سفير إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة أمام الجمعية العمومية (فيديو)    القطاع السياحي يسجل رقما قياسيا بالمغرب    مزور تستقطب شركة عالمية رائدة للمغرب    اضطرابات في حركة سير القطارات ما بين 12 و26 ماي نتيجة أشغال تأهيل منشآت التشوير بين الدار البيضاء والقنيطرة    هكذا ساهمت دبلوماسية روسيا والصين في مقاومة "طالبان" للضغوط الغربية    143 دولة تدعم عضوية فلسطين بالأمم    حماس: إسرائيل تعيد الأمور للمربّع الأول    تصفيات كأس العالم لكرة القدم النسوية لأقل من 17 سنة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الجزائري    "الطاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    منتخب "لبؤات الأطلس" يكتسح الجزائريات    رسميا.. مبابي يعلن الرحيل عن سان جرمان    خبراء يناقشون حكامة منظومات التربية    اعتراض 133 مرشحا للهجرة في طانطان    اللعبي: القضية الفلسطينية وراء تشكل وعيي الإنساني.. ولم أكن يوما ضحية    لحجمري ينصب 3 أعضاء جدد في الأكاديمية    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    بعد إحداثها لطفرة في إصدارات الAI وطنيا.. الأمانة العامة للحكومة تُناقش آخر إصدارات الدكتورة رومات حول الذكاء الإصطناعي    تفاصيل قاعدة عسكرية مغربية جديدة لإيواء الدرونات والصواريخ    سماء المملكة غائمة وطقس حار بهذه المناطق!    بالصور.. اعتقال خمسة أشخاص بتهمة تنظيم الهجرة غير الشرعية والعثور على زوارق وسيارات وأموال    مدرب الجيش مطلوب في جنوب إفريقيا    صدمة جمهور الرجاء قبل مواجهة حسنية أكادير    جديد موسم الحج.. تاكسيات طائرة لنقل الحجاج من المطارات إلى الفنادق    الشركات الفرنسية تضع يدها على كهرباء المغرب    دكار توضح حقيقة وجود مهاجرين سنغاليين عالقين بالصحراء المغربية    الشبيبة التجمعية بطنجة تلامس منجزات وتحديات الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    بهدف تأهيله لاستقبال 4.4 ملايين مسافر .. هذه تفاصيل مشروع توسيع مطار طنجة    "طاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    هل تحتاج الجزائر إلى المغرب لتطوير اقتصادها؟    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الدراسة الطبوغرافية لأنبوب الغاز بين المغرب ونيجيريا تترجم فلسفة إفريقيا للأفارقة    قرار أمريكي يستهدف صادرات المغرب    توقع تسجيل هبات رياح قوية نوعا ما فوق منطقة طنجة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    ثنائية الكعبي تقود أولمبياكوس إلى نهائي "كونفرنس ليغ"    المغرب يعلن حزمة جديدة من مشاريع الترميم والإعمار في المدينة المقدسة    امرأة مسنة تضع حدا لحياتها شنقا بالجديدة    بعد أن أفرغت الحكومة 55 اجتماعا تنسيقيا ومحضر الاتفاق الموقع بين الوزارة والنقابات من محتواها    شفشاون على موعد مع النسخة الثانية من المهرجان الدولي لفن الطبخ المتوسطي    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    نقابة "البيجيدي": آن الأوان لإيقاف التطبيع وإغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط    غوتيريش يحذر من أن هجوما بريا إسرائيليا على رفح سيؤدي إلى "كارثة إنسانية"        تأشيرة الخليج الموحدة تدخل حيز التنفيذ مطلع 2025    نقابة تنبه لوجود شبهات فساد بالمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الجمعة على وقع الارتفاع    إحداث منصة رقمية لتلقي طلبات الحصول على "بطاقة شخص في وضعية إعاقة"    أخصائية التغذية ل"رسالة24″… أسباب عديدة يمكن أن تؤدي لتسمم الغذائي    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    خبير في النظم الصحية يحسم الجدل حول لقاح أسترازينيكا    الحسين حنين رئيس الغرفة المغربية لمنتجي الأفلام: يتعهد بالدفاع عن المهنيين وتعزيز الإنتاج الوطني    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الدمليج يقدم "بوريوس" في المهرجان الوطني الرابع لهواة المسرح بمراكش    سابقة بالمغرب .. حكم قضائي يلزم الدولة بتعويض متضررة من لقاح كورونا    النادي الثقافي ينظم ورشة في الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية/ عرباوة    ندوة دولية حول السيرة النبوية برحاب كلية الآداب ببنمسيك    أصالة نصري تنفي الشائعات    سبع دول من ضمنها المغرب تنخرط في مبادرة "طريق مكة" خدمة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حديث مع جان ستاروبنسكي : عبر الإنصات للقلب يتم إدراك صوت الضمير
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 01 - 08 - 2014

بينما لم يتوقف عن ملاحقة خطوات روسو وبودلير، كي يستنبط من عوالمهما حياة وعالما آخر، فإن فكر ستاروبنسكي المبتهج، المولع بالأوبرا والعروض الفنية، يرى في الوجوه المستعارة، السبيل الأقل اختصارا نحو الصدق.
بشعور يميزه التهيب، ننطلق من وسط جنيف، مرورا على الضفة اليسرى لبحيرة ليمان، ثم نصعد نحو هضبة شامبيل، وهو عبارة عن حي هادئ، بمنازل مرفهة ومستشفيات جامعية، هناك، حيث يقيم آخر الموسوعيين الأوروبيين :طبيب، وطبيب نفساني، ومؤرخ للأفكار والأدب، ومعروف عالميا بأنه عازف ماهر على البيانو، صديق لرؤساء الفرق الموسيقية والشعراء، ومشرف خلال مايناهز ثلاثين سنة، على لقاءات دولية في جنيف، المكان الوحيد، الذي استمر فيه انسياب للأفكار، بين الشرق والغرب، فترة هيمنة الانقسامات الكبرى.
جان ستاروبنسكي، هو قبل كل شيء طبيب المعرفة، يعتني بالأعمال والكلمات والأفكار، باعتبارها العلاج الوحيد الذي نمتلكه كي ننير ما نحن عليه. مختص، في علوم الجسد كالفكر، يصغى كفيزيولوجي لفكر الفلاسفة. بحيث تكتسب قضاياهم في نفس الآن، مادية مسار(الإدانة والإثارة) ، ثم قوة الرؤية مثلما هي مبادرته السخية الجميلة، حينما عرف كيف يموضع الحضور منذ العصر القديم، إلى غاية بودلير.
أخيرا، فترة الأنوار ستتبدى تحت قلمه كعلاج، حيث المبدأ هنا يشبه لقاحا : البحث عن ترياق للشر، ليس من خلال خير يقبع في سماء الأفكار، لكن في إطار الشر ذاته.
بالتالي، تجلى ما يبرر شعورنا بالرهبة، ونحن نلج البناية المتواجدة في حي شامبيل. لكن، عندما استقبلنا ستاروبنسكي برفقة زوجته جاكلين، التي هي بدورها طبيبة ومولعة بالموسيقى، التي كانت حاضرة طيلة الحوار، فتتدخل بين الفينة والأخرى،كي تدقق بكلمة ما يفصح عنه زوجها من ذكريات، وكشفا لنا عن بيتهما بكل تفاصيله، وإطلالته على السلسلة الجبلية لوجورا المكسوة ثلوجا، وكذا بيانو ستاروبنسكي بساق من خشب مبرنق، ثم خزانته الثرية جدا.
بعد ساعتين من الحوار، تناولنا شايا وقطعة حلوى. النتيجة، زال الشعور السابق، واحتل مكانه الإحساس، أننا ليس مجرد زائرين عاديين، بل صار المحاور مثل ابن أخ، مر من هنا في زيارة عابرة، استمتعنا معه بلذة سرد حكاية عن العائلة.
نعم هكذا حدث الأمر، في حي شامبيل بجنيف، وبالضبط في منزل ستاروبنسكي وبكثير من الكرم.
لقد ولدتم في جنيف من أبوين بولونيين، يتكلمان الروسية، ويحبان فرنسا، وضليعان جدا في الثقافة الألمانية، هل كنتم متعدد اللغات منذ ولادتكم؟
كنت أستمع إلى لغات أخرى. لقد غادر والداي بولونيا الروسية، وقدما إلى جنيف من أجل دراسة الطب. ذلك أن الجامعات الروسية، أقفلت أبوابها أمامهما بسبب أصلهما اليهودي. هكذا، استأثرت بي الفرنسية. أفهم شيئا ما، الروسية والبولونية، فقد كنت أستمع إلى حديث والداي بهما، وأتحسر كثيرا لأني لم أتمكن حقا من تعلمهما وإتقانهما. في كوليج جنيف، ركز تعلمي على التخصص الكلاسيكي، وتجلت أولى منجزاتي الجامعية، في حصولي سنة 1942، على إجازة في الآداب الكلاسيكية. كنا وقتها، لازلنا نكتب أبحاثا باللاتينية، ثم الألمانية باعتبارها اللغة الأولى للسويسريين، التي تشكل قسما من البرنامج المخصص لدراسة الآداب القديمة. نعم، أنتم على حق باستحضاركم لهذا التعدد اللغوي، لكنه لم يكن فقط حالة مرتبطة بأسرتي. لقد كان فضاء جنيف مناسبا، على هامش المآسي?الأوروبيين.
كانت جنيف إذن ملجأ، للعديد من المفكرين الأوروبيين، هل تأثرتم بهذا التفاعل؟
ذات يوم، من شهر أبريل 1942، تلقى أبي مكالمة هاتفية :شخص مريض، تعرض لوعكة صحية في بيته، لكنه توفي قبل وصول أبي إلى عين المكان. الشخص، لم يكن غير روبير موزيل مؤلف كتاب : l homme sans qualit، شهادة وفاته كانت من توقيع أبي. موزيل هذا، نمساوي متزوج من يهودية، اعتبره النازيون كاتبا منحطا، فوجد ملاذا في سويسرا بعد النمسا . أيضا، واقعة ثانية لا يمكن نسيانها، فأحد رفاقي في الكوليج اسمه ماراس ، مهاجر من برلين، استضافني غيرما مرة إلى المدينة التي تقيم فيها أسرته. أمه كانت شخصية بسيطة، ودودة، لم أعلم بهويتها الكاملة إلا بعد رحيلهما نحو الولايات المتحدة الأمريكية، حين رمقت عيناي في مكتبة قديمة تعرض كتبا ألمانية ، ملصقا على ظهر غلاف أحد تلك الكتب، كتب عليه اسم فيليس ماراس أي أم صديقي. ثم على كتاب آخر، ألفه كافكا، تحت عنوان : la colonne p nitentiaire تجلى ملصق ثان، مع صورة واضحة لنفس تلك المرأة، لكن هذه المرة تحت تسمية أخرى هي : فيليس بوير. معنى هذا أن ، والدة صديقي لم تكن غير خطيبة كافكا، التي أنهى علاقته بها بعد كثير من الإمهال.
كافكا الذي ترجمتموه إلى الفرنسية، خلال تلك الحقبة؟
أولى إصداراتي، تؤرخ لسنة 1943 ، ارتبطت بالوضع المتميز لسويسرا، خلال تلك الحقبة، مع أنها كانت في حالة تأهب. أواخر سنة 1941، وصل إلى جنيف، بييرجون جوف jouve ، صحبة زوجته بلانش روفيرشون Reverchon، فتأتى عن مجيئهما ظهور مجلة آداب . بفضل جون جوف ، ضمت هيأة المجلة شخصيات جامعية مثل :مارسيل ريمون، وجون رودولف دوساليس، إلى جانب ناقد فني اسمه بيير كورتيون . انضممت بدوري إلى الجماعة، فكانت ترجماتي لكافكا التي لم تتح لها إمكانية الظهور في فرنسا، بحيث جسدت مظهرا لمساهماتي.
حين قراءة نصوصكم الأولى الصادرة سنة1999 ، تحت عنوان القصيدة والحرب، حوليات (1942- 1944) ، ينتابنا شعور مفاده أنكم تنتظرون كثيرا من الشعراء؟
أنتظر من الشعراء، توجيهي نحو رؤية الأشياء، وفق مشاطرة يشترك الحاضر في خلقها، تمنح مبررات للمقاومة. لازلت أتذكر ذاك المناخ، حيث تجلى نوع من حدة الفكر، وفي نفس الوقت، ضرورة شيء من الاحتراس. داخل المنزل، الذي كنا نقطنه بالقرب من هنا، استقبلنا الشاعر والمقاوم بيير إيمانويل ، الذي أتى لزيارة جوف Jouve، فتحدثنا حول وسائل مقاومة الوقائع ذهنيا. بالنسبة إلي، لم أحصل بعد وقتها، على الجنسية السويسرية. غير أن هذا، لم يكن يشكل خطرا علي، فقد ولدت في جنيف، ودرست فيها، بالتالي لايمكنهم طردي، بل شكل ذلك بالأحرى حظا: فبينما ذهب رفاقي لتأدية الخدمة العسكرية، توفر لدي من الوقت ما كرسته للكتابة. لكن، كان هناك نوع من المنافسة، مصدرها باريس. لم أستطع وقتها، أن استوعب السياق ، لكني كنت منفتحا جدا حيال تيار عصري بأكمله، يهتم ببعد غير قابل للإخضاع ، وقوى خفية للثقافة. اقترح روجي كيوا caillois وجورج باطاي، مقاربة جديدة للمجتمعي، اهتمت باستمرار الأساطير وكذا المقدس. أفق ينسجم، مع الوقائع. في نفس الوقت، مثلت سويسرا خلال تلك الحقبة القاتمة، فضاء مثاليا. أتذكر، صيف 1942 ، حين أنهيت وقتها، إجازة في الآداب، ورافقت السيد جوف Jouve، لحضور النسخة الأولى من المهرجان الموسيقى لمدينة(Gstaad)السويسرية، حينما تم عزف تأليفات موسيقيين غير معروفين ، ينتمون إلى القرن الثامن عشر، مما أثار حنق جوف Jouve، لأنه بالنسبة إليه، يختزل القرن الثامن عشر في موزارت Mozart . هكذا، كانت سويسرا سنة 1942 فضاء للحرية، حتى ولو كنا نشعر بأن هناك حدود لا ينبغي تجاوزها.
لقد نهجتم مسارا مزدوجا :فأنتم طبيب وأستاذ في الأدب. فهل، توخيتم قصدا مزج الروح بالجسد؟
اعتبروني دائما، مثل طبيب متجرد من وظيفته، تحول نحو النقد والتاريخ الأدبي. في الواقع، ظلت أنشطتي على الدوام متداخلة، فقد اشتغلت على مشروع الأطروحة حول أعداء الأقنعة (مونتين، لاروش فوكو ، روسو، ثم ستاندال) ، بينما كنت على المستوى الطبي، أتعلم كيف أكشف حالة الصدر بالتسمع والنقر والفحص بالأشعة. ثم بالموازاة مع دراساتي للأدب الفرنسي في جامعة جون هوبكنز ، واصلت تكويني على مستوى الطب النفسي بمستشفى الجامعة. فلم، أتوقف عن ممارسة نوع من المقارنة بين المقاربتين الأدبية والطبية. فكيف نفصل بينهما، حين الاهتمام بالمعاناة النفسية.
كتابكم عن حبر السوداوية، الذي يجد منبعه الأصلي في أطروحتكم الطبية، يمثل أهمية نادرة ، فبين طيات 700 صفحة، اندرج تاريخ المعالجة الطبية للسوداوية، في إطار استكشاف لبؤرة المرض المركزية داخل الثقافة الغربية؟
لقد اعتدنا أن تكون الأطروحات الطبية، كتابات تقنية لا تتعدى حوالي ثلاثين صفحة. في المقابل، توخت أطروحتي محاورة حدود التطبيب، فكنت أحد القلائل الذين اشتغلوا بالتأثيرات الضارة للمقاربة العلاجية . جماليا، بوسعنا شرعنة الهيجان، لكن مراعاة لما يختبره شخص ما، فينبغي البحث عن الطمأنينة. بيد، أني لاحظت في مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، أن الأدوية يمكن أن تكون لها تأثيرات جانبية سيئة. فأدركت، خلال لحظة من اللحظات، أننا نقدم علاجات مهدئة، لكنها تجعل المرضى متجمدين في أماكنهم. فأروقة الفضاءات الطبية، ممتلئة بأشخاص يعانون الخبل. العلاجات التخديرية، لاتمنح الخلاص الحاسم، لكن التطبيب كان له تأثير آخر إشكالي. العلاج الكيميائي، أزال سحر المرض، لكنه أنسانا جوانب السوداوية الأقل ضررا، بحيث قد تكون السوداوية نبيلة، كما قيل خلال عصر النهضة. ينبغي أن نضع حسبانا، لما يمكن للثقافة إعداده انطلاقا من مفهوم ربما مغلوط عن السوداوية. فحينما، تحدثت تراجيدية سوفوكل، عن انغماس سوداوي ل هيراقليس في دم هاديس ، هذا يعني إمكانية انسياب مادي للسوداوية بين الكائنات. ربما هذا خطأ، لكنه يؤكد، ما نجازف بإضاعته مع التطبيب.
هل تريدون القول بأن السوداوية، هي تسمية للفردوس المفقود؟
يصاحب غالبا تجربة السوداوية، شعور الكذب والمفارقة للواقع، ثم فكرة الفقد والحرمان من شيء، رفضته قوة داخلية، لذلك نجد لدى كتاب سوداويين مثل مونتين وروسو، تيمة خيانة المظاهر وكذا القناع. إن استحالة الفردوس المفقود، وبالتالي فكرة الصحة والكمال، تشكل إحدى شكاوي السوداوية.
منذ أرسطو ارتبطت السوداوية بالعبقرية، كما لو أن السوداوي يعثر في كآبته على علاج؟
المجازات الحرارية، مهمة. نقول عن السوداوية في الآن ذاته، ماهو جليدي فينا ، ثم مايمكن أن يلتهب. كما لو أن الثلج، يمكن أن ينبعث منه حريق. تصورت الكآبة ، على منوال فحم بارد كليا، لكنه بوسعه الاشتعال. الاضطرام، قد يندلع من هاته البرودة ذاتها.
لقد جعل هيدغر من السوداوية، طابعا جوهريا للفلسفة. فهل من صلة بين السوداوية وفعل التفكير؟
هي صلة غامضة جدا، لأن الاجترار الداخلي لسوداوية قد تخصب الفكر، يرتبط كذلك مع تبخيس قيمة الذات. السوداوي، ليس دائما عبقريا مبدعا، في الأغلب يكرر الحديث عن عجزه، ويشعر بعدم قدرته عن تأدية المهمة. بالتالي، عقابه يكمن في التحجير، و القصور الذاتي.
في مقالاتكم المكرسة لروسو ومونتين أو مونتسكيو، طبقتم على أثر مارسيل ريمون وجورج بولي مقاربة تفخيمية بل مرتبطة ب علم الفراسة ، للنصوص. فماذا يعني ذلك؟
يتعلق الأمر، بأن يكون هناك انشغال باستيعاب ما يقدم لك. ينبغي أن تنسى ذاتك ضمن إدراك حسي، هو أولا عفويا ، لكنه قد ينمو بحل للرموز، أكثر اكتمالا. تفكيك، يضعنا في إطار حضور حقيقة متنامية. شيء ما، قد نعزو إليه صفة حقيقة تكبر. الإدراك المتسع، هو ما أشعر أني مدين له، عندما أشرح نصا.
في عملكم روسو والشفافية ارتبطتم بالحركة التي تحمل المفكر :الرغبة في تواصل متبلور مباشرة، بقدر ما تتجلى عوائق منيعة أكثر فأكثر؟
لقد أردت لفترة طويلة، مقابلة روسو حيال تناقضاته الخاصة: كيف يمكننا، الإقرار بأن الإنسان طيب بشكل طبيعي، ثم يفسد كل شيء بين يديه؟كيف يمكننا، موضعة العالم المثالي في ماض بعيد، فيما وراء التاريخ وتهيئ عقد اجتماعي جديد ؟بدلا من تناقضاته، ركزت على الحركة التي تنقله من وضع إلى آخر. يدعو روسو، إلى توخي عودة الشفافية، بخصوصنا وكذا حيواتنا، هذه الدعوة إلى الانصهار جعلته معاصرا جدا، قريبا من بعض التجارب الرومانسية بل السريالية. لكن، النفاذ ليس قط فوريا، من الشفافية القائمة إلى أخرى.
في آخر مؤلفاتكم، أو بالأحرى مقطوعاتكم الموسيقية المكرسة لروسو، والمعنون ب : siduireaccuser et فقد استوقفكم فعل التهمة؟
يمتلك روسو فن، إظهارمواقف أنتجها خلال لحظات تجعله فوق الآخرين، أو استثنائيا. استحضر في تأملاته الشاردة ، حفلة أقيمت في قصر لاشيفريت لدى عائلة إبناي ، حينما يلقي شاب بقطع من الحلوى، نحو جمع من القرويين تدافعوا نحوها بشراسة. كل الطبقة العليا، تقلد هذا الصنيع، لقد فهم روسو ذلك بمثابة عار مسيء . غير أنه بعد لحظات، ينسحب روسو ، متدبرا تفاحا وزعه فيما بعد بكيفية عادلة على أطفال سعداء. خلال مرحلة، يتهم روسو المجتمع الذي يجبر أفراده، على القيام بأفعال مذلة. في مرحلة أخرى، سيبدو مثل من يبدع وضعا ثانيا، قابلا كي يمنح كل واحد ما ينبغي له. يتوخى روسو، شيئا فوريا جدا :وجوه سعيدة. لا يمكننا التشكيك، في صدق المشهد، لكن يجب تحليله. حكاية، تقوم على مشاعر متحققة بشكل حي، لها خاصية لا تقاوم.
تثيرون الانتباه إلى التلقي المتحفظ لروسو خلال حياته. هل يبدو الأخير كمعالج، وهو يقترح دواء من أجل القضاء على اللامساواة والعثور ثانية على وجود أكثر صدقا؟
ليتم الإنصات للقلب، ويتم في نهاية المطاف إدراك صوت الضمير. نداء، أصدره روسو، استُمع إليه كثيرا خلال حياته . غير أن روسو ذاته، لا يمكنه تقديم جواب إلى قارئيه. لقد تساءل حتى أقصى حد، إذا لم يكن سعيه غير مجد، من هنا يواصل إغواءنا. بل، لما يتأمل تخيلاته، يدرك كيفية الإقرار بخطئه، كي ينتقل صوب مابعدها، من خلال اعتقاده بأفضل ما تضمره من معرفة . كان بديهيا، حينما عرض في تأملاته الشاردة ، ل خطيئة طفولته ، جراء تهمته الجائرة ل ماريون كونها : « من سرقت لفافة النسيج، بينما هو من ارتكب الفعل» ، أن يحاكم مع واقعة كهاته ذاته، لأنه قرأ اعترافات القديس أوغسطين، ويعرف جيدا هذا التقليد الديني، مما أمكنه أن يرد له الاعتبار. إذا كذب، فمرده إلى نوع من التسلية. سكينة، استمالت به شيئا فشيئا، بقوة الحجج. قارئ اليوم، ليس بالضرورة مقتنعا، بل يرى فيه خاصة مذنبا يحاول أن ينفي التهمة عن نفسه. بيد أنه ، ربما أثر فيه صدق هذا البحث عن المغفرة.
ديدرو، الذي خصصتم له عملا جديدا، ألا يمثل وضعا وجوديا مختلفا، فعوض اعتراف الذات نجد لديه إبداع الذات؟
هنا، حيث روسو هو بطل الانكفاء على الذات، سيمثل ديدرو بطل الانفتاح على ماهوخارجي : ينط خارج ذاته وكذا الحيز الذي ابتدأ منه. بينما، روسو تسكنه دائما الرغبة كي يعود ثانية إلى جوانيته وقد صاغ أحكاما على ذاته، يبحث ديدرو عن برانيته. فكره، هو فكر للموضوع والشيء، يفكر أولا في العالم اللامتناهي أمامه، ولايطرح أبدا نفسه موضوع سؤال ، بينما روسو هو دائما سؤال بالنسبة لذاته.
إلى أي موقف تنحازون ؟ الاستبطان أو الفضول نحو العالم؟
من الجيد التأرجح بينهما. هناك، بعد ثنائي كما أقرته الأنوار:الوعي المتسائل، حول استمرارية خطأ يستمر ولا ينمحي أبدا، ثم هذا التمدد خارج الذات، الذي عبر عنه ديدرو بشكل رائع. روسو، لايهمل شيئا حينما يقارب قضية، متناولا إياها على ضوء جميع المعارف المتوافرة، بينما على النقيض، نجد لدى ديدرو فتورا، يعجبني : نعثر باستمرار على ذواتنا، خارج محور الانطلاق. روسو، يصوغ أنساقا، ديدرو يجتاز بنا العالم. مؤلفات روسو، مرتبة بشكل رائع، أما التي كتبها ديدرو، فتقريبا شبه مرتجلة. ديدرو، رجل الرهان والاندفاع الذي لايدرك جيدا، جغرافية مسلكه، نكتشف لديه دينامكية رائعة تناقض هاجس، بناء مجموع منسجم كما تشتغل تقريبا مختلف نصوص روسو. إذن، أحدهما يتوخى بناء نسق، بينما الثاني، فيلتمس المغامرات. 
هل يوجد بحسبكم من فرق بين قراءة وفهم عمل فلسفي ثم التفلسف؟فأنتم بدوركم، لستم غير شارح، أكثر من كونكم فيلسوفا؟
أنا أدافع عن نفسي، ولا أريد كتابة الفلسفة. أشعر، أني ابن عم الفيلسوف ولست بأخ له، فعملي تأويلي لكنه لا يتوخى الوصول إلى تناول دقيق لكاتب ما، بل الوقوف على الإشكالية، فالأخيرة أكثر أهمية من الكاتب حتى مع وجود كتاب معتبرين. أسعى، الارتقاء إلى أفق الوعي الفلسفي لقضايانا.
يستحيل، أن ننهي هذا الحوار بغير الموسيقى، الحاضرة بين طيات كل مشروعكم؟
أعتقد، أن الموسيقى بمثابة السحر الوحيد، الذي أقرته جماعة المتأخرين ، كما الشأن بالنسبة إلي. أيضا، وفي نطاق كون هذه السلطة الفاتنة، بوسعها تحمل كل إساءة استعمال، فربما ينبغي علينا التفكير مثلما يقصد نيتشه، بأن هناك انغماس أعلى عبر الانغماس في الرائع . شخصيا، لقد عزفت لمدة طويلة على البيانو، أعشق عزف لحنا موسيقيا ل سكارلاتي ، بين فترات الاشتغال، ثم كذلك موزارت و شوبير و باخ و شومان و ديبوسي ، الأخير ينبغي أن تعزفه وفق مهارة محترمة إلى أقصى حد، بينما سكارلاتي، فيقتضي عزف ألحانه، صدقا أكثر. حاليا، أعاني مشكلة فيزيولوجية تحول بيني والعزف. سابقا، كانت لدي أذنا موسيقية متكاملة، لكني حاليا أتلقى جميع النوتات حسب رنة مرتفعة جدا : حينما أعزف (do) أسمع (ré)، ولكي أعودة مرة ثانية إلى العزف، يتحتم أن تهيئ آلة البيانو، إلى سمعي رنة منخفضة جدا. غير أني، لست متيقنا أن هذا سيفتن المستمع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.