كثر، مؤخرا، في المغرب الجدل حول «اللهجات»، حيث يعتبرها البعض منافسا قويا يهدد وجود اللغة العربية، بينما يقف المدافعون في الجانب المعاكس، مدافعين على حق هذه «اللهجات» في الوجود والتداول وغير مقتنعين بالرأي السابق، فما هذا الادّعاء سوى ظلم في حقها، فهي وسيلة الناس في التواصل اليومي والتعبير عن مشاعرهم وما يجيش في أعماقهم، تربَّوا معها منذ الكلمة الأولى، فأصبحت دمهم الذي يجري في عروقهم، ومن جهة أخرى، فإن رأيا آخر يذهب إلى القول بضرورة اعتمادها في التعليم لسهولة تواصل المتعلمين بها وفهم بعضهم البعض. ولكون كل الناطقين باللغة العربية لا يعتمدونها إلا في ما يكتبون فإن السؤال تبقى له مشروعيته. فهل نحارب هذه اللهجات ونهمشها؟ أم أننا مدعوون إلى الاهتمام بها والحفاظ عليها عبر مجموعة من الإجراءات العلمية أم الأمور ستبقى متروكة للزمن والقدر وتركها تواجه مصيرها وحدها؟ وهل فعلا وجود اللهجات هو مصدر قوة أم ضعف عند شعب من الشعوب؟ تلك أسئلة وأخرى تتبادر إلى ذهن كل مغربي مختص وغير مختص، وهو يتأمل هذا «التنوع اللغوي»، الذي كثر فيه اللغط بين مشارب عدة بدوافع علمية تربوية وأخرى بخلفيات سياسية. في هذا الصدد، يقول الدكتور محمد حجو، أستاذ السيميائيات وتحليل الخطاب في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس الرباط، أن «تعدد اللهجات لا يمكن إلا أن يكون نقطة قوة في بلادنا، ذلك أن تنوع النسيج الثقافي، الذي يستتبع هذا التعدد اللساني يعد ثراء في الهوية المغربية، ذات الجذور متفرعة الروافد، لِما لهذا التعدد والتنوع من تأثير على «الملامح الشخصية»، المكونة للنموذج الحضاري المغربي». أما عن مدى تهديد هذا «التنوع اللغوي» للعربية، فيقول حجو: «لا يهدد هذا التعدد، بأي شكل من الأشكال، اللغة العربية، بل يمكنه أن يكون وسيلة مثلى لإغنائها وتطويرها، ولا يحتاج الأمر إلا إلى قدر معقول من الجرأة السياسية وروح المبادرة الخلاقة، التي تصب في اتجاه ما يسمى الوحدة في إطار التنوع، وليس في زرع روح الفتنة والأحقاد والنعرات، بشتى تلاوينها». وعلى ذلك، يرى حجو أنه «من البديهي أن نسعى إلى الحفاظ على كل المكونات اللسانية المغربية، وهو أمر طبيعي لا يمكن الجدال حوله. فالجدال هو حول الوسائل والحكمة في التصرف كي لا نخطئ الطريق». ومن جهته يرى الكاتب والقاص المعروف أحمد بوزفور أن تعدد اللهجات ليس فيه إلا إغناء ورافعة للحياة الثقافية ويقول، في تصريح سابق: «أعتقد أن تعدد اللهجات، ومعه وخلفه تعدد الإثنيات والثقافات، فيه إثراء وإخصاب للهوية وللحرية ولاحترام الآخر وللروح الديمقراطية، وبالطبع، للغة الثقافية، الرسمية أيضا». وفي هذا الإطار، يشير صاحب «ديوان السندباد» إلى ما كانت عليه اللغة العربية في بداية القرن وما قطعته من أشواط في التطور بواسطة من اللهجات، فيقول: «يكفي أن ننظر إلى استعمالات اللغة العربية في أوائل القرن العشرين وإلى تعبيراتها في أواخره، لنرى التطور الكبير الذي قطعته نحو المزيد من البساطة والموضوعية والدقة والحيوية والصدق، وكل ذلك استفادته العربية من لغات الشارع ومن الثقافة الشعبية وتعبيراتها المختلفة». وعن مدى حاجتنا إلى خلق مؤسسات للحفاظ على اللهجات أو حتى اللغة العربية، يقول القاص أحمد بوزفور: «أعتقد أن التفكير في أجهزة أو مؤسسات للحفاظ على اللغة العربية أو على اللهجات عبث محض»، ويرى أن قوة اللغات واللهجات هو في قدرتها على الصراع داخل المجتمع: «اللغات، مثل أنواع داروين، ينقرض ما هو ضعيف ويستحق الانقراض ويبقى الأصلح، أي الأقوى على الصراع داخل المجتمع». وتبعا لذلك، يرى بوزفور أن ما يجب الاهتمام به هو الحياة الاجتماعية: «لنهتم بالأهم: بحياتنا الاجتماعية، بترشيد سياستنا نحو المزيد من الديمقراطية والمحاسبة وتحسين مستوى العيش. وستتطور تعبيراتنا اللغوية تلقائيا حين يرتفع مستوانا الاجتماعي. إن تدهور لغاتنا ليس إلا تعبيرا ثقافيا ورمزيا عن تدهور مستوى حياتنا. كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟»... ويرى بعيسى يشو، الباحث في المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، أن النقاش حول «مسألتي تلاقح الثقافات وتهيئة اللغات من التيمات التي استأثرت بأكبر قدر من النقاش في الآونة الأخيرة، ويضيف أنه «غالبا ما يكون هذا النقاش مُوجَّها تحت ضغط عدة عوامل ومسنودا بخلفيات متنوعة، ولا يحتكم إلى تحليل علمي رزين يمتح من خلفية نظرية معرفية واضحة ولا يوظف أدوات علمية مشهوداً لها بالصلاحية والثبات والموثوقية». ومن هنا، فإن ما يعرفه المغرب من حراك في هذا المجال ليس استثناء. يقول يشو: «لا يشكل المغرب استثناء، فوجود «اللهجات» في المغرب هو أمر واقعي لا يمكن لأي أن ينكره، وهو كذلك معطى سوسيو لساني لا يمكن فهمه إلا ضمن سياقات محددة. وعليه، فالجواب عن القيمة المضافة لهذه اللهجات وعن علاقتها بتقوية أو إضعاف اللغات الرسمية لن يكون مقنعا ما لم يستند إلى معطيات علمية مستمدة من البحوث الميدانية، التي تعتمد التقنيات والنظريات الحديثة». ويختم قائلا إن «هذا الواقع، الذي لا يرتفع، لن يكون إلا رافدا أساسيا سيساهم، لا محالة، في إثراء المشهد الثقافي المغربي عموما، شريطة أن يتم استثماره بشكل علمي ووفق أهداف وغايات محددة».