مسطرة البيعة لم يكن النص النهائي لبيعة فاس نصا عاديا، فقد جاء مخالفا في صيغته المفصلة، لنصوص البيعات التاريخية التي تنص على المبادئ العامة المتضمنة «لحفظ الدين وحماية بيضة المسلمين وإجراء الأحكام على قواعد الشرع» دون الدخول في التفاصيل، وغالبا ما كانت صيغ البيعة تتوسع في مفهوم الطاعة الملزمة للمبايعين. ويذكر عبد الرحمن بن زيدان أن البيعة هي «عقد يتضمن التزام السلطان الجديد يمضيه من بيده الحل والعقد ولهم كلمة مسموعة في الأمة، من وزراء وعمال وقضاة وأمناء وشرفاء وعلماء وقواد الأجناد ورؤساء الحرف». وقد كانت مهمة علماء فاس مزدوجة، أولا: خلع عبد العزيز وإقناع العامة بذلك، ثم مبايعة عبد الحفيظ وفق شروط يرونها هي الكفيلة بالخروج من الأزمة. لذلك سلكوا مسطرة متدرجة تطلبت منهم تحرير خمس وثائق قبل النص السادس والنهائي للبيعة المشروطة: الوثيقة الأولى تضمنت سؤالا موجها إلى العلماء حول جواز خلع السلطان مولاي عبد العزيز بعد أن اختلت في عهده الأحكام كإبدال الزكاة «بالترتيب» وإحداث البنك المؤدي إلى الربا، واقتراض الأموال من الأجانب، وسلب السلاح من المسلمين ومنعهم من قتال جيش الاحتلال المرابط بالدار البيضاء. ولم تتضمن الوثيقة الجواب عن السؤال، وفضل العلماء موقف التريث لإنضاج الرأي العام. الوثيقة الثانية: ملحقة بالأولى، نصت على انتخاب سكان مدينة فاس نوابا عنهم للتوقيع على السؤال الموجه إلى العلماء في موضوع جواز الخلع، وتصريحهم بذلك أمام العدول، وذلك للدلالة على أن موضوع الخلع طرح من قبل عامة الناس ولم يكن «بتحريض» من العلماء. الوثيقة الثالثة: يشهد فيها أعيان فاس وشرفاؤها ورماتها ورؤساؤها وتجارها بأن الأمير مولاي عبد العزيز صدرت عنه أمور منكرة شرعا وطبعا، كموالاة الأجانب وتبذير المال، وإحداث البنك (...)، وتمكين بعض الأجانب من بلاد المسلمين... وفي مقدمة الوثيقة دلالة واضحة على أن مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية مستاءة من نهج السلطان، وهذا سيمهد الطريق أمام العلماء الذين سيقومون ب«التعبير عن الإرادة العامة فقط». الوثيقة الرابعة: وهي التي تضمنت جواب العلماء عن سؤال الجماعة، استنادا إلى الحجج التي تقدم بها الشهود، ونصت على وجوب الخلع (وليس فقط على جوازه كما طلب من العلماء). وقد وقع هذا الجواب ثمانية عشر من أعلام علماء فاس على رأسهم محمد العراقي ومحمد بن عبد الكبير الكتاني وأحمد بن المواز. الوثيقة الخامسة: وهي وثيقة الخلع، التي تضمنت الإعلان عن ذلك من طرف العامة والخاصة، سواء منهم الأعيان الذين تقدموا بالسؤال، أو العلماء الذين أفتوا بوجوب الخلع إضافة إلى الفقهاء والشرفاء والتجار وغيرهم. الوثيقة السادسة: وهي تكتسي أهمية خاصة بحيث تضمنت بيعة أهل فاس للمولى عبد الحفيظ، وهي صادرة عن «جميع أهل فاس الإدريسية (...) وسائر أشرافهم ورماتهم وعلمائهم وقضاتهم وكبرائهم ونقبائهم ومرابطيهم وصلحائهم وأعيانهم وخاصتهم وعامتهم، وكذلك أهل فاس الجديد»، وقد تمت يوم فاتح ذي الحجة 1325 ه/5يناير 1908م. وهي بيعة لها أهمية خاصة لأنها تحمل توقيع علماء فاس، ومعلوم أن «عقد البيعة كان يكتب بفاس أولا في غالب الأحيان، وإذا بويع الملك الجديد في غيرها (كما حصل مع عبد الحفيظ بمراكش) فلا تعتبر بيعته تامة وسلطنته شرعية إلا بعد اعتراف فاس به». كما أنها تكتسي أهمية استثنائية بالنظر إلى الشروط التي تضمنتها، والتي لم يرتح لها السلطان عبد الحفيظ وأغاظته كثيرا.