ما إن نزلت من الطائرة القادمة من واشنطن ووطئت قدمي مطار ميامي، حتى شعرت بروح جديدة مختلفة جعلتني أدرك أنني انتقلت من واشنطن دي سي العاصمة بسكانها ذوي الأحذية البراقة الممسوحة بعناية إلى فلوريدا.. "ولاية الشمس المشعة" وأكبر مدنها ميامي "عاصمة أمريكا اللاتينية" بكل ما للكلمة من معنى. الإسبانية في كل مكان من حولك. في المحلات الصغرى والكبرى، في الأسواق، الفنادق، المطاعم، سيارات الأجرة، الحافلات... تحس بأنك في دولة أخرى غير الولاياتالمتحدةالأمريكية، لولا ناطحات السحاب وبعض الكلمات الإنجليزية، التي تذكرك بأنك مازلت في أمريكا. الإسبانية هنا هي اللغة الأولى في المحطات الإذاعية والتلفزيونية والصحف، واللغة الأولى التي يتحدث بها معظم الناس في ميامي. هناك من يعيش في المدينة لأكثر من ثلاثين سنة دون أن يتقن كلمة واحدة باللغة الإنجليزية. خصوصية ميامي هذه أدهشتنا جميعا. كنا نعلم أن الإسبانية موجودة في ميامي لكننا لم نكن نعلم أنها متواجدة بهذه القوة إلى درجة هزيمة الإنجليزية، اللغة الرسمية للبلاد. يعتبر الأمريكيون من أصل لاتيني، والذين يطلق عليهم لقب "اللاتينوس" أو "الهيسبانيكس" أكبر أقلية في ولاية فلوريدا، وذلك وفقا لآخر البيانات الإحصائية التي قام بها مكتب التعداد الأمريكي. وقد زاد عددهم بنسبة 70.4 في المائة، حيث انتقلوا من 1.6 إلى 2.7 مليون لاتيني ما بين 1990 و2000، بمعدل نمو أكبر مرتين من معدل نمو الأمريكيين الأفارقة الذين يبلغ عددهم 2.3 مليون. كما أن المرشحين والسياسيين وقادة الأحزاب ووسائل الإعلام يتحدثون باستمرار عن الأمريكيين من أصل لاتيني ولمن سيصوتون وعن مدى أهمية تصويتهم، وهل من شأنه أن يغلب كفة جون ماكين الجمهوري أو باراك أوباما الديمقراطي في انتخابات نونبر في البيت الأبيض. في ميامي، يعتبر الأمريكيون من أصل كوبي الجالية اللاتينية الأولى في المدينة، حيث بدؤوا يهاجرون إلى ميامي التي لا تبعد إلا ب320 كيلومترا عن كوبا، منذ تولي فيديل كاسترو زمام الحكم في هذه الأخيرة سنة 1959، حيث يحصل الكوبي، ما إن تطأ قدمه التراب الأمريكي ويقدم نفسه لأول شرطي يصادفه عند الشاطئ، على اللجوء السياسي. خصوصية ميامي هذه خلقت لها مؤيدين ومعارضين. منهم من يرى أنها وضعية طبيعية بسبب العدد المتزايد للهيسبانيكس في البلاد، وأنه دليل نجاح التعايش، ومنهم من يرى أن هناك "خطرا لاتينيا" يلقي بظلاله على البلاد كلها، وأن ميامي تحولت إلى كوبا، ويتساءل ما إذا كان "على آخر الأمريكيين الذين يتركون ميامي أن يحضر معه العلم الوطني". هلين أغيرا فري، صحفية بجريدة دياريو دي لاس أميريكاس (يومية الأمريكيتين) الناطقة باللغة الإسبانية التي تملكها عائلتها القادمة من نيكاراغوا، لا ترى ما يقلق من الانتشار الكبير للغة الإسبانية، حيث قالت في حديث ل"المساء": "ما الذي يمنع من أن تكون الولاياتالمتحدةالأمريكية متعددة اللغات. أعتقد أنه كلما كان عدد اللغات التي نتعلمها أكثر، إلا وأصبحنا أغنياء ثقافيا ومنفتحين أكثر على الآخرين". وأكدت فري على أن أمريكا هي عبارة عن "سلطة كبيرة واحدة، لكنها في الوقت ذاته، تحتوي على مكونات مختلفة. ليست اللغة التي أتحدث بها هي التي تجعل مني أمريكية". وعن انعكاسات جو إسباني مائة في المائة على اقتصاد البلاد، سألنا ماركو روبيو، المتحدث باسم مجلس نواب ولاية فلوريدا، الذي قدم والداه للعيش في ميامي في خمسينات القرن الماضي من كوبا، فأجاب بابتسامة: "هذا بلد يزوره الناس للسياحة وللأعمال التجارية. ونحن نحاول أن نروج لهم أن ميامي هي عاصمة أمريكا اللاتينية، وأنه باستطاعتهم القيام بأعمالهم المصرفية والاستثمار والعمل هنا. لذلك فعليك أن تجعل من السهل عليهم التعامل بلغتهم الأصلية. فالإسبانية هي السبب الذي يجعل الناس تحب القيام بأعمالها في ميامي، حيث بإمكانهم التحدث بدون أي مشكل مع المصرفيين، والنادلين في المطاعم، والمحامين والأطباء والمهندسين وأي كان." أما صامويل هنتغتون، الأستاذ المتخصص في الدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد وصاحب نظرية "صدام الحضارات"، فيرى في مقاله الجديد الذي جاء تحت عنوان: "التهديد اللاتيني"، أن الوضعية في ميامي لا تتعدى كونها "وهم الأمة المتماسكة". وأكد هنتغتون أن الإسبانية أخذت تنضم إلى لغة واشنطن وجيفرسون ولنكولن وروزفلت وكنيدي، باعتبارها لغة الولاياتالمتحدة، "وإذا ما تواصل هذا الاتجاه فإن الانقسام الثقافي بين اللاتينيين والإنجلونيين يمكن أن يحل محل الانقسام العرقي بين البيض والسود". فيما تقول هلين أغيرا فري إن "القيم وليست اللغة هي التي تجعلنا أمريكيين، فيمكنني أن أتحدث الإنجليزية في أي مكان آخر وألا أكون أمريكية".