أواصل هنا، في هذه الفسحة الجديدة، الخاصة برمضان 1438 (الموافق لسنة 2017)، ترجمة مذكرات الماريشال ليوطي، الخاصة بمهامه في المغرب. بعد أن ترجمت منذ سنتين أجزاء كبيرة منها ممتدة بين سنوات 1912 و 1917. وهي مذكرات هامة جدا، كونها تعنينا كمغاربة، كونها تقدم لنا معلومات دقيقة عن كيف تشكل المغرب الحديث بعد احتلال فرنسا وإسبانيا لبلادنا، إثر توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912، والتي مرت عليها الآن 105 من السنوات. وأهمية هذه المذكرات، كامنة، ليس فقط في كونها وثيقة تاريخية، بل أيضا في كونها كتبت من قبل صانع قرار، لم يكن عاديا قط في تاريخ المغرب الحديث، أثناء وبعد صدمة الإستعمار، الماريشال هوبير ليوطي، أول مقيم عام لفرنسا بالمغرب. لقد جاء إلى المغرب بعد سنوات قضاها في مدغشقر ثم بالجنوب الغربي للجزائر عند منطقة بشار، وبعدها بمدينة وهران بالجزائر، ليمارس مهام المقيم العام بالرباط ل 14 سنة كاملة. وهي أطول فترة قضاها مقيم عام فرنسي بالمغرب. ليس هذا فقط، بل أهميتها التاريخية أنها كانت مرحلة تأسيسية لشكل الإستعمار الفرنسي في إمبراطورية كان لها منطقها الدولتي في التاريخ، في كل الشمال الغربي لإفريقيا، هي الإمبراطورية الشريفية المغربية. وأن كل أساسات الدولة الحديثة المغربية قد وضعت في تلك المرحلة، على مستوى إعداد التراب، أو التنظيم المالي، أو القضاء، أو التعليم أو الفلاحة أو المحافظة العقارية أو الجمارك. ومن خلال ما دونه في مذكراته نتتبع بدقة كيف ولدت كل تلك الترسانة التنظيمية للدولة المغربية الحديثة، بلغة صاحبها التي لا تتردد في وصف ذلك ب «العمل الإستعماري»، المغلف بالدور الحضاري. وهي شهادة فيها الكثير من جوانب الجرأة الأدبية التي تستحق الإحترام. ثم الأساسي، أنه كرجل سياسة كتب شهادته وأرخ للأحداث عبر مذكراته الخاصة، من وجهة نظره، ولم يلد بالصمت، بل كان له حس تأريخي، يتأسس على إدراكه أنه يسجل كلمته للتاريخ. لقد صدرت هذه المذكرات أول ما صدرت سنة 1927، أي سنة واحدة بعد مغادرته المغرب (بقي مقيما عاما بالمغرب من 1912 إلى 1926). ثم أعيد نشرها سنة 1944، في طباعة رابعة، قبل أن يعاد نشرها من قبل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 2012، إحياء للذكرى 100 لاختيار الرباط عاصمة للمغرب. لنستمع لصانع من صناع التاريخ المغربي الحديث والمعاصر، كيف يروي قصة الأحداث من وجهة نظره. أو كما قال الزعيم اليساري الفرنسي فرانسوا ميتران عن مذكراته الخاصة هو: «هذه هي الحقيقة من الجهة التي كنت أنظر منها». أي أن للحقيقة دوما جهات أخرى للرؤية والنظر، يكملها عمليا المؤرخون.
6 غشت 1918 بدأت تصلنا أول الأخبار عن نتائج الهجوم الكبير (ضد الألمان) من فرنسا. وكان مهما استغلالها، بدون إبطاء، في العلاقة مع الأهالي (المغاربة)، خاصة الذين لا يزالون يقاوموننا. فوجهت إليهم هذا الإعلان، الذي تم تعميمه بينهم من قبل رسلنا. يقول ذلك الإعلان: إلى الشعب المغربي «تغرق ألمانيا وتركيا، المغرب، منذ ثلاث سنوات، برسائل وجرائد كاذبة. فمنذ ثلاث سنوات، وهم يحكون لكم عن انتصاراتهم الوهمية على الأرض وبالبحر. ومنذ ثلاث سنوات، وهم يقدمون المال لمن يوصفون على أنهم قادتكم، عبد المالك، موحا وسعيد، الهيبة، الريسولي (1)، حتى يدفعوا بكم للهجوم على مواقعنا، مما يتسبب في مقتلكم عبثا بفضل مدافعنا ورشاشاتنا. آه، أيها القوم السذج، الذين يتوهمون أنهم يقومون بالحرب المقدسة تحت الراية الألمانية. إن هذا الخطل وهذا الدجل، قد طال أكثر من اللازم. ولقد هرقتم دماء غزيرة من أجل قضية خاسرة. اليوم، هاهي فرنسا وحلفاؤها يحتفون بنصرهم الكبير. فمنذ شهر، وألمانيا تتراجع منهزمة، تاركة بين يدينا أسلحة كثيرة وأسرى ومدافع وآليات حربية. وإني أهتبل المناسبة لأقول لكم الحقيقة كما هي، وأفتح عيونكم عليها. في البحار، نحن السادة. فمنذ ثلاث سنوات، ما عاد الألمان يغامرون سوى مختبئين عبر غواصاتهم. ولا يهاجمون سوى من هم بدون قوة دفاعية، أي السفن التجارية المحايدة والسفن الطبية وبواخر الصيد. واليوم، فإن غواصاتهم أصبحت بدون تأثير، لأننا دمرنا أغلبها، وأيضا لأننا أصبحنا نصنع أكثر من السفن في اليوم، رفقة حلفائنا، بالشكل الذي لا يستطيعون القضاء على كثرتنا ولو في شهر. مثلما أن أسطولهم التجاري قد دمر بالكامل، وبقيت سفنهم العسكرية خائفة، راسية في موانئهم. على الأرض، انتظم الحلفاء، الذين يوجهون دوما تحية تقدير واعتزاز لبسالة قواتنا الفرنسية وقائدها، بكل قواتهم تحت رايتنا المشتركة الموحدة، التي يقودها جنرالنا الفرنسي «فوش». بينما في الشمال يحصد الإنجليز الرجال والأسلحة والمدافع. وفي الجنوب حقق الإيطاليون نصرا كبيرا، ما ترك الألمان مجرد فريق تائه وضعيف. وفي هذه الأثناء ظل يصل إلى شواطئنا يوميا، ما مجموعه 10 آلاف جندي أمريكي، ولقد اجتاز المحيط حتى الآن أكثر من مليون جندي أمريكي، وسيصلون إلى مليونين خلال الشهرين القادمين، وقد يصلون إلى 10 ملايين إن اقتضت الضرورة ذلك [هذه أرقام مبالغ فيها من قبل الماريشال ليوطي]. وهو يصلون في وحدات منظمة ومجهزة، شابة، شرسة، مزودة بأسلحة مهمة وبآليات أكبر بكثير من التي عند أعدائنا مجتمعين. بينما الألمان ما عادوا يدفعون صوبنا سوى بقوات منهكة وكبيرة في السن، والتي هي تحارب منذ أربع سنوات محرومة من الأساسيات الواجبة للحرب. إن المجاعة تظلل كل مناطقهم، وكذا العوز والفوضى. متبوعة بالإنتفاضات والإضرابات من كل جهة وصوب. لقد أصبح النموذج الألماني بغيضا عند الجميع. تلكم هي الحقية، يا مغاربة. مهم أن تعرفوها، حتى تفكروا مليا، وتتوقفوا عن الإنسياق وراء من يكذب عليكم، ووراء قادة طموحين تدفع لهم ألمانيا المال. إن من سيلتحق بنا منكم، سنمنح السلام والنماء. وكل الذين سيعترفون بأنه غرر بهم، نلتزم لهم بالعفو والنسيان والتجاوز. أما الذين سيواصلون المواجهة، فإننا نبشرهم أنه لم يعد لهم ما يعولون عليه من دعم ألماني. إن هزيمة ألمانيا مؤكدة ووشيكة، وأننا لن نرحم من سيواصل معركته ضدنا. سيجدون غدا، أمامهم، فرنسا متحررة من كل أسباب القلق، أقوى من الأمس، عازمة على أن تجعل القانون والعدل ينتصر ويسود بالمغرب، تحت حكم السلطان (مولاي يوسف) وفي احترام تام للإسلام. أسرعوا، إذن، في الإختيار. فاس، يوم 6 غشت 1918 الجنرال ليوطي». هامش: (1) الأسماء التي يقصدها الماريشال ليوطي هنا، هي أسماء وطنية مغربية وجزائرية قاومت بشراسة دخول القوات الإستعمارية إلى المغرب في المرحلة ما بين 1912 و 1926. وهم موزعون على مناطق جغرافية مختلفة من المغرب. عبد المالك، هو الأمير عبد المالك الجزائري إبن البطل الجزائري الأمير عبد القادر الجزائري، الذي قاد المقاومة المسلحة بالشمال المغربي بين 1912 و 1924،هو الذي كان قد التحق بالجيش الفرنسي بالجزائر، ويعتبر هو المؤسس الفعلي لجهاز المخابرات العسكرية الجزائرية، قبل أن يعين بطنجة المسؤول عن الشرطة بها سنة ، بعد معاهدة مؤتمر الجزيرة الخضراء الخاص بالقضية المغربية 1906. لكنه سيرتبط بالمخابرات الألمانية ضد فرنسا، وسينتقل إلى منطقة الريف بدعم ألماني، خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، لقيادة المقاومة هناك. أما الشهيد موحا وسعيد، فهو بطل مقاومة جبال الأطلس المتوسط بقبائل زيان الأمازيغية المغربية. كان قائدا من قياد المخزن، وممن دافعوا عن السلطان مولاي عبد العزيز. مثلما أنه قاد المقاومة المسلحة بالأطلس المتوسط ضد الإحتلال الفرنسي، انطلاقا من قصبة تادلة، وكبد الجيش الفرنسي عشرات المئات من القتلى بين ضباط وجنود، قبل أن يسقط شهيدا سنة 1921. ومن أشهر تلك المواجهات المذلة للفرنسيين ولليوطي شخصيا، معركة الهري يوم 13 نونبر 1914، التي سقط فيها قتيلا 623 ضابطا وجنديا فرنسيا وسينغاليا، فيما سقط من الجانب المغربي 182 مقاوما. ج- أما الهيبة، فهو المقاوم البطل من الصحراء الغربية للمغرب، الشيخ أحمد الهيبة إبن الشيخ الهيبة ماء العينين، مؤسس زاوية ومدينة السمارة بالصحراء المغربية، والذي قاد المقاومة بالجنوب سنة 1912، وحرر كامل الجنوب المغربي ودخل مدينة مراكش وحررها، ثم اتجه على رأس قواته العسكرية من المقاومين المغاربة من الصحراء وسوس الأمازيغية، صوب الرباط لتحريرها، لكنه انهزم في معركة شهيرة بمنطقة سيدي بوعثمان شمال مراكش يوم 6 شتنبر 1912. فنزل بقزاته إلى منطقة سوس وبقي يقود المقاومة هناك، بشراسة إلى حدود سنة 1920 سنة وفاته، ليتزعم اتلك المقاومة حتى سنة 1934، شقيقه الشيخ مربيه ربه وشقيقه الآخر الشيخ النعمة. ولقد حاول مبعوثون ألمان برفقة ترجمان تركي لقاءه بمنطقة أكلو قرب مدينة تزنيت بالجنوب المغربي سنة 1916، لكن الذي التقاهم هو شقيقه بأمر منه، وهو الشيخ النعمة. د- فيما الريسولي، هو محمد بن عبد الله الريسوني (الشهير بالريسولي)، كان زعيم منطقة وقبائل جبالة بالشمال المغربي قرب تطوان وشفشاون وأصيلة وطنجة والقصر الكبير. وتعتبر سيرته خليطا من التمرد على السلطات المغربية قبل الإحتلال سنة 1912، ثم مقاومة المحتل الإسباني بعد تلك السنة، لمدة دامت 8 سنوات. مثلما اشتهر بعلاقاته القوية مع الإنجليز، قبل الإحتلال، ثم بعلاقاته مع الألمان بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914. مما جعل القوات الفرنسية بقيادة ليوطي، تتوغل في المنطقة الإسبانية لمواجهته سنة 1915، وانتصرت على قواته. هو الذي حاول قبل استعادة مدينة القصر الكبير لكنه انهزم أمام الجنرال الإسباني مانويل سيلفستر، وهو ذات الجنرال الذي سيقتل إلى جانب عدد من جنرالات إسبانيا في معركة أنوال الشهيرة سنة 1921 بقيادة الأمير البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي.