الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية يثمن الاعتراف الأممي بمغربية الصحراء ويدعو لتسريع التنمية والاستثمار في الأقاليم الجنوبية    نادية فتاح تدعو إلى وضع تشغيل النساء في صلب الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية    كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم (المغرب 2025).. تعبئة 15 ألف متطوع استعدادا للعرس القاري    إصدارات مغربية جديدة في أروقة الدورة ال44 من معرض الشارقة الدولي للكتاب    قراءة تأملية في كتاب «في الفلسفة السياسية : مقالات في الدولة، فلسطين، الدين» للباحثة المغربية «نزهة بوعزة»    وسط مطالب بحريتهم.. أحكام الإدانة في حق شباب "جيل زد" متواصلة وصدور عقوبات بديلة في تازة    حموشي يتقلد وساما إسبانيا رفيعا    المنتخب الوطني يجري حصة تدريبية مفتوحة امام وسائل الاعلام المعتمدة بملعب طنجة الكبير    حادثة سير خطيرة بالطريق السيار العرائش – سيدي اليماني    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يستأنف تداريبه استعدادا لسدس عشر كأس العالم    انطلاق لقاءات التشاور حول الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية المندمجة بولاية طنجة    (فيديو) بنسعيد يبرر تعين لطيفة أحرار: "كانت أستاذة وهل لأن اسمها أحرار اختلط على البعض مع حزب سياسي معين"    رسميًا.. المغرب يقرر منح التأشيرات الإلكترونية لجماهير كأس إفريقيا مجانا عبر تطبيق "يلا"    الكشف عن الكرة الرسمية لكأس أمم إفريقيا المغرب 2025    الدون "كريستيانو رونالدو" يعلن عن موعد اعتزاله    كيف أصبح صنصال عبئاً على الديبلوماسية الجزائرية؟    برلمانية تستفسر وزير التربية الوطنية بشأن خروقات التربية الدامجة بتيزنيت    كريم زيدان يعلن عن تفاصيل وشروط استفادة المقاولات الصغيرة جدا والصغيرة من دعم المشاريع    اقتراب منخفض جوي يجلب أمطارًا وثلوجًا إلى المغرب    لتعزيز جاذبية طنجة السياحية.. توقيع مذكرة تفاهم لتطوير مشروع "المدينة المتوسطية"    انعقاد الدورة ال25 للمهرجان الوطني للمسرح بتطوان    "ساولات أ رباب".. حبيب سلام يستعد لإطلاق أغنية جديدة تثير حماس الجمهور    مجلس القضاء يستعرض حصيلة 2024    "واتساب" يطلق ميزة جديدة تتيح للمستخدمين الوصول إلى جميع الوسائط الحديثة المشتركة    الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة تعرض تجربة الذكاء الاصطناعي في منصة "SNRTnews" بمعرض كتاب الطفل والشباب    رونالدو يكشف أن مونديال 2026 سيكون الأخير له "حتما"    الجزائر ‬تجرب ‬جميع ‬أوراقها ‬في ‬مواجهة ‬الانتكاسات ‬الدبلوماسية ‬    ملايين اللاجئين يواجهون شتاء قارسا بعد تراجع المساعدات الدولية    تفجير انتحاري يوقع 12 قتيلا بإسلام أباد    خط جوي جديد بين البيضاء والسمارة    رصاص الأمن يشل حركة مروج مخدرات    الحكومة تعتزم إطلاق بوابة إلكترونية لتقوية التجارة الخارجية    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    بموارد ‬تقدر ‬ب712,‬6 ‬مليار ‬درهم ‬ونفقات ‬تبلغ ‬761,‬3 ‬مليار ‬درهم    المغرب ‬رائد ‬في ‬قضايا ‬التغيرات ‬المناخية ‬حسب ‬تقرير ‬أممي ‬    منيب تتقدم بمقترح قانون للعفو العام    مهرجان الدوحة السينمائي 2025 يكشف عن قائمة المسابقة الدولية للأفلام الطويلة    الكاتب ديفيد سالوي يفوز بجائزة بوكر البريطانية عن روايته "فلش"    الشاعرة والكاتبة الروائية ثريا ماجدولين، تتحدث في برنامج "مدارات " بالإذاعة الوطنية.    المشي اليومي يساعد على مقاومة الزهايمر (دراسة)    ألمانيا تضع النظام الجزائري أمام اختبار صعب: الإفراج عن بوعلام صنصال مقابل استمرار علاج تبون    مجلس الشيوخ الأميركي يصوّت على إنهاء الإغلاق الحكومي    الحسيمة: مرضى مستشفى أجدير ينتظرون منذ أيام تقارير السكانير... والجهات المسؤولة في صمت!    وزير الداخلية يبدأ مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة؟    مع تعثّر انتقال خطة ترامب للمرحلة التالية.. تقسيم قطاع غزة بات مرجحاً بحكم الأمر الواقع    أتالانتا الإيطالي ينفصل عن مدربه يوريتش بعد سلسلة النتائج السلبية    كيوسك الثلاثاء | المغرب يعزز سيادته المائية بإطلاق صناعة وطنية لتحلية المياه    إيران تعدم رجلًا علنا أدين بقتل طبيب    خمسة آلاف خطوة في اليوم تقلل تغيرات المخ بسبب الزهايمر    انخفاض طلبات الإذن بزواج القاصر خلال سنة 2024 وفقا لتقرير المجلس الأعلى للسلطة القضائية    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفلسفة في المغرب إلى أين؟ : رشيد العلوي: آن الآوان للتميِّيز بين الأستاذ العمومي والمفكر الحر
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 21 - 06 - 2018

– هزيمة العرب 67 وثورة الطلاب 68 أشعلت فتيل النقد والاحتجاج في العالم العربي واللذان ووجها بقمع وتنكيل مثلما أبانا على قدرة في طرح أسئلة حارقة حول الدين والتراث والسياسة… فما الذي قدمته لكم؟
– كان لهزيمة 67 وثورة 68 في فرنسا كما هو حال مجموعة ثورات التحرر في تلك الحقبة وقبلهما انتفاضة 23 مارس 1965 في المغرب وقع كبير في الأجيال التي عاصرتها، ان لم نقل، إنها مرحلة فاصلة وفارقة في الوعي المتنامي لدى البرجوازيَّة الصغيرة آنذاك. فما وقع فرنسا فجَّر نقاشاً حاداً حول الحرية الجنسيَّة، في حين عبرت ثورات التحرر الوطنيَّة عن موجة ما بعد الستالينيَّة وأفرزت يساراً ماركسيّاً لينينيّاً جديداً وتيارات ماركسيَّة – ثوريَّة: غيفاريَّة وماويَّة وتروتسكيَّة، بالموازاة مع مجهودات مدرسة فرانكفورت على مستوى التنظير الفلسفي والسوسيولوجي.
لقد كان للمثقف العضوي وللفيلسوف دور بارز في تلك الوقائع ونحن نتذكر سارتر وغرامشي وغيره من فلاسفة وقادة اليسار الجديد، وفي سياقنا المغربي فتحت تلك الموجة الباب أمام صعود اليسار الجديد الذي لعب أدواراً كبيرة في مرحلة السبعينيَّات. ناهيك عن تبني مفاهيم بنيويَّة وماركسيَّة في التحليل الذي دشنه العروي والجابري والخطيبي حول التراث والحداثة والدِّين وحول الانخراط في الصراع الاجتماعي رغم الاختلاف القائم بينهم على مستوى الموضوع والمنهج والرهان كما أشرنا سلفاً. إلا أنه وبعد كل هذه الفترة يمكن الوقوف بعناية لقراءة مرحلة تاريخيَّة بأكملها لاستجلاء أفق جديد لوضعنا وتقييم مسيرة التحرر والمعركة الديمقراطية التي لم تنتهي بعد.
– يجمع المشتغلون بالحداثة، من قبيل محمد نور الدين أفاية، أنها لم تكتمل وبالتالي وجب النقد والمراجعة المستمرين، وهي الطريقة التي حررت الغرب من أوهامه وقداسته، سؤال لماذا العرب يتحفظون على النقد والمراجعة؟
– تناسل النقاش في العالم الغربي بعد أحداث 11 شتنبر 2001 حول ضرورة إعادة النظر في أسس الليبراليّة السيّاسيّة لإعادة تنظيم العلاقة بين الفعل الديني والفعل السياسي، ونتج عن ذلك إعادة التأكيد على حياديّة الدولة تجاه رؤى العالم، مع الإقرار بضرورة اقتحام الفاعل الديني للمجال السيّاسي العمومي بقواعد جديدة وصارمة اعتقاداً أنّ من شأن ذلك امتصاص حدة التّطرف وتنامي الخطاب الأصولي، غير أنّ هذه المراجعة لم تحظَ بالقبول الكافي في نظر بعض الفلاسفة المعاصرين، وعلى الأخص يورغن هابرماس (فيلسوف الاتحاد الأوروبي) الذي شدّد على ضرورة تجاوز المجتمع العلماني نحو مجتمع ما بعد علماني عنوانه العريض التسامح مقلوباً: تسامح العَلمانيّين مع المؤمنين والاعتراف بحقهم في التداول والمناقشة العموميّة شريطة تبادل حجج مقبولة وتستجيب لخطاب ما بعد الفكر الميتافيزيقي، أي ضرورة ترجمة الخطاب الدّيني إلى خطاب دنيوي واقعي يرقى إلى مستوى الحجّة المقبولة في التداول السيّاسي.
من المؤكد جداً أنّ سيرورة العلمنة الجارية في بعض التجارب الدوليّة اتخذت اتجاهات مختلفة، ولكنّها على العموم مشروطة بحداثة غير مشوّهة وبتحديث صارم لمختلف مجالات العيش المشترك. لأن الحداثة الغربية في نظر هابرماس مشروع لم يكتمل بعد. وإذا كانت العلمانية تعتبر أن الدين شأنٌ فرديٌّ مَحض، فذلك لِكون مجال الحريّة ليس واحداً ولا متماثلاً البتّة. فالحرية الجماعيّة في الفضاء العمومي شرطٌ من شروط العلاقات بين الأفراد في المجتمع كشأنٍ عام، في حين أن الحرية الفرديّة في المجال الخاص هي شرطٌ من شروط العلاقة بين الفرد ونفسه كشأنٍ خاص. وهذا التضارب المفترض بين المجال العام والمجال الخاص، هو أحد الأُسس التي تقُوم عليها العلمانية لضمان التعايش بين الأفراد المختلفين دينياً وعقدياُ واجتماعياُ، ولكنه في الآن ذاته أساسُ التوازن النفسي والوجداني للفرد الذي يُعتبر قِوام الديمقراطيّة وعماد المجتمع، يتم تمتيعه بالاستقلالية والحرية كأساسٍ من أُسُسِ العقل، لضمان استمراريّة الاجتماع البشري…
إذا كان هابرماس ينظر إلى الحداثة الغربية على أنها مشروع لم يكتمل بعد، فإن مشروع الحداثة كمشروع تحمله قوى سياسية ومجتمعية وتدافع عنه في مجتمعاتنا لم يولد بعد. ولكن رغم ذلك فهناك سيرورة تحديث سياسي واجتماعي – على حساب ملايين الجماهير – تقوده المؤسسات الدولية التي تطمح إلى اظهار الأنظمة السياسية في هذه المجتمعات بمظهر الأنظمة التي تزاوج بين الأصالة والمعاصرة، بين التقليد والتحديث، ولكن هل هي حقا قوى حداثية؟ مما لا شك فيه أن الارتكاز على الدين كقوة للحكم وكركيزة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، يمثل بحق العائق الأكبر أمام التحديث، والعائق الأكبر أمام الاندماج في المجتمع العالمي، ومسايرة التطور التاريخي للبشرية.
وفي نفس السياق يرى محمد نور الدين أفاية – باعتباره المشتغل الأول بفكر هابرماس والقضايا التي أثارها – أن ديموقراطيتنا منقوصة لن تكتمل إلا بمزيد من التمرن على السلوك المواطن بحث لا تسير الفلسفة مع الديمقراطية دوما في اتجاه واحد، لأن حضور الفلسفة في بلد ما من البلدان – كما يشدد على ذلك – لا يقترن بالضرورة بالديمقراطية بل يرتبط الأمر بالإرادة السياسية وبمرونة القرار السياسي، وأن التاريخ الثقافي والفكري لبلد ما قد لا يساير تاريخه السياسي فهناك: «بلدن ديمقراطية لا تعير الفلسفة أي اهتمام، ولا تدمجها في نظامها التربوي، أو تستدعيها في حياتها الثقافية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية»، وبهذه الإشارة فإن رهان مؤسسة اليونسكو أن تحقق الفلسفة وتعزز الديمقراطية في بلدان مستبدة أو أوثوقراطية هو رهان يقبل النقض، وعلى العكس من ذلك نجد الفلسفة حاضرة بقوة في بلدان غير ديمقراطية، مما يطرح السؤال حول أطروحة اليونسكو. يحدد أفاية التقاء الفلسفة والديمقراطية في أربعة مستويات:
1 – الشك: بحيث إن البحث عن الحق والمناقشة حول العدالة يتطلب: خلخلة اليقينيات، ومساءلة الثابت، والانتقال من الأجوبة إلى الأسئلة؛
2 – الكلام: أي ضرورة المناقشة والنقد ومواجهة حجج الآخرين سواء في مجال الفكر الفلسفي أو في معترك السياسة؛
3 – المساواة: لأن المساهمة في الحوار والمناقشة لا يتطلب أي ترخيص أو أية سلطة أو صفة، بل القدرة على الكلام والإقناع والحجاج؛
4 – التأسيس الذاتي: بحيث إن «الفلسفة والديمقراطية تستمدان قوتهما من ذاتيهما، ولا تخضعان لأية قوة عير منبعثة منهما».
تمثل هذه المستويات بحق مجالات اشتغال الفلسفة السياسية والعلوم السياسية معا، مع افتراض التمايز الممكن بين الخطاب الفلسفي وبين الخطاب السياسي، ففي الوقت الذي يتجه هذا الأخير نحو غايات نفعية ولحظية تهدف تدبير الشأن العام، فإن الخطاب الفلسفي يهدف إلى مساءلة الخطاب السياسي برمته وإلى إثارة المشكلات لا كما يراها السياسي ذو النظرة الضيقة – ولربما لأنها تتعارض ومصلحته الخاصة – وإنما كما يراه منطق العقل في تاريخيته وفي بعده الكوسموبوليتي. وبموجب هذا يقر أفاية «إن الفلسفة في الأول والأخير، اختيار فكري وتربوي وسياسي، نجد من يعتبره وسيلة لتعزيز العملية الديمقراطية، وتحفيز التفكير الحر، ونلقى، في المقابل، من يرى أن هناك أولويات اقتصادية واجتماعية يتعين توفيرها، أولا، فبل الانشغال بقضايا الفلسفة وبأمور تدريسها»، ورغم ذلك فالقرار السياسي يستحضر البعد الديمقراطي للفلسفة لأن مهمة الفلسفة هي «تكوين المواطن، وتطوير حسه التحليلي، وتقديره لتنوع الحجج واختلافها، ووعيه بنسبية الأمور»، هكذا يشدد أن «المساهمة في تنمية القدرة على الحكم تمثل معطى أساسيا في الحياة الديمقراطية» وهي التنمية التي يمكن أن تقوم بها الفلسفة. ف «الحاجة إلى الفلسفة، هنا والآن، معناها الحاجة إلى التنوير، وإلى التحرر من عوامل التخلف، وإلى قول الحقيقة وعدم الخوف من الحرية. ومعناها كذلك التخلص من ميتافيزيقية النص والانصات لتحولات الخطاب والواقع». محمد نور الدين أفاية: في النقد الفلسفي المعاصر (ص 123).
وفي هذه الوظيفة التي يحددها أفاية للفلسفة يمكن خلخلة البنية المحافظة للمجتمع الذكوري وثقافته السياسية المتسلطة، ومنها سيتخذ النقد والمراجعة كقاعدة لكل مساءلة تاريخية.
– ميز دولوز بين مدرس ومؤرخ الفلسفة والفيلسوف من خلال هذا التمييز هل يمكن الحديث عن الفيلسوف في راهننا العربي؟
– يبدو أنه آن الآوان للتميِّيز بين الأستاذ العمومي والمفكر الحر كما سبق لجيل دولوز أن فعل في معرض مناقشته للفرق بين جون بول سارتر وموريس ميرلوبونتي بغرض حصول انتقال واعٍ من الدور الوظيفي إلى الدور الطبيعي. نعم أقول الدور الطبيعي لأن المنخرط في حركيَّة وديناميَّة الفكر الفلسفي تنتظره مهام جمَّة لدعم التفكير الحر وحفز الناس على التساؤل والنقد والهدم وبناء الخطاب الحجاجي.
يقوم الأستاذ العمومي بمهام وظيفيَّة منهكة لا تتجاوز سقف إعادة إنتاج المتداول في تاريخ الفلسفة كعمليَّة لا تكتمل أغلب الظن بل تشوبها اختلالات فضيعة، وتضمن له تلك الوظيفة أجرة (كجراية لا غير) لتجديد قوة عمله الذهنية (في عصر بلترة العمل الذهني)، في حين يتجه المفكر الحر نحو الانفلات من تقلبات اليومي وانشغالات الوظيفي ليكتسح قارات حساسة منتقاة من المعيش ومن معاناة البشر في عالم توتاليتاري مسكون بأصنام غير واعية: الاستهلاك، الاستغلال، اللهو، الوهم، التسليع… لأن الاستكانة لأصنام العصر يوصد الأبواب أمام التفكير الحر، ويجعل الأستاذ العمومي في ترداد واجترار لعبارات وأقوال عادة ما تصطدم بآراء المتعلمين.
من الصعوبة – كما تعلم – نعت هذا المفكر أو غيره بفيلسوف، لكن وانسجاماً مع التحليل السَّابق أظن أن الخروج من الوضعيَّة الحالية ومن البحث بالصيغ الكلاسيكيَّة المسماة عنوة أكاديميَّة، ولأجل بحث مرتبط بالملموس والمعيش واليومي أرى أنه يمكن أعادة تعيين حدود جديدة للفلسفة:
ليست الفلسفة مجرد مفاهيم ولا مجرد لغة تسبح في سماء المعقولات بل هي فكر حي ينمو ويتطور بيننا، إنها إحساس وشعور ووجدان.
ليست الفلسفة مجرد ميدان معرفي وفكري قائم الذات له أهله، بل هي أيضا توجد في الفنون والأدب والعلم ورؤى العالم وفي الدين، توجد بين الناس في يومهم المقيت والمثقل بفيض من التمردات والمقاومات الجياشة…
ليست الفلسفة مجرد مهنة لتجديد قوة العمل الذهني، بل هي ممارسة يومية تكرس النقد وتسعى إلى بناء نظام حجاجي عقلاني.
ليست الفلسفة مجرد تراث محفوظ في الكتب، بل هي أيضا تراث شفوي يدعم المكتوب والمتداول.
ليست الفلسفة رهينة الاقسام والمدرجات بل هي فكر ترحالي يجوب الشوارع والمقاهي والبلدات.
فصفة الفيلسوف لا ينبغي أن تلتصق فقط بمن اشتغلوا بالفلسفة وإلا فقد الفلسفة معناها، فالتفلسف هو من صميم التجارب والانكسارات والمعاناة، كما أن التفرقة بين مختلف مجالات المعرفة الإنسانية بالشكل الفج الذي قادت إليه النزعة التقنوية – التخصصية أمر مضر بالفلسفة ذاتها، فكيف يمكنك أن تدرس الفن ولا تفهم في الفن، أو قضايا ابستمولوجية فوقية لا تتماشى مع بنيتنا وذهنيتنا غير العلمية. التفلسف ممارسة وتمرين وفعل جارٍ في الزمان والمكان.
– نحن اليوم في عالم متعدد الوسائط وعالم مهووس بالتدين والإرهاب والصورة وما إلى ذلك، هنا ضرورة الفلسفة لمقاومة ومواجهة هذا السيل الجارف من الضحالة والتنميط والتبسيط؟
– أمام التعميم المطلق لثقافة الاستهلاك، وانسيّاق الإنسان المعاصر إلى الاستهلاك السلبي والمفرط دون تريث أو فحص أو حتى التساؤل عن الرسائل الخفيَّة الكامِنة وراء ما تُقدمه لنا الصناعات الثقافيَّة، صار البحث في فلسفة الصورة مطلباً مُلّحاً لامتلاك أدوات تفكيك ونقد خبايا الصورة. ورغم الفروق بين الصورة الفنيّة والصورة المعدَّة للتداول الإعلامي فإن مجال الصورة عموماً في عالم اليوم يتمتع باستقلاليّة نِسبيّة، له مناهجه الخاصة وأدوات اشتغاله.
تخاطِب الفلسفة العقل من خلال اللُّغة بينما تخاطب الصورة العقل من خلال العين، مما يفيد أن لكل منهما وسيلتها الخاصة للتعبير عن الفكرة ولصوغ المفهوم. وقد كتب دولوز: «أن الفلسفة فن تشكيل وابداع وصناعة المفاهيم»، ولذا نتساءل: أليست الصورة أيضاً فنّاً لإبداع المفهوم أو على الأقل تمثله، وسواء تعلق الأمر بالفن من رسم وسينما وتصوير، فإن محاكاة المفهوم هو السمة المميّزة لعمل الرسام والمصور ومخرج الأفلام.
وما يمكنُ إثباته – كما شدد على ذلك عبد العالي معزوز – هو أن الطفرة الرقميَّة خفَّضتْ من مقدار الرقابة الاجتماعيَّة وهوَّنتْ من رقابة الدولة ومن وطأة قنواتها الرسميَّة ورسائِلها الدِعائيَّة التي تمررها عبر محطاتها الإذاعيَّة و جرائِدها. إن البثّ المركزي صار جزءاً من الماضي وصار ربط الاتصال أكثر بالشبكات العنكبوتيَّة العالميَّة وبالأقمار الصناعيَّة. وأنت تجوبُ مواقع الشبكات الاجتماعيَّة لَسْتَ بحاجة إلى جواز سفر و إنما فقط إلى كلمة سرّ ولا يمكن نكران دورها المحور اليوم في المقاومة وفي اطاحة بأنظمة سيَّاسيَّة عمرت طويلا، دون أن يعني ذلك أنها بالضرورة مقاومة إيجابية فقد تكون عكسية، لأنه بالقدر الذي يمكنها أن تلعب أدوارا تقدمية يمكنها أن تلعب في الآن ذاته أدوارا ارتكاسية ورجعية. فالتجييش الالكتروني للكتائب ولأطقم التطرف حاصل، واستغلال الشبكات الاجتماعية لخدمة الأممية الاخوانية حاصل، كما أن الترويج لهذه الصورة أو تلك يمكن أن يحدث في أية لحظة، وأبعد من ذلك يمكن استغلالها للترويج لحملة انتخابية كما حصل مؤخرا في حملة ترامب.
لذا فإن التلقي السلبي للصورة وخاصة الصورة المذاعة على أوسع نطاق والمتاحة بالمجان سيجعل المواطن عموما أسير الخلفيات الأيديولوجية لشركات الصورة، وأنت تعلم تأثير القنوات الدينية على الناشئة وخاصة تلك المدعمة بالبترودولار والتي تنشر فكرا اقصائيا وأحاديا يشبه الى حد بعيد أيديولوجيا الفاشية في القرن الماضي.
من هنا تنبع من جديد الحاجة إلى الفلسفة لتفكيك البنيات المختلفة للصورة المروجة على نطاق واسع، فالتطرف تربية وثقافة وايديولوجيا ينبت في كل تربة غير ديمقراطية وتخشى منح الناس الحرية في التعبير والسلوك والاعتقاد والضمير والتعبد…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.