بين حكومة تُسرع إلى تعميم المجموعات الصحية الترابية وتُسوّق الأرقام كدليل نجاح، من جهة، ونقابات صحية تُحذّر من اختلالات بنيوية تستوجب المعالجة قبل البدء في تنزيل التنظيم الهيكلي الجديد، ومواطن لا يزال يعاني من ضعف الولوج إلى العلاج، من جهة أخرى، يطرح هذا المقال سؤالًا سياسيًا جوهريًا: هل نُصلح المنظومة الصحية فعلًا، أم نُديرها بمنطق الاستعجال والبلاغات؟ وهل يجوز تعميم نموذج لم يخضع بعد لتقييم ميداني جاد، في قطاع يمس أحد أقدس الحقوق الدستورية، وهو الحق في الصحة؟ حين يصبح ترويج الأرقام غاية في حد ذاتها: قراءة في خطاب "النجاح" الحكومي تُقدِّم الحكومة إصلاح المنظومة الصحية باعتباره أحد أنجح أوراش الدولة الاجتماعية، مستندة إلى أرقام تعتبرها كافية وحدها للدلالة على ذلك، وعلى رأسها تعميم التغطية الصحية وارتفاع الميزانية المخصصة للقطاع، مع إطلاق نموذج المجموعات الصحية الترابية بوصفه إطارًا حديثًا للحكامة القريبة من المواطن. غير أن هذا الخطاب، رغم اتساقه الظاهري، يطرح سؤالًا يتجاوز الأرقام ذاتها إلى معناها السياسي والاجتماعي: هل يكفي التقدم الإحصائي للحديث عن نجاح إصلاح يمس حقًا دستورياً وحيويًا؟ أم أن الصحة، بحكم طبيعتها، لا تُقاس فقط بما يمكن أن يُعلن في البلاغات من أرقام ومؤشرات، بل بما يعيشه المواطن والأطر الصحية داخل المستشفيات العمومية؟ تتباهى الحكومة بتوسيع التغطية الصحية لتشمل أكثر من 22 مليون مواطن، لترتفع نسبة التغطية من أقل من 60 في المائة إلى ما يقارب 90 في المائة. ويُقدَّم هذا المعطى باعتباره تحولًا تاريخيًا في مسار الدولة الاجتماعية. غير أن القراءة النقدية تطرح سؤال المضمون قبل الشكل: ما قيمة التغطية إذا ظل الولوج إلى العلاج محفوفًا بطوابير الانتظار؟ وما جدوى الانخراط إذا استمر المواطن في تمويل المرض من جيبه؟ وتعتبر الحكومة في نفس الخصوص أن توحيد أنظمة التغطية الصحية وارتفاع الميزانية من حوالي 19 مليار درهم إلى ما يفوق 40 مليار درهم مؤشر آخر على نجاحها، لكن هذا الارتفاع، حين يُقاس بالنسبة إلى الناتج الداخلي الخام، يكشف محدوديته، إذ لا تتجاوز النفقات العمومية على الصحة 2 في المائة من الناتج، في حين توصي منظمة الصحة العالمية بما لا يقل عن 5 في المائة لضمان ولوج منصف ومستدام للخدمات الصحية الأساسية. وهو ما يعني، عمليًا، أن تعميم التغطية لم يُواكبه تعميم للاستثمار العمومي في العرض الصحي. المجموعات الصحية الترابية: بين طموح الحكامة وحدود الواقع في هذا الإطار، تُقدَّم المجموعات الصحية الترابية باعتبارها جوهر الإصلاح، ونموذجًا تنظيميًا حديثًا يهدف إلى تجميع المؤسسات الصحية داخل أقطاب ترابية مندمجة، وتحسين التنسيق بين مستويات العلاج، وتقريب القرار من المواطن. غير أن هذا الاختيار، رغم وجاهته النظرية، يثير إشكال المنهج حين يُدفع به نحو التعميم السريع، دون استكمال شروط نجاحه الموضوعية. فالتنظيم، في غياب موارد بشرية كافية، وتمويل مستدام، واستقلالية فعلية في القرار، لا يُنتج عدالة مجالية، بل يعيد توزيع الندرة بشكل أكثر عقلنة. وتؤكد المعطيات الرسمية أن المغرب لا يتوفر إلا على حوالي 7,9 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، وأقل من ممرض واحد لكل ألف نسمة، مع خصاص يتجاوز 30 ألف إطار صحي، كما لا يتجاوز عدد الأسرة الاستشفائية 1,1 سرير لكل ألف نسمة، مقابل متوسط عالمي يفوق 3 أسرة. ومع تعميم التغطية الصحية، ارتفع الطلب على الخدمات بشكل كبير، بينما ظل العرض شبه ثابت، ما جعل المجموعات الصحية الترابية، في كثير من الحالات، تُدبّر الاكتظاظ بدل أن تُعالجه. تجربة جهة طنجة–تطوان–الحسيمة: الإصلاح على محك التقييم والحوار تكتسي تجربة جهة طنجة–تطوان–الحسيمة أهمية خاصة، باعتبارها مجالًا أوليًا لتنزيل نموذج المجموعات الصحية الترابية. فالجهة، التي تضم أكثر من 4 ملايين نسمة، وتعرف ضغطًا ديمغرافيًا وحركية موسمية وسياحية مرتفعة، تُشكّل مختبرًا حقيقيًا لاختبار قدرة النموذج على الاستجابة للواقع. وقد أظهرت التجربة، رغم بعض المكتسبات المرتبطة بتوحيد مسارات القرار وتحسين التنسيق الإداري، استمرار اختلالات عميقة في الموارد البشرية، وضغطًا كبيرًا على المستشفيات الجامعية والإقليمية، وتفاقم آجال الانتظار، بما يؤكد أن الإصلاح التنظيمي وحده غير كافٍ دون استثمار فعلي في البنيات والتجهيزات والتحفيز المهني. وفي خضم هذا النقاش، عبّرت النقابات المهنية الصحية عن رفضها لمنهجية تنزيل المجموعات الصحية الترابية، معتبرة أن مصادقة الحكومة على المراسيم المؤطرة لها تمت بشكل متسرع وأحادي، وفي غياب حوار اجتماعي قطاعي جاد. وترى هذه المواقف أن الخلل لا يكمن في مبدأ التنظيم الترابي في حد ذاته، بل في توقيته ومنهجيته، إذ جرى الانتقال إلى إعادة هيكلة كبرى قبل معالجة أعطاب أساسية، وفي مقدمتها الخصاص في الموارد البشرية، وتدهور ظروف العمل، وضعف التحفيز والاستقرار المهني. وتحذّر هذه القراءة من لدن نقابات قطاع الصحة، من أن تحميل الأطر الصحية مسؤوليات إضافية دون تمكينها من الوسائل والصلاحيات اللازمة قد يُفضي إلى تفريغ الوظيفة العمومية الصحية من بعدها التضامني، وتحويل الإصلاح إلى مجرد إعادة ترتيب إداري، يُراكم التوتر بدل أن يُنتج الثقة. ومن هنا يبرز مطلب عدم التسرّع في تعميم المجموعات الصحية الترابية، وضرورة إخضاع تجربة طنجة–تطوان–الحسيمة لتقييم شامل وموضوعي، بالتوازي مع فتح حوار جاد ومسؤول مع النقابات المهنية الصحية باعتبارها شريكًا مركزيًا في أي إصلاح مستدام. خلاصة إن المجموعات الصحية الترابية قد لا تكون مبادرة غير ذات جدوى لإصلاح أعطاب الصحة، لكنها في صيغتها الحالية، إصلاح متسرّع في الإيقاع، ناقص في التمويل، وضعيف في التشاركية. فقد اختارت الحكومة تنظيم الندرة بدل معالجتها، وتحسين المؤشرات بدل تحسين التجربة اليومية للمواطن. والرهان الحقيقي، كما تقتضيه روح الدستور ومنطق الدولة الاجتماعية، لا يكمن في إعلان نجاح مُسبق، بل في بناء إصلاح صحي تراكمي، قائم على التقييم، يُشرك الأطر الصحية ونقاباتها، ويرفع الاستثمار العمومي، ويُعيد الاعتبار للمستشفى العمومي باعتباره عمود الحق في الصحة. ويبقى الحكم الأخير، في نهاية المطاف، للمواطن... هناك حيث لا تُقاس الصحة بالأرقام، بل بتوفير ظروف تحفظ كرامة المواطن في مسار العلاجات التي من المفروض أن يستفيد منها. (*)عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية