حركة المرور في العاصمة الرباط غير منسابة أمام البرلمان. ضجيج وازدحام في كل مكان وارتباك عارم تبدو معه مدونة غلاب في مهب الرياح، لأن لا أحد يحترم بنودها. بنك المغرب وجهه قاتم وعبوس، آثار الأزمة العالمية بادية عليه، ووقع الصدمة غير خاف على الناظر إليه، والبرلمان -العقل المدبر لشؤون الشعب- ليست لديه أية استراتيجية لمواجهة أعراض هذه الأزمة. إن أعضاءه منشغلون بالأسفار في كل اتجاهات المعمور، ما يهمهم هو صفقات الهدم والبناء والترميم. لا شيء داخل البرلمان يوحي بأنه مطبخ لصناعة القوانين، بل يبدو مجرد غرفتين لتسجيل الحضور، عفوا لتسجيل الغياب. الكل يعرف أن مصنع القوانين الحقيقي مفاتيحه بيد الأمانة العامة للحكومة. لقد عجز البرلمانيون عن تحويل قبة البرلمان إلى منبر دائم للدفاع عن مصالح المواطنين وصيانة حقوقهم. البرلمانيون المغاربة يشبهون إلى حد بعيد طيور أكتوبر.. إنهم يأتون مرة واحدة في السنة لزيارة القبة قبل أن يعودوا إلى أوكارهم في ما تبقى من أيام السنة. برلمانيون لا يستقرون في حزب واحد، وهذا حال الطيور التي تقفز من شجرة إلى أخرى ومن غصن إلى آخر، فرحا بشهر أكتوبر الممهد لربيع زاهر. واهم من يعتقد أن البرلمانيين لا يفرحون لموسم الربيع الذي تهتز فيه الأرض وتربو بما لذ وطاب من الصفقات والمشاريع. وكم يخطئ المعطلون، حاملو الشهادات العليا وما دونها، عندما يصطفون أمام البرلمان للمطالبة بالحق في الشغل. لا أفهم لماذا يقضي المعطلون النهار كله في الصراخ أمام برلمان لا يوجد فيه أي برلماني. كفى من تعذيب حناجركم وكفى من رفع الأصوات. أقترح عليكم أن تتظاهروا مرة واحدة في العام تزامنا مع زيارة البرلمانيين اليتيمة للبرلمان ليروكم جميعهم. نعم، أيها المعطلون، لا جدوى من الاحتجاج أمام البرلمان طيلة السنة.. هذه مضيعة للوقت. المفروض أن تعملوا شيئا آخر عندما يكون البرلمان غير آهل بسكانه. علقوا احتجاجكم لتكون له مصداقية. هذا أحسن من قضاء النهار كله في النفخ في قربة مثقوبة. البرلمانيون لهم فترتان فاصلتان في حياتهم البرلمانية، إن لم نقل إن لهم هجرتين طويلتين في مختلف مناطق وجهات البلاد القريبة والنائية، حيث توجد أوكارهم، عفوا الدوائر التي يحرصون على أن تظل تابعة لنفوذهم. الهجرة الأولى تبدأ مع انتهاء دورة أكتوبر، والثانية تبدأ بعد الانتهاء من دورة الربيع، فيما لا أحد يعرف أين يقضي البرلمانيون باقي أيامهم من السنة. المثير أكثر هو أن بعض الأمناء العامين للأحزاب لا يعرف عدد برلمانيي حزبه إلا مع دورة أكتوبر عندما تدفع التوقيعات إلى مكتبي البرلمان. أخطأت الدولة عندما لم تفهم لغة الطيور ومنطقها في الحركة. كان المطلوب من الدولة أن تشيد بساتين وحدائق فسيحة، وكان المطلوب منها أن تغرس مساحات كبيرة بالأشجار غير بعيد عن مقر البرلمان حتى تضمن بقاء الطيور تحت أنظارها تحت الشمس، أي تحت السيطرة والمراقبة بدل تركها تحلق في مناطق مظلمة. لماذا لا نقلد فرنسا التي اعتدنا أن نقلدها في كل شيء. مهم جدا أن نقلد بلد موليير، لأن هذا البلد فهم جيدا منطق طيوره، وإن كانت طيوره لا تشبه طيورنا. ولأن فرنسا فهمت لغة طيورها، فقد فاختارت لها قصر اللوكسمبورغ بمآثره التاريخية، وحديقته الشاسعة بمرافقها الرياضية والثقافية والترفيهية، مقرا لمجلس الشيوخ، كما اختارت قصر البوربون بنفائسه الحضارية ومنتزهاته الخلابة مقرا للجمعية الوطنية. الأحداث تتناسل والقضايا تتراكم والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تتفاقم في البلاد، وبرلماننا خارج التغطية. ملفات فساد كبيرة تحدثت عن بعضها تقارير المجلس الأعلى للحسابات، لكن لا علم للبرلمانيين بأي تقرير، بل هناك قضايا أخرى تتعلق بالإجرام والمخدرات وإضرابات النقل البري والجوي ومنكوبي الفيضانات وضحايا حوادث السير، لكن ممثلي الشعب لا يحركون للحكومة ساكنا. إنهم مشغولون بمعاركهم الصغيرة وبصراعاتهم الانتخابية، ولا شيء غير ذلك، أما مشاكل التنمية وإصلاح الإدارة والقضاء والتعليم فكلها ملفات تثير صداع الرأس. الكل أصبح مقتنعا اليوم بأن البرلمان بمجلسيه هو مجرد مركز وامتياز ودار أمان وتجارة مربحة رغم الكساد الذي يخنق البلاد طولا وعرضا. البرلمان هو أيضا بوابة نحو الامتيازات والمناصب والأسفار وكل الأشياء الغامضة، فلماذا لا نجرب حياة سياسية بدون برلمانيين؟