يعيش حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مرحلة مفصلية في تاريخه، وهو يعقد مؤتمره الوطني الثاني عشر في ظرف وطني دقيق تتقاطع فيه التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخليا وخارجيا. من وحي هذا المؤتمر، يتجدد العهد مع الفكر الاتحادي الأصيل الذي كان دوما ضمير الوطن وصوت الشعب، والمدرسة التي أنجبت أجيالا من المناضلين الذين آمنوا أن السياسة التزام أخلاقي وفكري قبل أن تكون ممارسة سلطوية أو مصلحية. لقد شكّل هذا المؤتمر لحظة تأمل جماعي ومراجعة صادقة للمسار التنظيمي والفكري للحزب، وفرصة لإعادة صياغة المشروع الاتحادي في ضوء التحولات الكبرى التي يعرفها المغرب والعالم. الاتحاد الاشتراكي اليوم لا يعيش على أمجاد الماضي، بل يستلهم منها القوة لبناء المستقبل، مدركا أن الوفاء للمبادئ لا يعني الجمود، وأن التجديد لا يعني القطيعة مع التاريخ، بل هو استمرار لمسار نضالي بدأه الرواد: المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، عمر بنجلون، وعبد الرحمان اليوسفي، وكل من حملوا حلم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ومن أبرز رسائل المؤتمر الثاني عشر، التجديد الجماعي للثقة في الأخ والأب إدريس لشكر كاتبا أول للحزب، وهي خطوة شكلت إشارة قوية من 72 مؤتمرا إقليميا عبر التراب الوطني، عبّرت عن إجماع واسع وتشبث صادق بخيار الاستمرارية في القيادة، إيمانا بما قدمه الرجل من توازن سياسي ورؤية فكرية ناضجة حافظت على وحدة الحزب وصلابته في مرحلة دقيقة. لقد كانت الثقة في إدريس لشكر تجسيدا لوعي اتحادي بأن الإصلاح لا يمكن أن يكتمل إلا بتراكم التجربة، وأن القيادة المسؤولة هي تلك التي تجمع بين الوفاء للمبادئ والقدرة على التجديد. ومن هنا، جاءت إعادة الثقة فيه من الاتحاديات والاتحاديين جميعا كترجمة فعلية لروح الانسجام والوفاء، وكتعبير عن الإرادة الجماعية في مواصلة درب الإصلاح والبناء الحزبي. وفي كلمته الافتتاحية، كان الأستاذ إدريس لشكر محقا عندما اعتبر أن المؤتمر ليس مجرد محطة لتوزيع المواقع، بل لحظة فكرية لإعادة بعث الفكرة الاتحادية وتجديد الأمل في العمل السياسي النبيل. لقد شدد على أن الديمقراطية الحقيقية لا تكتمل إلا بإصلاح شامل للمنظومة الانتخابية، بما يضمن عدالة التمثيل ويقوي ثقة المواطن في المؤسسات. ودعا إلى الرفع من عدد مقاعد مجلس النواب ليتناسب مع النمو الديمغرافي والتوزيع المجالي، وتوسيع كوطا تمثيلية النساء والشباب من أجل إرساء مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. كما أكد على ضرورة محاربة الفساد بكل أشكاله، واتخاذ إجراءات تشريعية ومؤسساتية صارمة لتجفيف منابع الريع والزبونية والمحسوبية. ومن بين المقترحات الإصلاحية التي حملها هذا المؤتمر، الدعوة إلى إحداث الهيئة الوطنية للتمويل الرقمي، باعتبارها آلية حديثة لضمان الشفافية في تمويل الأحزاب والحملات الانتخابية، ومواكبة التحول الرقمي الذي تعرفه الدولة. كما تضمن الخطاب الاتحادي رؤية استباقية حول استعمال الذكاء الاصطناعي في تدبير العمليات الانتخابية، من التسجيل إلى مراقبة الحملات وفرز النتائج، بما يضمن النزاهة الكاملة ويعزز ثقة المواطن في العملية الديمقراطية. إنها خطوة جريئة تعكس انفتاح الاتحاد على العصر، وإيمانه بأن التكنولوجيا يمكن أن تكون في خدمة الديمقراطية لا بديلا عنها. لقد أثبتت النقاشات الفكرية والتنظيمية خلال المؤتمر أن الاتحاد الاشتراكي ما زال قادرا على التجدد من الداخل، وأن قوته تكمن في حيويته التنظيمية وقدرته على النقد الذاتي دون فقدان البوصلة. فالحزب الذي قاوم لعقود من أجل بناء الدولة الديمقراطية والاجتماعية، لا يمكن أن يتخلى اليوم عن دوره في قيادة الإصلاح السياسي والاجتماعي، ولا عن مسؤوليته في الدفاع عن مشروع الدولة الاجتماعية الذي يعتبر الامتداد الطبيعي لفكر الاتحاد منذ التأسيس. فالدولة الاجتماعية بالنسبة للاتحاد ليست شعارا سياسيا، بل عقدا وطنيا جديدا يقوم على العدالة، وتوزيع الثروة، وضمان المساواة في الحقوق والفرص، وربط التنمية بالكرامة الإنسانية. إن المؤتمر الثاني عشر، بما حمله من نقاشات عميقة ومواقف واضحة، يمثل منعطفا تاريخيا في مسيرة الحزب، حيث أظهر الاتحاد الاشتراكي أنه حزب حيّ، متجدد في فكره، منفتح على المجتمع، وفي الوقت ذاته متمسك بثوابته وهويته الاشتراكية الديمقراطية. لقد كان هذا المؤتمر من وحي التجديد والثقة والإصلاح، نقطة انطلاق جديدة نحو مغرب أكثر عدلا وإنصافا، وحزب أكثر قربا من المواطن وأكثر قدرة على صياغة السياسات العمومية بروح المسؤولية والالتزام الوطني. مرة أخرى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو يجدد ثقته في قيادته ويعيد صياغة مشروعه، يؤكد أنه لا يقاد إلا بإرادة أبنائه وبناته، وأنه سيظل كما كان دائما: ضمير الوطن وصوت الشعب وعنوان الأمل في زمن التحديات. (*) الكاتب الإقليمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالحسيمة