسان؟ فالمجتمع تجمع بشري ينتظم من خلال الروابط والعلاقات والاستراتيجيات والمعارف. وبذلك ستكون المقاربة هي بحث في التفاعلات والتبادلات على المستوى الجماعي والفردي. إذن، حسب عمران، لابد من تحويل علم النفس إلى علم يقرأ ويرصد المجتمع. وبذلك لا مناص من طرح هذه الأسئلة: كيف ينتظم المجتمع المغربي على المستوى التربوي؟ كيف تتجلى أشكال التعلم والنشأة والاكتساب؟
كما طرحت الندوة أسئلة علمية جديدة حول الطفل وماهيته، باعتباره كائنا استراتيجيا على المجتمع الاهتمام بفاعليته وكفاءته. وذلك طرح على المتدخلين ضرورة وضع منظور مجتمعي واضح تجاه المجتمع المغربي ومتغيراته، ومختلف تنظيماته وأشكال تعاقداته، وسيتم التأكد من كون المجتمع المغربي تحول، كما هي جل المجتمعات، من مجتمع المؤسسات الأنثروبولوجيا إلى مجتمع متطور ومتحول يبني أنساقا جديدة.
ومن منظور آخر تناولت الندوة قضايا الطفل وما هي وجهته؟ وقضايا الشباب ووجهاتها؟ وما هي تفاعلات هذه الفئة من الشباب باعتبارهم هم من يتعاطون المخدرات ويهجرون التعليم ويمارسون العنف. فهذه هي مجمل علم النفس المعرفي الذي عليه مراقبة مجتمع انقلب من منظومة مغلقة إلى منظومة حرة ومنفتحة.
وبذلك فظاهرة العنف تسائل المرجعية السيكولوجية، وتسائل ظاهرة «التشرميل» المخيفة، وتسائل العنف في المدرسة والجامعة والفضاءات العامة، وتسائل الأسرة والدولة أيضا. وفي هذا الإطار دعا الأستاذ عمران إلى تأسيس كفاءة للحوار مع هؤلاء الشباب لمعرفة إحباطاتهم قصد الوصول إلى الدوافع السيكولوجية. ومن هنا تكتمل المقاربة العلمية مع المقاربة التدخلية الامنية. لقد اقتحمت ظاهرة التشرميل المجتمع المغربي بشكل مفاجئ. وذلك يترجم، حسب الأستاذة سميرة حجي، ظاهرة العنف في المدينة بين فئة الشباب والمراهقين. فالإعلام لعب دورا كبيرا في طرح قضية الأمن الشخصي والمجتمعي الذي أصبح هاجسا للمواطن المغربي. ومن ثم لابد من الاعتراف بهذه الظاهرة والتسليم بأنها أصبحت بل انضافت إلى ظواهر العنف الأخرى. وبذلك لابد من طرح الأسئلة: في أي طبقة، منتشرة هذه الظاهرة؟ وبين أي فئة من فئات الشباب؟ ذلك أن العنف هو مشكل نفسي، تقول الأستاذة حجي. ثم من أين جاء هؤلاء الشباب؟ ولماذا هم عنيفون؟ والإجابة المباشرة هي أنهم ينحدرون من أحياء هامشية ويتناولون المخدرات والخمور ومنقطعون عن الدراسة. فلابد من الاطلاع على الإحصائيات المخيفة: ستون ألف(60 ألف) طفل غادروا المدرسة سنة 2013. فإلى أين يتوجهون هؤلاء بعد انقطاعهم عن التعليم؟ وذلك معناه أن الجهاز التربوي المغربي لم يتوصل إلى وضع منطق تربوي تستفيد منه كل فئات المجتمع. كما لابد من إحداث فضاء مجتمعي يستوعب ويحتضن ويستعيد هؤلاء الستين ألف طفل. كما من الضروري عودة الأمن إلى المدرسة والجامعة. لقد انتقل العنف إلى هذه المؤسسات التي كانت إلى وقت قريب أمكنة آمنة ومطمئنة.
وفي نفس السياق أكد الأستاذ محمد الزاهر أن ظاهرة العنف تسائل السيكولوجي. إذ هناك نوعان من السلوك الاجتماعي: نوع يقوّي العلاقات الإنسانية، ونوع ضد المجتمع ويسعى إلى تدميره. العنف سلوك ضد المجتمع، يلحق الأذى بالذات والآخر، وبذلك فالعنف يشكل القمة الأقصى للسلوك المضاد للمجتمع. وهنا لابد من تدخل علم الإجرام الذي يهتم أيضا بتفسير وتوضيح دواعي وأسباب وآليات علاج العنف الأقصى. أما عالم النفس فعليه المساهمة بالعمل على فهم ما يجري في باطن النفس والعقل. فالسلوك العنيف هو ترجمة لما يجري في باطن النفس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.