لا يعرف، بالتحديد، عدد المغاربة المصابين بمرض «رهاب الحمرة» أو «الاحمرار المفرط». هذا الداء نادر، وهو مرض عضوي وليس نفسيا، كما يشاع. لكن التقديرات تتحدث عن مئات الآلاف من المرضى برهاب الحمرة في المغرب، وإن كان خالد إحرشين، وهو شاب مهتم بهذا المرض، تحدث في تصريحات أدلى بها ل«المساء» عن نحو مليون مريض برهاب الحمرة على الصعيد الوطني.. لا يستطيع المصابون بهذا المرض، حسب إحرشين، وهو شاب مغربي أوحت إليه دراسته علمَ النفس بفكرة إنشاء موقع إلكتروني خاص بهذا المرض ومنتدى مُوازٍ يشكل فضاء يجمع مرضاه على طاولة النقاش الافتراضي (لا يستطيعون) الصمود أمام أقل المواقف صعوبة. لا يتحملون نظرات الآخرين إليهم، حتى لو لم يكونوا هم المعنيون بتلك النظرات، أصلا.. ما يزال هذا المرض ضربا من الطابوهات، قلما يُتحدَّث عنه، بل إن المرضى به أنفسهم لا يستطيعون الحديث عن حالاتهم أمام الملأ. وقال إحرشين، في تصريحات أدلى بها إلى «المساء»، إن «المصابين بهذا المرض يعيشون في عزلة قاسية ولا يستطيعون مواجهة الآخرين، ولذلك «فهم لا يظهرون أنفسهم» ولا يتحدثون، بالتالي، عن معاناتهم. وعلى هذا الأساس، شكّل ذلك الموقع الإلكتروني فسحة افتراضية تغلّبَ فيها كثير من هؤلاء المرضى على «رهاب الحمرة»، واستطاع كثير منهم قص شريط حياتهم وسنوات من المعاناة من الاحمرار المفرط لوجوههم في مواقف لا تستحق أن يرتبكوا فيها أو تظهر عليهم علامات عدم ارتياح. المصابون بهذا المرض انطوائيون، بالضرورة، استنادا إلى إحرشين، الذي تمكّنَ من التواصل مع كثير منهم في المغرب. لكنْ يبدو أنه كان لفكرة منتدى خاص بهذا المرض وضع السحر على فئة من هؤلاء المرضى، حيث لم يتردد كثيرون منهم في سرد قصة معاناتهم مع رهاب الحمرة. أكثر من ذلك، ثمة منهم مَن بادروا إلى مطالبة رفاقهم في المعاناة بطي صفحة الانغلاق على الذات وتجريب الانفتاح على العالم وتتبع آخر أخبار مجهودات البحث العلمي، الرامية إلى القضاء على هذا الداء. وقد شكّلَ هذا المنتدى، الذي لم يعد نشطا لأسباب تقنية، كذلك مجالا تبادل فيه المرضى تجارب نضالهم المرير ضد رهاب الحمرة. استحضر أحد المرضى، بحرقة بالغة، كيف اضطر، بسبب رهاب الحمرة، إلى وضع حد لمسيرته الدراسية في محطة السنة الأولى من الباكلوريا، رغم أنه حصل في سنة انقطاعه على نقط جيدة. ورغم أن هذا المريض، الذي قدمه نفسه بصفته «محمد من المغرب»، دون ذكر معلومات إضافية، لاذ بالمنزل من أجل التخلص من تأثيرات رهاب الحمرة على سلوكه الاجتماعي، فإن جدران بيت أسرته لم تستطع حمايته من هذا المرض، إذ لم يكن يستطيع القيام بأدنى شيء داخل أسوار البيت. وكثيرا ما يهرول للانزواء في غرفته، بمجرد سماعه نقرات طرق على الباب.. ففي لحظات، ينقلب لون وجهه إلى أحمرَ قاتمٍ وتتبلل ملابسه من فرط تعرقه!.. وإذا كانت سطوة مرض رهاب الحمرة على بعض المرضى لا تتجاوز «الخجل» أمام الغرباء، في تجسيد واضح لمقولة «الجحيم هو الآخر»، فإن وجه محمد، الذي يقول إن معاناته مع هذا المرض بدأت قبل أزيد من 10 سنوات، كان يحمرّ وجسده يتصبب عرقا حتى أمام أفراد من عائلته. ولا تقل حالته سوءاً عن مريض آخر قال إن رهاب الحمرة يتملكه بمجرد مناداته أمه أو أبيه أو حتى إخوته عليه.. وهكذا، اضطر محمد إلى «قطع صلة الرحم».. وقد كتب عن معاناته في المنتدى ذات عيد أجبره فيه رهاب الحمرة على التزام البيت، في الوقت الذي كان والداه وإخوته يقومان بزيارة خاصة إلى جدته من أجل تهنئتها بالعيد.. مريض مغربي آخر حكى كيف كان، في بدايات إصابته بالمرض، يرفض التقاط صور، مخافة أن يظهر وجهه «مُشوَّهاً» في الصور حين يعلو وجهَه احمرار ويتصبب جبينه عرقا.. وقال: «شخصيا، كنت، في بدايات المرض، أمتنع عن أخد الصور، مخافة أن يحمرّ وجهي»، غير أنه تنفّسَ الصعداء لأنه بات بالإمكان التقاط صور له عن طريق تقنية «الفيديو»، شريطة ألا يتم ذلك أمام «جمهرة من الناس أو الغرباء»، على حد تعبيره.. ويحكي مريض آخر من المغرب، لم يحدد في أي مدينة يقطن، عن «الإعاقة الكبرى» الذي يشكلها له رهاب الحمرة. وألقى هذا المريض باللائمة على الاحمرار المفرط في كل المآسي التي عاشها. وقال: «تكمن مشكلتي في الاحمرار المفرط عند التحدث مع الناس، مما يسبب لي كثيراً من الإحراج والحزن الشديد والكآبة ليس لها نظير»، وتزداد معاناة هذا المريض لكونه ليس انطوائيا، كما وصف نفسه، وإنما يبدو لكل معارفه شخصا اجتماعيا يحب الاحتكاك بالناس ولا يخشى التجمعات. وثمة حالة أخرى لمريض تمكّنَ من الصمود في وجه رهاب الحمرة،واستطاع أن ينال شهادة الباكلوريا ويلج الكلية، غير أنه لم يقْوَ على الاستمرار، لأن المرض كان يمنعه من الحديث أمام زملائه في المدرجات وكان يحول بينه وبين تكوين صداقات. وتحدث خالد إحرشين، كذلك، عن حالات أكثر خطورة. عن معاناة تلاميذ كانوا لا يتقبّلون نظرات زملائهم إليهم، وأي نظرة من معلميهم وأساتذتهم تصيبهم برهاب الحمرة وتجعل أجسامهم تتصبب عرقا أمام نظرات أعين، ساخرة أحيانا، ومشفقة أحيانا أخرى، من قبل زملائهم في الفصل الدراسي. وتحول اعتبارات اجتماعية دون مواجهة هذا المرض، إذ قلما يعي المصابون به أنه مرض عضوي وليس نفسيا، عكس ما يتم تداوله شعبيا. ولم يتقو الوعي بهذا المرض، «العضوي الصرف»، إلا في السنوات الأخيرة. وأكد خالد إحرشين، في التصريحات التي أدلى إلى «المساء»، أن «القضاء على هذا المرض يتطلب تدخلا جراحيا»، بخلاف ما يلجأ إليه بعض المرضى من تناول بعض المهدّئات والمُسكّنات، التي لا يمكن أن تكون فعالة في القضاء على هذا المرض النادر. ويكون للمهدئات والمسكنات تأثير على أمزجة المرضى ويبدد بعضها جزءا من المخاوف التي تراودهم أثناء الحديث إلى الآخرين أو أثناء التواجد وسط حشد من الناس، لكنها لا تستأصل الداء من جذوره. وتبقى العملية الجراحية الحلَّ الوحيد للقضاء على هذا المرض، إلا أنها غير متاحة في المغرب. وحصل أغلبية المغاربة الذين أقدموا على إجراء هذه العملية على معلومات عنها من مصر، وأجراها كثيرون منهم في الديار الفرنسية. ويقوم الطبيب الجراح أثناء العملية بقطع العصب المسؤول عن تدفق الدم بغزارة إلى الوجه، ويدعى هذا العصب «السمبتاوي». تكلل 90 في العمليات بالنجاح ويعيش المرضى بعدها حياة طبيعية بدون رهاب الحمرة. لكنْ ثمة عوائق، مادية بالأساس، تحول دون إجراء المغاربة المصابين بهذا المرض العملية الجراحية، لأن مصاريفها لا تقل عن 4 آلاف و500 دولار، إضافة إلى ما تفرضه من تحمل مشاق السفر إلى مصر أو فرنسا.