لا يسع الإنسان إلا الفرح أمام مشاهد التضامن الإنساني العالمي مع الطفل "ريان" المغربي الذي سقط في بئر ضيقة مدة خمسة أيام. تضامن ذكرنا بحالة مشابهة للرضيعة 'جيسيكا' الأمريكية (ثمانية عشر شهرا) التي تردَّت بدورها في بئر مشابهة سنة 1987 لمدة ثمان وخمسين ساعة. هذه الحالة التي تم تخليدها في فيلم أمريكي عائلي (Everybody's baby: the Rescue of Jessica McClure)، تذرف العين لمحتواه الإنساني العظيم. بتأملنا لمضامين هذه الفيلم، نجده مليئا بلقطات إنسانية عظيمة تخييلية فنية، أبكت من شاهدها. لكن في حالة «ريان»، أصبحت هذه اللقطات واقعية معيشة، ملكت وجدان متتبعيها، بسبب تسللها الجميل والمحزن إلى كل البيوت في المعمورة، عبر شاشات الهواتف، والقنوات الفضائية. نفْجأ للتشابه الحاصل بين فضاءي عيش «ريان» و»جيسيكا»، فكلاهما يعيشان في منطقة تعاني قلة موارد: ريان البدوي الجبلي، وجيسيكا المواطنة بمدينةٍ تعاني الكساد الاقتصادي. وأمام رتابة الحياة في المنطقتين – التي لا يكسرها إلا متابعة أخبار الأزمة الاقتصادية، وأحداث الرياضة- يأتي تردِّي الطفلين في جب، ليعيد للبشرية إحساسها بالبشر العاديين: طفل بدوي لأبوين فلاحين جبليين، ورضيعة لأبوين شابين يعيشان وضعية هشاشة اقتصادية خطيرة. أكيد أن أول ما تبادر إلى ذهن الأهل بعد اختفاء الطفلين إمكانية اختطافهما، غير أنها تتبدد باكتشافهما حيين وحيدين خائفين، قرب المنزل، لكن في قعر بئرين ضيقين. ولأن القضية تتعلق بطفلين لا حول لهما، فإن أول من يفزع للمساعدة الأبوان، ثم الجيران، ثم أقرب مسؤول أمني، سيرفض مغادرة مكان الطفلين، لا رغبة في شهرة، بل لأن الفطرة الإنسانية جعلته متسمرا إلى جانب الطفلين. وهو في ذلك يشبه كل مسؤول يحل بالمكان، سواء أكان أمنيا، أم عامل إنقاذ، أم سياسيا، أم حفار آبار له دراية وخبرة، أم جيولوجيا أكاديميا، أم مستغورا مغامرا، أم متخصصا نفسيا، أم صحفيا نزيها، أم مجرد عابر سبيل ذاب شفقة لهول المصاب. أمام الصدمة تحضر الاقتراحات، والمحاولات الأولى الساذجة التي تنم عن حسن نية، وجهل بدقة الموقف، وبجيولوجية المنطقة. وهنا يظهر دور السلطة الحازم حتى تجلب خبراء الإنقاذ فقط، مع الانفتاح على آراء أهل التجربة المتمرسين ميدانيا من حفاري آبار، ومنجميين ليس لهم تكوين أكاديمي. لأجل هؤلاء – الذين يأتون من مناطق بعيدة وعلى حسابهم الخاص– يُسخَّر كل العتاد الحكومي، ونظيره الذي يوفره القطاع الخاص عن طيب خاطر. الجميل في الحادثتين، انفعال المشاهدين الحاضرين هناك، أو المتابعين عبر الشاشات، جراء بطء عمليتي الإنقاذ، وهو غضب نابع من حب إنساني استبد بهم. من ثم، لم يتردد أحد في تقديم يد المساعدة في الحفر، وإنْ لم يسبق له ذلك. كما لم يتخلف أحد عن اقتراح خطة للإنقاذ يراها ناجحة في خياله، أو بعض تخطيطها على ورق تصادف وجوده بجيبه، أو رمل أمامه، أو في مقهى على منضدته، أو رفقة بنيه وذويه أمام شاشة تلفازه. هنا تنبري السلطة بكل صرامتها وواقعيتها، وعدم رغبتها في الشهرة الإعلامية، مستغلة ما يخوله لها القانون، حتى تبعد أمثال هؤلاء مع شكرهم، لتعطي الفرصة فقط لكل خبير متخصص. بهذا تمت الاستعانة بحفاري آبار متخصصين، وتم ضخ الأوكسجين والحرارة في البئر، ومنع الطعام عن الطفلين، إلا النزر القليل من الماء، تخوفا من تدهور صحي غير متوقع. تحضر الصحافة المحترفة النزيهة، سواء العمومية أو الخاصة، لتقدم للرأي العام المحلي والعالمي الحقائق، دون تهويل أو إسفاف، من مصادرها المسؤولة، مما درأ إلى الخلف كل متطفل على الميدان، ممن لا يهمه إلا الإثارة والشهرة، ورفع نسب المتابعين، عبر اللعب على وتر التعاطف الإنساني. أجادت الصحافة المحترفة أيضا، حين أعرضت عن كل من يقدم نفسه متخصصا في مجال الجيولوجيا، والإنقاذ، وعلم النفس الفردي والجمعي، وكل متصيد في الماء العكر، يحاول نشر الإشاعات والأوهام غير العقلانية، وثقافة اليأس، والتشاؤم، والتبخيس لكل ما قُدِّم رسميا أو تطوعا. من المشاهد الإيجابية الأخرى أيضا، التكفل النفسي والاجتماعي بأهل الضحيتين، مع إبعادهما عن العامة المُسْتَثَارة المنفعلة، أو صحافة الرصيف بكل تلاوينها، تلك التي قد تستغل المأساتين لمصالح أنانية بعيدة عن الهدف المنشود. تم إبعاد الأهل أيضا، كي لا تصدر عنهم مواقف غير واعية، تنم عن السخط تجاه المجهودات المبذولة، مما قد يستغله الغوغائيون، وأصحاب الحسابات السياسوية الضيقة. ويبدو أن هذا التوقعات كانت موفقة. ذلك أن أحدهم قدم نفسه إلى أهل ‹جيسيكا› على أنه مستشار علاقات عامة، أشار عليهم بأفضل الطرق للاستفادة ماليا من القضية. وهو ما وازاه في حالة ‹ريان› تواتر أخبار عن فتح حسابات بنكية وهمية، لجمع التبرعات له ولأهله دون سند قانوني رسمي. لقد جنب هذا الدعم الرسمي الأهلَ السقوط في جلد الذات، واللوم المتبادل الذي قد يخلق إِحَناً وحزازات نفسية يصعب تخطيها في المستقبل. ذلك أن الأهل في تلك الحالة الصعبة، هم – في الحقيقة– المحبوسون في جُبٍ غائر من الهواجس والانفعالات التي مهما حاول المشاهد تخيلها لن يستطيعها أبدا. لقد أظهرت حالتا ‹ريان› و›جيسيكا› مجموعة من الحقائق المدهشة، أولا: تضافر الإيمان، والعلم، والتسيير المحكم، والتضامن، والرحمة، والطاقة الإيجابية، لأجل تحقيق الهدف المنشود. ثانيا برز في الإنسان جوهره السامي القائم على الرحمة، والصدر الرحب الذي يسع كل الإنسانية، دون اعتبارات دينية، أو ثقافية، أو إثنية، أو جغرافية. ثالثا: ضرورة العودة إلى خصلة التضامن لتصبح سَجِيَّةً لنا، وليس مجرد حلية نتحلى في مواسم من السنة. وفي الأخير، أبانت الحالتان أن الفن قد يتماهى مع الواقع إنْ كان إنسانيا أخلاقيا، بهدف نشر الوعي، والتذكير بأنَّ على الإنسان أن يخرج من جُبِّ أنانيته إلى رحابة الإنسانية.