من المضحكات /المبكيات أن نجد في القرن الواحد والعشرين رجلا يصف نفسه بالعقيد والقائد والزعيم والأخ والثوري. رجل لكل الأزمان، ذو بريق لامع يحمل كل صفات العظمة والجلال والإكبار، رجل، والرجال قليل. يعرف كل شيء، يتكلم عن كل شيء، قبل أو بعد أن يتحدث، رجل وصف نفسه بالصخرة الصماء، بل هو جلمود صخر حطّه السيل من علِ وأوقعه، للأسف، حيا على رقعة أرض كان يمكن أن تكون ألف مرة أحسن مما عليه الآن. لقد حول القذافي ليبيا وليبييها إلى أناس يهتفون باسمه ويلوحون بالأعلام الخضراء فرحا وابتهاجا به وبطلعته البهية وسحنته ذات الجمال الأخاذ... لا أحد يتكلم إلا القذافي، لا أحد يملك الجرأة في أخذ زمام المبادرة إلا هو أو أبناؤه، لا كتب في ليبيا إلا كتابه الأخضر المقدس، الذي تحتوي معظم بنوده على عقوبة الإعدام، إذا تنفست أو تكلمت أو تقلصت أسارير وجهك غضبا أو حنقا، فعقوبتك الإعدام. لقد حول كل شيء في ليبيا إلى اللون الأخضر، بدءا من الكتاب الأخضر والأعلام والمقاعد الخضراء والزحف الأخضر والوجوه الليبية الخضراء، بعد أن ظلت لمدة طويلة صفراء فاقعا لونها، فتحولت إلى خضراء، نزولا عند رغبة القذافي... المهم أن هذه الخضرة الجميلة في ليبيا، عدا الأرض طبعا، حولها القذافي إلى دم أحمرَ قان، إنه دم الليبيين الثوار الذين فاض بهم الغيظ وثاروا في وجهه ورموه بأحذيتهم البالية إبان إلقائه خطابَه الطويل، كعادته، شاتما، سابا شعبه، مذكّرا إياهم بالحسنات والهبات التي منّ بها عليهم. لقد ذكّرهم بأنه قائد ثورة، ولولا ذلك، لاستقال ورمى باستقالته في وجوههم. المسكين لا يملك أمر الاستقالة، فلا يجوز أن نظلم الرجل، «فهو مكلف بأمر إلهي لا يملك فيه أمر نفسه»، ما يملكه هو فقط إعطاء الأوامر للمرتزقة في الأرض والسماء، لكي يسحقوا الشعب الليبي الأعزل. الأخ الزعيم، الذي قال إنه لا يملك مالا ولا قصورا، متبجحا أمام كاميرات التلفزيون، عكس ما بيّنته التقارير عن كونه من أغنى أغنياء الزعماء العرب، حيث تقدر ثروته بمائة وثلاثين مليار دولار، موزعة كلها في البنوك الدولية. هذا المبلغ «الزهيد» الذي يملكه الرجل يساوي ستة أضعاف ميزانية ليبيا لعامنا هذا، كما أن المبلغ نفسه يمكن أن يسد احتياجات العالم العربي كله لمدة ثلاث أو أربع سنوات. تصوروا: القذافي يملك 130 مليار دولار وثروة مبارك تتراوح ما بين 70 و100 مليار دولار، أما بنعلي فقد أخذت زوجته حوالي 5.1 أطنان من الذهب عند مغادرتها البلاد، في حين أن ثروته النقدية تقدر بالمليارات. ولكم أن تتجولوا في خريطة العالم العربي وتعدوا عدد الزعماء العرب الرؤساء /الملوك أو الملوك /الرؤساء وتنظروا إلى هذه الثروة الهائلة التي يتوفر عليها هذا العالم العربي الفقير، الذي تقف شعوبه في الطوابير كي تحصل على رغيف العيش، مهانة في إنسانيتها، فاقدة عزتها وكرامتها. كثرة الظلم والجور هذه وطغيان الجبروت والاستبداد هي الصفات التي «ميّزت» الزعماء العرب وتفانوا فيها بصدق وإخلاص حد المهارة والتفنن في إهانة شعوبهم وتمريغ كرامتهم في التراب والوحل، ما أدى إلى انفجار الوضع، حيث بزغ فجر الثورات في العالم العربي، ثورات تميزت بروح حضارية، بل إنها اعتُبِرت أكثر حضارة من نظيرتها الأوربية، لأن الشباب الذين قادوها لم يكونوا مؤطَّرين أو لديهم قيادة ينضوون تحتها، إنهم شباب رفعوا شعار اللاءات في وجه الأنظمة الاستبدادية الفاسدة وقرروا تغييرها وإسقاطها بعزيمة وإصرار. لقد عانت الشعوب العربية من ظلم الخارج والداخل، عانت الويلات إبان فترة الاستعمار، فقاومت وحاربت واستشهدت حتى حصلت على الاستقلال، وعندما أرادت أن تعيش مرفوعة الرأس وأن يتم تشريفها، لِما قدمته من تضحيات، كتمت الأنظمة أنفاسها، من جديد، واستعبدتها، إنه استعمار جديد، استعمار ذوي القربى، وهو أشدُّ مرارة وأفظع. إن ما يقع حاليا من ثورات هو ثمرة حصاد بذور الظلم والحيف والقهر والمعاناة التي زرعها الزعماء العرب في شعوبهم، ظنا منهم أن أزمانهم وأنظمتهم الفاشية النازية سرمدية وأن تِلكُم الشعوب، المجبولة على الصبر، لن تفتح فاها لتقول: كفانا ظلما وذلا وهوانا... المثير في الأمر أن هؤلاء الرؤساء المطاح بهم لم يأخذ أحدهم العبرة من الآخر، فإذا كان بنعلي قد فر هاربا خارج البلاد، بعد أن قتل مائة أو أكثر من التونسيين، لكي «يستقيم» حكمه و»يخلُد»، فإن مبارك قتل أكثر من مائتين، عندما انتقلت الثورة إلى بلده، اعتقادا منه أن «الإسراف في القتل» سيضمن له الاستمرارية، ومع ذلك سقط، أما «زعيم القذاذفة» فقد تجاوز قتلاه الألفين، واللائحة ما زالت مفتوحة لمزيد من الشهداء. إن هؤلاء الزعماء مطبوعون على منطق القوة والعنف، لزعمهم أن كثرة استعمالهما ستؤدي إلى بقائهم ملتصقين بكراسيهم الوثيرة، جهلا منهم أن كثرة العنف ستزيد من إصرار الثوار ومن عزيمتهم على التغيير، بل الأمر الأكثر غرابة أن هؤلاء الرؤساء، بعد كل سنوات الشموخ و»الصولة والصولجان»، يرضَون بلقب الرئيس المخلوع عوض الرئيس السابق. لا أدري لماذا يوثرون كلمة «المخلوع» على كلمة «السابق»، علما أن هذه الأخيرة لها وقع طيب على الأسماع، أما المخلوع فإنها تعني خلع الشخص رغم أنفه وأنه لم يستقل بمحض إرادته، لكنْ، وكما يبدو، فإن الرؤساء يفكرون بمنطق مغاير لمنطق العقلاء. وأخيرا وليس آخرا، نقول: عاش الثوار وعاشت الثورة ودامت الشعوب الأبية في كنف الحرية والتغيير...